في عـلمويـة بعض الفكـر العربي
تاريخ النشر: 28th, February 2024 GMT
ربما كان مفهوما أن تـنشـأ الفكرة العلـمويـة وتفـشو في البيئات الثـقافـيـة والاجتماعيـة التي تسود فيها العلـوم والروح العلـميـة في التـفكير؛ وهذه عادة ما تكون البيئـات السائـدة في المجتمعات التي تـنـتج العلوم وتـنشر قـيمها في الجامعات ومؤسسات التـربية والتـكـوين، بل في الحقـل الثـقافي والمجتمع عموما. لذلك ما كان مستغـربا أن تزدهـر العـلمويـة في البيئات الفكرية والفلسفيـة والجامعية في بلدان بعينها مثـل بريطانيا وفرنسا، في القـرن التاسع عشر، ومثل الولايات المتحدة الأمريكية في القرن العشرين؛ فلقد كانت هذه البلدان -وما برحت حتى اليوم- من مراكـز إنتاج المعرفة العلميـة الأكثر تقـدمـا في العالم، ومن المجتمعات التي دخلت قـيم العلم في تشكيل رؤاها ومعارفها ومؤسساتها.
نعم، ليس من شـك في أن هـذه الحقبـة هي أخصب الحقـب الثـقافيـة والفكـرية في مصـر وبعض البلاد العربيـة؛ ولا من شـك في أن الإنتـاج الفـكـري في مصر، في ذلك الإبـان، كـان الأبـكـر -ضمن الإنتاج الفـكري الإجمالي العربي- في استـقبال القـيم المعرفيـة الحديثة وتوطيـنـها فيه، وفي ترسيخ مبادئ العقـل والعقلانيـة في التـفكـير والتأليف؛ كما أنـه لا مـريـة في أن الإنتاج الفـكري والفلسفي لزكي نجيب محمود يشغـل مكانة متميـزة في التـأليف الفلسفي العربي تبررها ثقـافـة الرجـل الفلسفيـة الرفيعة، ومعرفـتـه الدقيقة بالمدارس الفلسفيـة الأوروبيـة، عمـوما، والإنجـليزيـة على نحـو خاص. هذا كله مما نبتـدهـه ونحن نتحـدث في فلسفة زكي نجيب محمود في تلك الحقبة من المـد الفكري في مصر؛ الحقبة التي كان فيها محمود من مؤسسي الدرس الفلسفي في الفكـر العربي المعاصر ومن رواده الأعلام. لكن هـذا التـقـدير شـيء ومسلـكه العلـموي في التـفكير والكتابة شيء آخـر...
قد يقال إن حالة زكي نجيب محمود -العائـد من جامعة لندن في العام 1947 متـوجا بشهادة الدكتوراة منها ومسكونا بفلسفـة وضعية على النمـط الإنجـليزي- تشبه حالة غيره من المفكرين العرب الذين تـلمـذوا لمدارس الفكر الفلسفي في الغرب، وانتحـلوا لأنفسهم مذاهب بعينها من الفلسفة واقـتدوا برموزها المؤسسين ورددوا أفكارهم. وهذا صحيح لا مـرية فيه؛ تشهد على ذلك، مثلا، ديكارتـية طه حسين، ووجوديـة عبدالرحمن بدوي، وشخصانيـة محمـد عزيز الحبابي ورنيه حبشي، وتاريـخانـيـة عبدالله العـروي، وماديـة سمير أمين التاريـخيـة، وفينومينولوجيـة حسن حنفي... إلخ. مع ذلك، تختـلف علمويـة زكي نجيب محمود من هذا الوجـه: من حيث هي عـلمـويـة من غيـر عـلـم منـتـشـر يسـندها ويـسوغـها، فيما الأبعاد الفلسفيـة الأخرى، المومأ إليها، والمؤثـرة في فلاسفة العرب المعاصرين (أسئلة الذات والعقل والوجود والإنسان...)، ليست خارجة -تـماما- عن دوائـر التفكـير العربي المألوفة، بل كثيرا ما صادفـنا التعبير عنها في مجالات من الثـقـافة العربية أخرى غيـر الفلسفـة.
حالة زكي نجيب محمود مع العـلـم والمعرفة العلميـة غير حال أساتـذته الذين تأثـرهـم في التـفكير والتـعبير (برتراند رسل، جورج مور، رودولف كارناپ...)، فكتب عن بعضهم (برتراند رسل) وترجـم كتب بعضهم (برتراند رسل، جون ديوي). هم يدافعـون عن الروح العلمي في ثقافات تشـبعت بقيم العلم، ومجتمعات تـغـلـغـلت في حياتها تلك القيم وصارت جزءا من نسيج منظومتها الاجتماعيـة، أما هو فيدافع عنه في غـيابـه لا في حضوره، فيتولـد من ذلك أن الأيديولوجي الثـاوي في العـلمويـة -من حيث هي نزعة فلسفيـة- يصبح مضاعـفا عنده: يتجلى في العلمويـة من حيث هي كذلك، كما يتجلى في دعـوة تتـردد في الفراغ الممتـد! هو، في حالته تلك، أشبـه ما يكون بالمشغـوف بالتـقـنيـة Technophile في نـمـذجـة عبدالله العروي لتيارات الأيديولوجيا العربيـة الثلاث؛ فلقد كانت سيرة سلامة موسى مع التـقـنيـة ولـهجـه بها، الذي ما انقـطع، نموذجا مـاثـل في المفارقـة دعـوة محمود إلى محاكاة العلـم والمسير في التـفكير وفي الأحكام على مطـماره: كـانا مـعـا بمعنـى ما، دعـوة أيـديولوجيـة تنتمي إلى منطق اليـنبـغـيـات لا دعـوة علميـة تستقيـم مع السائـد والمألوف في بيئـات العلم، أو في المجتمعات التي تحتـل فيها تلك البيئـات مساحة ثـقافـيـة معـتـبـرة.
لا يعنينا من أمر هذه العلمويـة، عمومـا، وعند زكي نجيب محمود خصوصا، إلا مضمونها الأيديولوجي الذي تـفصح عنه بما هي فلسفة؛ إذ هـو يكشف عن تلك المقدرة التي للأيـديولوجيا على التـنكـر في صـور أخـرى غير صورتها الأصل. آي ذلك ما يـطبع القـول العلمـوي من غـلـو في الأحكام؛ ليس في تقديس العلـم، فقـط، والتعالي بمكانته إلى حدود المطلق، بل في القـدح في الأيـديـولوجيا والفلسفة وسائر أنماط التـفكـير الأخرى! وهل ثمـة من مفارقة أصرخ من أن تـتكـرس نزعـة فلسفيـة -هي العلـمويـة- لذم الفلسفة والحـط من مـعارفـهـا والتـشكـيـك فـيها؟!
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: زکی نجیب محمود فی التـفکیر
إقرأ أيضاً:
اتحاد المغرب العربي بعد 36 عام إلى أين؟
ترتبط الشعوب المغاربية بعلاقات اجتماعية وتاريخية عميقة، بما فيهم الساسة، ويشتركون في العديد من العادات والتقاليد التي تبرز الروابط الثقافية بين موريتانيا، المغرب، الجزائر، تونس، وليبيا.
فالتاريخ يثبت التنقلات والإقامة بين الدول بلا حدود، من المغرب وبلاد شنقيط، والجزائر وليبيا، وتونس، بحيث أصبحوا مواطنين في هذه الدول، والكفاح المشترك في وجه الاستعمار الفرنسي والإيطالي، نذكر منها أحداث ساقية سيدي يوسف بين تونس والجزائر، التي ارتكبت فيها المستعمر الفرنسي، بقصف القرية وسقط فيها 76 شهيدا من المدنيين من النساء والأطفال، التوانسة والجزائريين، و148 جريح.. ومعركة “إيسين” بين ليبيا والجزائر عام 1957، ضد المستعمر الفرنسي ،والتي امتزج فيها الدم الليبي والجزائري! والدعم المغربي للثورة الجزائري، والدعم التونسي والدعم الليبي للثورة الجزائرية.. هذه الروابط تساهم في خلق هوية مغاربية مشتركة رغم التحديات السياسية والاقتصادية التي قد تواجه هذه الدول.
أهم الأسس التي تربط الشعب المغاربي
1- اللغة العربية واللغة الأمازيغية هما اللغتان الرئيسيتان في معظم الدول المغاربية، وهو ما يعزز الترابط بين شعوب المنطقة.
كما أن اللهجات المحلية في هذه الدول تتشابه إلى حد كبير، مما يسهل التواصل والتفاهم بين الناس في حياتهم اليومية.
2- الإسلام هو الدين الرئيسي في كل دول المغرب العربي، مما يشكل قاعدة ثقافية ودينية مشتركة بين شعوب المنطقة.
3- التاريخ المشترك بين شعوب المغرب العربي في تاريخ طويل من الحضارات التي تعاقبت على المنطقة، مثل الحضارة الأمازيغية، الفينيقية، الرومانية، الإسلامية، والاستعمار الأوروبي، حيث امتزجت الدماء في مواجهة الاستعمار، من خلال الدعم بالسلاح والتبرعات والاحتضان والدعم السياسي بين الحكومات والشعوب.
4- الجغرافيا والمصير المشترك تتميز المنطقة بوحدة جغرافية تسهل التواصل والتبادل الاقتصادي والاجتماعي، كما تواجه تحديات تنموية وأمنية مشتركة.
الاقتصاد والتكامل الإقليمي
هناك محاولات لتعزيز التعاون الاقتصادي من خلال اتحاد المغرب العربي، رغم التحديات السياسية التي تعوق تحقيق تكامل فعلي.
محاولات مغاربية وحدوية
بذلت مساعي لإنشاء الاتحاد المغاربي في عدة مناسبات، فكان أول لقاء في مؤتمر “طنجة” المغربية بمشاركة أحزاب الاستقلال المغربي والحزب الدستوري التونسي وجبهة التحرير الجزائرية، إلى أول مؤتمر للأحزاب المغاربية، تجدد اللقاء بعد استقلال الدول المغاربية وأسست اللجنة الاستشارية للمغرب العربي عام 1964، والتي كانت تهدف إلى تقوية العلاقات الاقتصادية بين دول المغرب العربي.
استمرت المحاولات من خلال إبرام معاهدات:
بيان “جربة ” بين تونس وليبيا عام 1974. اتفاقية حاسي مسعود هي اتفاقية تعاون وُقِّعت بين ليبيا والجزائر في 28 يوليو 1971، وتهدف إلى تعزيز التعاون بين البلدين في مجالات الطاقة والاقتصاد. معاهدة مستغانم هي اتفاقية تعاون وُقِّعت بين ليبيا والجزائر عام 1983، وتهدف إلى تعزيز التعاون الثنائي بين البلدين في مختلف المجالات، خاصة على الصعيدين السياسي والاقتصادي.تأسيس اتحاد المغرب العربي
جاء اجتماع “زرالدة” الجزائرية بين قادة دول المغرب العربي عام 1988، والذي يُعتبر بيان زرالدة خطوة أساسية نحو تأسيس اتحاد المغرب العربي، وجاء لقاء مراكش بين قادة المغرب، الجزائر، موريتانيا، وتونس، ليبيا، الذي توج بتوقيع معاهدة اتحاد المغرب العربي في 17 فبراير 1989، بهدف تحقيق التكامل الاقتصادي والتنسيق السياسي بين دول المنطقة.
تجميد مؤسسات الاتحاد المغاربي
لقد ألقت الخلافات والتباينات السياسية بين دول الاتحاد، بتداعياتها، وأهمها الخلاف بين المغرب والجزائر، بسبب “قضية الصحراء”، وقد تراوح العلاقات بين فترات تحسن وفتور، مع كل تغيير سياسي في الجزائر، وبذلك أصبحت هذا الملف هو العقبة الكائدة في سبيل تفعيل دور الاتحاد، وضعف بقية الدول المغاربية في حل لهذا الخلاف، وتحديدا مؤسسة الاتحاد بشكل حيادي، وكذلك جامعة الدول العربية، والاتحاد الإفريقي ومنظمة العمل الإسلامي، وكذلك دور الدول الخليج التي ترتبط بعلاقات مع البلدين.
دور الاقتصادي للاتحاد المغاربي
يمثل الكيان المغاربي مكانة مهمة اقليما ودوليا ، ويحتل موقع استراتيجي يربط قارات العالم في البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، وبوابة مهمة تربط المشرق والمغرب العربي، وأوروبا بقارة إفريقيا جنوبا، وتعداد سكاني يبلغ 120 مليون نسمة، ويحتل مساحة 6 مليون كيلومتر مربع بنسبة 40% من الوطن العربي، وتبلغ صادراتها 47.53 مليار دولار تشكل 17.8% من صادرات الوطن العربي . وتمتلك الدول المغاربية ثروات متنوعة وهائلة، النفط والغاز – الفوسفات – الذهب والحديد – الزيوت – الأسماك ..المنتجات الزراعية، وصناعات تقليدية وصناعة السيارات والمعدات الصناعية والزراعية، صناعة السياحة، وتمتلك الأيادي العاملة المهرة.
بإمكان الدول المغاربية تزيد من التعاون الاقتصادي مع محيطها العربي، وأن تكون رافد للعمل الاقتصادي العربي المشترك في جميع المجالات، كمنافس للكيان كالاتحاد الأوروبي، الذي يعتمد على الأيادي العاملة المغاربية، وكذلك مع مجموعة بريكس والاسيان، وأمام الاتحاد المغاربي المحيط الافريقي الذي تلعب فيها الدول المغاربية دورا سياسيا وتاريخيا عندما دعمت استقلال الدول الإفريقية، وساهمت في تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية، وأخيرا الاتحاد الإفريقي، لدول الاتحاد المغاربي دورا كبير تعزيز الكيان الإفريقي اقتصاديا وسياسيا، ليأخذ مكانتها بين التكتلات الدولية.
التوتر بين الجزائر والمغرب
أمام الدولتين فرصة تاريخية والتزامات أمام شعوب الاتحاد وبمعية بقية الدول المغاربية، ومساعدة ليبيا في حل أزمتها، لكي تعود لمواصلة دورها في محيطها العربي والمغاربي والإفريقي!.
ومن أجل إعطاء الكيان المغاربي الذي لم تكتشف بعد إمكانياتها التي تعطيها الدور الحقيقي في عربيا وأفريقيا ودوليا، سياسيا واقتصاديا والانطلاق نحو التنمية المستدامة.
أيضا هناك معطى يمكن التأسيس عليه، ويتمثل في الروابط الاجتماعية والثقافية والدينية بين الشعوب المغاربية والتي تنتظر الفرصة لتواصل وتحقيق والتعاون.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.