بين ثمانينيات ومطلع تسعينيات القرن الماضي تقريبا. لم تكن قد تأصلت لدينا بعد البرامج التفاعلية المباشرة بشكل واضح. ويبذل فريق أي برنامج بأضلاعه الثلاثة (المعد والمقدم والمخرج) جهدهم في البرامج للخروج بمنتج إذاعي أنيق ومفيد، وكأنهم يصوغون حلية يجب أن تكون قيّمة مظهرا وجوهرا، وبأجهزة تعد اليوم بدائية.. (بلدي عُمان)، واحد من البرامج الإذاعية المسجلة التي أعتز بتقديمها مع الزملاء في بدايات عملي.
حتى ذلك الوقت ما زالت الكثير من الشوارع ترابية، والمسفلت منها ليس مزدوجا، والأغلب يصل إلى مراكز الولايات فقط. الفنادق حد الندرة. فنزوى مثلا، لا يوجد بها سوى فندق نزوى، الذي أصبح لاحقا فندق فلج دارس بعد إنشاء فندق نزوى على أطراف المدينة.. الهواتف أرضية فقط. المستشفيات قليلة صغيرة متواضعة. ومع ذلك تعد تلك المنجزات التي نراها اليوم متواضعة شيئا عظيما في وقتها، لأنها أنشئت من الصفر تقريبا، ويقاس على ذلك معظم مظاهر الحياة العصرية.
الجولة أشبه بقافلة صغيرة من سيارتين أو ثلاث، وأكثر الأشياء التي تشغل حيزا داخل السيارة هي حقائبنا وحاجياتنا الشخصية، فعدة العمل الإذاعي قليلة نسبيا، مقارنة بالتلفزيون.. أحاول تذكر بعض التفاصيل من إحدى هذه الرحلات التي استغرقت واحدا وعشرين يوما، وقد تختلط الذاكرة مع تفاصيل رحلات أخرى.. الهدف من الجولة ليس برنامج بلدي عمان فحسب، وإنما تسجيل عدد من البرامج. فأنا والزميل الراحل (عبدالله بن سليمان الزدجالي) لتسجيل برنامج بلدي عُمان، وبرنامج مسابقة ثقافية بين الأندية. بينما صبري يس يسجل برنامجه الصحي (حول الأسرّة البيضاء) الذي يتنقل داخل أروقة وعنابر المستشفيات ملتقيا بالأطقم الطبية والمرضى المنومين والمراجعين، بالإضافة إلى مشاركته في (بلدي عُمان)، والمعلّق الرياضي سالم بن سيف العادي (أبو نجيب) يزور الأندية لتسجيل برنامجه الرياضي، وعيد بن حارب المشيفري يسجل برنامج (مجالس الشعراء) ويمرر من خلاله أنواع ومدارس الشعر الشعبي وفنونه وبعض العادات والتقاليد العمانية، أما مهندس الصوت أو المخرج لهذه الأعمال فغالبا هو سليمان الغافري، أو سالم الإسماعيلي، وقد ينضم مسلم الشكيري أو غيره، بالإضافة إلى سائق أو اثنين حسب عدد السيارات، اثنتين أو ثلاث، فالسيارة التي يكون فيها سليمان حتما هو سائقها لرفضه أن يقود أحد غيره وهو جالس، وكنت أنا أيضا كثيرا ما أصرّ على القيادة وأطلب من السائق أن يجلس مكاني لشعوري بالدوخة إن لم أكن أنا السائق. سليمان خبير بالقرى والولايات، ولديه دائما الحلول اللوجستية التي قد نحتاجها. أما قائد المجموعة فهو المخرج الإذاعي (خليفة بن صالح الطائي).
نبدأ بعض التنسيقات مع الذين سوف نجري معهم اللقاءات، قبل السفر من مسقط، أو نطلب من مكتب الوالي التنسيق مع بعض المستهدَفين، لمعرفتهم الأقرب بمجتمعاتهم المحلية، كما قد نسعى بعلاقاتنا للحصول على ضيافة حكومية، فقد كانت للكثير من المؤسسات الحكومية ضيافات في الولايات، خاصة مع قلة الفنادق.. علاوة السفر، عبارة عن خمسة ريالات لكل ليلة للولايات التي تبعد عن مسقط 150 كم فأكثر، أما مسندم وظفار فعلاوتهما 15 ريالا. وربما سيكون ثمن الضيافة إجراء مقابلة حتى من باب المجاملة، مع من وفر لنا الضيافة. المبيت في ولاية تقل عن هذه المسافة يحرمنا من العلاوة. كما لم نكن نحصل على أجر مقابل البرامج، بزعم أن ذلك من صميم مهامنا الوظيفية، رغم أن هناك لائحة أجور تجيز للمذيع مثلا أن يأخذ أجر الإعداد، ولكن كان هناك توجه غريب من بعض المسؤولين في إخفاء هذا الحق عنا. احتجنا وقتا طويلا حتى عرفنا أن لنا حقوقا صريحة وقانونية كهذه.
نقضي معظم النهار متجولين. ففي فترة الدوام الرسمي نسجل في الدوائر والمؤسسات الرسمية، وفترة العصر لقاءات، نقتنصها بتسكع مهني، إما بين المزارع أو الأسواق، أو في البادية أو الجبل، وإذا كانت الولاية ساحلية سنتوجه إلى شواطئها ونلتقي بصيادين قادمين من رحلة صيد، وقد نركب معهم حتى في جولة رمزية، أو نجدهم في استراحتهم الشاطئية يلعبون الحواليس أو الكيرم أو الورقة وغيرها، وهكذا. البرنامج عموما يهدف إلى نقل نبض وإيقاع وتفاصيل الحياة اليومية، وثناء المواطنين للحكومة على ما تقدمه من خدمات ونهضة تتوسع في كل الاتجاهات.. وعندما يحل المساء، بعد العِشاء والعَشاء يكون عيد بن حارب المشيفري قد اتفق مع عدد من الشعراء الذين سيحضرون إلى السكن الذي نقيم فيه، ويكون مهندس الصوت أو المخرج قد جهز آلة التسجيل من نوع (ناجرا) وأخرج منها ميكروفونين، واحد للمذيع والآخر سيلف على المشاركين، حيث يجلس المذيع في الصدر وعلى جانبيه الشعراء ليسجل ما تيسر من حلقات لبرنامجه. جلستهم أرضية، أما أنا فأختار واحدة من الأرائك الجانبية، أتمدد فيها وأسترق السمع، لأتذوق وأستفيد وأتعرف على بعض فنون الشعر الشعبي ولو بشكل متواضع.. بعض أولئك الشعراء أصبحوا لاحقا مذيعين لهذا النوع من البرامج.
كانت المرة الأولى التي زرت فيها قرية كمزار الساحلية، المختبئة خلف خليج صغير خاص على مدخل مضيق هرمز، فلا تراها من بعيد وأنت قادم لها، وإنما تفاجئك بعد أن تصبح مقابلا لها تقريبا وجها لوجه، فتصبّح أو تمسّي عليك بطريقتها (صبحَت بوري.. مسيَت بوري).. إنها قرية مثيرة. لا يمكن الوصول إليها إلا بحرا أو بالطائرة العمودية لعدم وجود طريق بري بسبب الجبال الشاهقة وتعرجاتها وخلجانها التي تحيط بها. صغيرة جدا، ولكن بها بعض العمق من الساحل إلى أقصى نقطة في الداخل تنتهي ببئر كبيرة شهيرة، قطرها واسع، يتداول المجتمع المحلي العديد من القصص حولها، وقد حفرت الحبال على حوافها الصخرية خطوطا تحكي قدمها ومدى الاعتماد عليها، وبساطة الأدوات المستخدمة لاستخراج الماء. يتوسط القرية واد طويل يبدأ التشكل من قمم الجبال انتهاء بالبحر. ولضيق مساحتها فالمشهد عادي أن ترى قبرا أمام أي بيت وربما داخله أيضا، وخارج كثير من البيوت تنّور لشيّ السمك، فهنا يمكن أن تأكل وجبة سمك لن تنساها مدى العمر. الطيبة والسماحة والفرح بالضيف سمة على وجوه أهلها. منذ ذلك الوقت سعت الحكومة إلى توفير ما تحتاجه القرية من خدمات أساسية للتخفيف من عزلتها الجغرافية تقريبا. مدرسة ومستوصف ومحطة كهرباء، ومهبط للطائرة العمودية العسكرية التي تأتي مرتين أسبوعيا، ويستطيع المواطن أن ينتقل بواسطتها إلى خصب مجانا، أما الماء العذب فيصل عبر سفن خاصة توزع الماء على القرى والتجمعات الساحلية.. المفاجأة التي لم نتوقعها أن أهل القرية يتحدثون لغة أخرى هي خليط من اللغات الفارسية والأوروبية والآسيوية وكذلك العربية بحكم موقعها الجغرافي والثقافات التي مرت من هنا، ويندر أن تجد من يتحدث العربية في ذلك الوقت من كبار السن، فعندما تتحدث إليهم بالعربية يفهمون ما تقول، ولكنهم يردون بالكمزارية لذلك فكل اللقاءات التي سجلتها للأسف لم تبث. لو كان ذلك قد حدث اليوم لقمت بترجمتها ودبلجتها إلى العربية.
من المشاهد التي لا أنساها في مسندم وشعرت معها بفرح وتفاؤل بالمستقبل مشهد الطلبة والطالبات الصغار وهم يتنقلون بالقوارب في رحلة يومية من القرى الساحلية الصغيرة إلى أقرب مدرسة، شعرت أن عُمان الحديثة تكبر بهم ويكبرون معها، مثل أقرانهم في المناطق الجبلية أو الصحراوية الذين يتكبدون المسافات ووعورة الطرق والوقت الطويل في سبيل الحصول على فرصة التعليم. أتوقع أن منهم اليوم قيادات مهمة. كانت تجري ترجمةُ وعد القائد (سنعلم أبناءنا ولو تحت ظل الشجر).. زيارة مسندم درس بليغ، بل دروس، في الجغرافيا والسياسة، والتاريخ، والفنون التقليدية والعادات الغريبة واللغات النادرة والطبيعة بجمالها وبقسوتها في الوقت ذاته.
البرنامج الآخر الذي نقوم بتسجيله أنا والزميل عبدالله سليمان- رحمه الله- هو مسابقة ثقافية بين الأندية، ومن مواقفه أن استضفنا فريق بدية يقابله المضيرب أو إبراء.. تحفّظ فريق بدية على أحد الأسئلة الغنائية ورفضوا الإجابة، وطالبوا بتغيير السؤال، ولم نوافق على التغيير لأن البرنامج مبني على هذا التنوع، حتى اضطروا للتضحية بنقطة قد تقلب عليهم نتيجة المسابقة.. علمت مؤخرا أنهم استثمروا الجائزة رغم بساطتها في عمل وقفي. أسأل الله أن يتقبله منهم.. وبعد مرور أكثر من ثلاثين عاما إذا بالقدر الجميل يجمعني بأحد أفراد ذلك الفريق، بأن نكرم أنا وهو كعضوين في مجلس الدولة، ويصبح هو رئيس اللجنة الاجتماعية والثقافية التي أنتمي لها أنا أيضا، هو الصديق الدكتور محمد بن سعيد الحجري.. وهذه ليست أول حالة ألتقيها ثم تجمعني بها زمالة عمل وصداقة.
لا توجد هواتف نقالة ولا حتى هواتف عمومية ، عدا في المكاتب وبعض البيوت من النوع القديم ذي القرص الدائري ، فالتي في المكاتب فالمباشر منها غالبا عند المديرين فما فوق، أما باقي المكاتب فمحولات بطلب الخط عن طريق البدالة، وجدنا ذات مرة في ضيافة بالبريمي مثله وقد أقفل عليه بصندوق خشبي وقفل، بمعنى أنه يمكن أن نستقبل منه المكالمات ولكن لا نستطيع أن نتصل، وكنت قد سمعت عن معلومة لفك شفرة الاتصال بأن تنقر على الأزرار التي تجلس عليها السماعة حسب الأرقام، وأن الرقم صفر يحتاج عشر نقرات، وعندما جربنا نجحنا في ذلك، وصرنا نتناوب عليه مساء وكأننا وجدنا كنزا. شعرت ببعض التأنيب، ولكن أحسست أيضا ببعض الانتصار، فبلغة اليوم كنت أقوم بدور الهاكرز.
المواقف والمفاجئات كثيرة، وكذلك بعض المقالب التي نمارسها على بعضنا وقد تطال الآخرين، كما أن بعض الخلافات أو الاختلافات واردة، فقد يتخطى الجدال حاجز وجهات النظر، ويصبح على البقية إعادة الحديث أو الموقف إلى مساره المعتدل، والقلوب إلى صفائها حتى لا تنسحب على العلاقات الشخصية، فبيننا عشرة وشراكة وتعايش والكثير الكثير.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: من البرامج
إقرأ أيضاً:
نصبوا على مواطنين.. الداخلية تداهم 7 شركات سياحة
واصلت أجهزة وزارة الداخلية جهودها لمكافحة الجريمة بشتى صورها، لاسيما جرائم النصب والاحتيال على المواطنين والاستيلاء على أموالهم بزعم تسهيل سفرهم للعمل بالخارج .
أكدت معلومات وتحريات قطاع الأمن العام قيام عدد (7 شركات "بدون ترخيص") بالنصب والإحتيال على المواطنين والاستيلاء على مبالغ مالية منهم من خلال الزعم بتنظيم البرامج السياحية المختلفة بعدد من المحافظات والترويج لنشاطهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
بيهزر.. القبض على المتهم بتهديد زيزو نجم الزمالك الداخلية تحتفل مع الأطفال بيومهم العالمي.. صورعقب تقنين الإجراءات أمكن ضبط القائمين على إدارتها ، وبحوزتهم (أختام وأكلاشيهات للشركات – جوازات سفر للمواطنين – بيان بأسعار البرامج السياحية - كروت الدعاية الخاصة بتلك الشركات - دفاتر إيصالات استلام نقدية – أظرف مدون عليها أسماء الشركات – مجموعة كشوف بأسماء العملاء والبرامج المتعاقد عليها – لافتات وإعلانات للشركات ).
تم اتخاذ الإجراءات القانونية.