لجريدة عمان:
2024-11-26@22:51:20 GMT

حرق الذات كوسيلة احتجاج سياسية

تاريخ النشر: 28th, February 2024 GMT

كنتُ بطريقة ما انتظر حدوث شيء من هذا القبيل: أعني أن يُضرم أحدهم النار في نفسه، ضمن التقليد العريق والمتطرف للتضحية بالنفس، على سبيل الاحتجاج السياسي. بطبيعة الحال يُمكن تخيل اليوم الذي يشعر فيه أحدهم بأنه لم يعُد يحتمل الفُرجة على الإبادة، في ظل انحدار الأمور نحو السوء كل يوم، وانعدام الحيلة أمام قوى العالم الشرسة والمتعاضدة معا ضد ما تبقى من المليونين ونصف مليون غزّاوي.

طريقة الاعتراض هذه ليست جديدة ضد الظلم، حتى وإن كانت المسألة لا تمس المعترضين على نحو مباشر.

في الحادي عشر من يونيو عام 1963 وخلال الأزمة البوذية في فيتنام، قام الراهب تتش كوان دك برباطة جأش، وبصمت تام، بإضرام النار في نفسه اعتراضا على الاضطهاد الذي يتعرّض له البوذيون على يد الحكومة. صوره، والفيديو الذي يُسجل تلك اللحظة التاريخية، أدت لضغوطات نتجت عنها أخيرا إصلاحات لصالح البوذيين.

لعل هذه هي واحدة من الحالات الأولى (إن لم تكن الأولى على الإطلاق) المسجلة في التاريخ المعاصر للتضحية على سبيل الاحتجاج السياسي. ثمة تقاليد اجتماعية، ودينية سواء في البوذية أو المسيحية تُقدم فيها التضحيات. لعل المثال الأشهر والذي يعرفه الجميع هو دخول زوجات الهندوس نعوش أزواجهن المحترقة لإنهاء حيواتهن؛ في دلالة على الوفاء للزوج الراحل.

أما التضحية بالنفس كجزء من القتال، كما هو الحال مع العمليات الفدائية والانتحارية، فهي تُحقق (أو هكذا يُراد منها) نصرًا عسكريًّا. فيما الاعتراض السياسي عبر الحرق، لا يُحقق بحد ذاته أي نصر، إنما يُعول على إثارته شيئا ما؛ من أجل إحداث سواء التغيير الفوري، أو الذي يتطلب شيئا من الوقت. فوق هذا فهي مقامرة بحتة، إذ يُمكن أيضا أن لا تُحدث أي تغيير على الإطلاق، بل إن ثمة من أحرقوا أنفسهم دون أي إمكانية للتعرّف عليهم، بل وأحيانا لم يكن ممكنا معرفة باعثهم الحقيقي، سوى عبر التخمين من خلال المكان الذي تحدث فيه عملية الحرق مثلا. هذا يعني أن الاحتجاج عبر التضحية بالنفس، وعلى مستوى ما لا تُشابه المظاهرات التي يُرام منها الضغط على السلطة، وإنما تكون بالدرجة الأولى انتصارًا للذات في سبيل تسجيل موقف جريء لا رجعة فيه.

يُوثق فيلم (1968) Tell Me Lies ردود الفعل على الحرب في فيتنام، وينطلق من اللحظة التي نشرت فيها إحدى المجلات صورة طفل مشوّه بفعل قذائف النابالم (النابالم عبارة عن خليط حارق يُستخدم في الحروب، ويتميز بأنه أكثر التصاقا من الغازولين، ويدوم احتراقه لمدة أطول). كما يُوثق قصة الناشط الأمريكي المناهض للحرب نورمان ر. موريسون، الذي أحرق نفسه في الثاني من نوفمبر 1965 أمام البنتاجون اعتراضا على الحرب الأمريكية ضد فيتنام.

طيار القوات الجوية الأمريكية آرون بوشنل -الذي أحرق نفسه أمام مقر السفارة الإسرائيلية في العاصمة الأمريكية- لم يكن أول من يحتج بهذه الطريقة منذ بداية الحرب على غزة. شخص غير مُعرّف قام بإحراق نفسه أمام القنصلية الإسرائيلية في أتلانتا ديسمبر الماضي. غير أن بوشنل وثّق احتجاجه عبر الهاتف، ووضّح سبب إقدامه على الفعل، أي حتى لا يكون جزءا من الإبادة الحاصلة، وكانت آخر كلماته «فلسطين حرة». ما أثار استغرابنا أيضا هو تدخل الشرطة لإخماد الحريق، فيما يُوجه أحد أفرادها المسدس على الضحية، فيما بدا جزءا من بروتوكول بوليسي ينم عن إساءة التقدير واللاتعاطف أكثر من أي شيء آخر.

في خضم بحثي، وقعتُ مُصادفة على حالات أخرى لمن سجلوا اعتراضهم على النحو ذاته. رجل في الكونغو أضرم النار في نفسه نوفمبر الماضي؛ بهدف أن يُلفت الانتباه للإبادة الجماعية التي تحدث في بلاده.

بالطبع لا يُمكن للخبر أن يمر، دون أن يُعيد إلى أذهاننا إرث البوعزيزي، وحوالي خمسين شخصا آخرين أقدموا على الفعل ذاته أسوة به خلال الربيع العربي. الثورة التي فجّرها البوعزيزي، تجعلنا نُصدق أن هذا النوع من الاحتجاج المتطرف، وهذه التضحية القصوى، لا بد أن تُجازى بفعل على القدر نفسه من القوة. كأن يُشعل ثورة. كلمة يُشعل هنا تتعدى معناها المجازي لتُصبح حرفية، فيما يكون الفتيل فيها هو الجسد المظلوم، الجسد الذي ما عاد يحتمل سواء أن يقع عليه الظلم، أو أن يشهده.

ثمة أفعال تهديدية، يُهدد أحدهم مثلا بأسر شخص ما، بقتل شخص ما؛ لتحقيق هدف مشروع (أو غير مشروع في الواقع). غير أن فعل التضحية يقوم أولا على احترام حياة الآخرين، ويقوم -على العكس- بتوجيه أداة القتل نحو جسد الشخص نفسه، وهو فعل لا يُهدد إلا على نحو ضمي. إذ يُراهن المُضحي على من يمسهم الفعل. يعرف المضحي أن ثمة كثيرين يقولون لأنفسهم، لم أعد أحتمل، ولو أني أجرؤ لأحرقت نفسي اعتراضا، ويأمل أن يُقدم مثالا لهم، ويبدأ بذلك سلسلة من العنف الموجه للذات: سنبقى نُشاغب إلى أن تنصتوا لنا، إلى أن تتدخلوا لإنهاء الأمر.

ثمة سؤال لا يُمكننا الإجابة عنه مهما أعملنا فيه أدواتنا التحليلية. أعني لماذا يؤدي فعل من هذا القبيل إلى التحريض أو تحفيز الإصلاح، فيما يمر فعل شبيه دون إثارة رد فعل يرجع صدى الفعل الأول ويضخمه، أو يكون -على الأقل- بقدره.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الذی ی

إقرأ أيضاً:

جيدا منصور لـ"الوفد": ردود الفعل على فيلم مين يصدق فاقت توقعاتي

أعربت الفنانة جيدا منصور، عن سعادتها بردود الفعل التي تلقتها عن دورها في فيلم "مين يصدق" عقب انطلاق عرضه بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، لافتة إلى أن ردود الفعل فاقت توقعاتها.   

وأكدت جيدا منصور، في تصريحات خاصة لـ "بوابة الوفد"، أنه كان هناك العديد من البروفات والتحضيرات مع الفنان يوسف عمر والمخرجة زينة أشرف عبدالباقي قبل انطلاق التصوير، مضيفة أنها حرصت على مذاكرة تاريخ الشخصية لتصبح على علم بجميع تفاصيلها حتى صدقت انها هي وبعد انتهاء التصوير حاولت الخروج من تلك الشخصية. 

تفاصيل فيلم "مين يصدق"

وكان عرض الفيلم المصري "مين يصدق؟"، ضمن مسابقة آفاق السينما العربية، والتي تقام ضمن فعاليات الدورة الـ 45 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي.

فيلم "مين يصدق" فكرة زينة عبد الباقي ومصطفي عسكر وحامد الشراب، وسيناريو وحوار زينة عبد الباقي ومصطفي خالد بهجت، وبطولة الفنان شريف منير، نادين، يوسف عمر، جيدا منصور، ويشهد الفيلم ظهورا مميزا للنجم الكبير أشرف عبد الباقي، والفيلم من إخراج زينة عبد الباقي.

فيلم "مين يصدق؟" روائي تدور أحداثه حول "نادين" التي تتخلص من حالة الفراغ التي تعيشها، بالتعرف على شاب محتال يُدعى باسم، الذي يقدم لها نوعًا من الحب والاهتمام الذي تفتقده، وتشارك نادين باسم في عمليات نصب يتورطان من خلالها في العديد من المشاكل، مما يضع قصة حبهما وأمورًا أخرى على المحك.  

مقالات مشابهة

  • النجاح نتاج تطوير الذات والاستعانة بالخبرات
  • خطة إنقاذ النصر.. التضحية بـ 5 لاعبين لإنقاذ الموسم
  • إيطاليا: ملتزمون بالقانون الدولي فيما يتعلق بمذكرة اعتقال نتنياهو
  • استسلام وفشل.. ردود الفعل في إسرائيل بشأن اتفاق وقف إطلاق النار مع لبنان
  • بعد فراق عام .. شخص يدعو عاملته المنزلية وزوجها على الغداء .. فيديو
  • هل الإنسان صريع الغرور والنرجسية؟
  • الفن كوسيلة للتغيير الاجتماعي: قصص نجاح من جميع أنحاء العالم
  • جيدا منصور لـ"الوفد": ردود الفعل على فيلم مين يصدق فاقت توقعاتي
  • جمال القليوبي: ملف الغاز الطبيعي عامل استراتيجي لدى مصر فيما يخص إنتاجية الكهرباء
  • الفن كوسيلة للاحتجاج.. أداة فعّالة للتعبير عن الغضب وتغيير الواقع