شمسان بوست:
2024-10-03@07:49:57 GMT

تقسيم الشعوب.. من أين جاءت دعاوى معاداة السامية؟

تاريخ النشر: 28th, February 2024 GMT

شمسان بوست / متابعات :

“اللاسامية” أو “معاداة السامية” أو “مناهضة السامية” من أشد المصطلحات حساسية وحرجًا، وهي أيضًا من أكثرها ورودًا على الألسنة والأقلام، خاصة في سياق نقد إسرائيل أو تناول تاريخ اليهود، ومع ذلك فإن معظم استعمالها في المعسكرين لا يخلو من وهم وتساهل وخطأ ومغالطة.

ولفظة “اللاسامية” -التي شاعت بين العرب- هي ترجمة غير دقيقة للكلمة الأوروبية التي تعني حرفيًا “المذهب المعادي للسامية”.

أما من حيث المقصود الفعلي منها فهو “معاداة اليهود” أو “نبذ اليهود من المجتمع” أو “مناهضة اليهود” لأنهم الممثلون الوحيدون للجنس السامي في أوروبا، على حسب الدعوى “العنصرية” التي أشاعوها هم عن أنفسهم.

أما الخطأ والمبالغة في استعمالها فإنهما يأتيان غالبًا من جانب المدافعين عن إسرائيل، فهم يعيشون في عقدة الشعور بالاضطهاد بسبب عنصريتهم، ويتخيلون أن كل ما يحل به من مشاكل في علاقاته بالأمم الأخرى إنما يرجع إلى الأصل اليهودي.

جدل “السامية”

يشمل مصطلح “السامية” مفهومًا شاع بالقرن الـ19 في أوروبا، ويقوم على اعتبار أن البشرية مقسمة إلى “أعراق” متمايزة تمامًا ينتمي إليها الأفراد بالولادة، وأن هذه الأعراق تنتمي في جزء كبير منها إلى عائلات لغوية.

وكانت “كراهية اليهود” تُعتبر ناتجًا من صفاتهم العرقية التي يُزعم أنها موروثة، وهي مواصفات كانت تُعتبر إمّا ممقوتة في الواقع، وإمّا أنها بطبيعتها ذاتها تحضّ الآخرين على الشعور بالكراهية تجاهها.

ومن المفترض أن يحمل هذه المواصفات في الأساس أفراد ما يُسمى العرق السامي كلهم، أي -عمليًا- جميع الشعوب التي تتحدث أو كانت تتحدث اللغات السامية. وبالتالي، فإن هذا من المفترض أن يشمل العرب أيضًا، كما أن المسيحية نفسها، بصفتها منبثقة من الديانة اليهودية، وبأن يهودًا جاؤوا بها، كانت تحمل وصمة هذا الأصل “السامي”.

ومن رحم “التناخ/العهد القديم” ولد في التاريخ الحديث مصطلح اسمه “السامية”. وهيمن -ولا يزال- على أفكار أجيال من الدارسين والباحثين. فلم يلبث مصطلح “السامية” أن لاقى تقبلاً من المختصين بالاستشراق، فشاع استعماله على نطاق واسع، وبقي متداولاً إلى يومنا هذا بين المعنيين بتاريخ اللغات والحضارة.

وأول من استعمل هذا الاصطلاح مطبوعاً هو المؤرخ الألماني أوغست لودفيغ شلوتسر (August Ludwig Schloester) في مقال له عن “الكلدانيين” عام 1781 الذي يقول “من البحر المتوسط إلى الفرات، ومن أرض الرافدين حتى بلاد العرب جنوباً سادت كما هو معروف لغة واحدة، ولهذا كان السوريون والبابليون والعبريون والعرب شعباً واحداً، وكان الفينيقيون (الحاميون) أيضاً يتكلمون هذه اللغة التي أود أن أسميها اللغة السامية”. وقد تولى المحلل النفسي النمساوي أيشهورن بعد ذلك هذا الاصطلاح والدفاع عنه وإن ادعاه لنفسه.

وقد قال الباحثون إن الأقوام المتكلمة بتلك اللغات قد انحدرت جميعها من جد واحد هو سام بن نوح (عليه السلام) استنادًا إلى قائمة الأنساب التي تذكرها “التناخ/ العهد القديم” بالإصحاح العاشر من سفر التكوين، وأطلقوا على هذا الأصل أو الوحدة “الرس السامي” أو “الجنس السامي” أو “الأصل السامي” أو “السامية” وعلى اللغات التي تكلموا بها “اللغات السامية”.

ومن الواضح أن شلوتسر قد اعتمد العرق [أي وحدة الأصل] أساسًا لتأصيل التشابه اللغوي بين الأقوام المدعوة بـ”السامية” متناسيًا أن هذا السام كان له أخوان هما “يافث” و”حام” فكيف يصح أن يقتطع “سام” من بيت أبيه ومن بين أخوته عرقياً ولغوياً!؟

وبهذا الصدد، يقول ليوتاكسل في كتابه “التوراة.. كتاب مقدس أم جمع من الأساطير؟”: وبالرغم من ذلك يتفق اللاهوتيون على أن نوحًا أعطى آسيا لـ”سام” وأوروبا لـ”يافث” وأفريقيا لـ”حام”. فولد كنعان و”حام” الزنوج والملونين. لذلك ينبغي أن تكون ذريتهما عبيداً للأوروبيين. لكن السؤال: كيف أصبح أبناء نوح الثلاثة مؤسسين لـ3 أعراق مختلفة، وهم المولودون من أب واحد، وأم واحدة؟

ويقول أيضا “مع ذلك، علينا أن ننحني أمام إرادة يهوه وكتابه المقدس، ونعترف بأن العرق الآسيوي الأصفر خرج من صلب “سام” والأوروبي الأبيض من صلب “يافث” والأفريقي الأسود من صلب “حام” وكنعان، بيد أن سؤالًا يتبادر إلى الذهن: من أين جاء الأميركيون الحمر البشرة؟ أغلب الظن أن الروح القدس سها أن يخبر مؤلف كتاب التكوين عن ذلك! وعلينا أن نقر بأن هؤلاء لا أب لهم!”.

لقد فاجأنا أحد نبلاء الضمير في الغرب، وهو المفكر الفرنسي المعروف بيير روسي، حين قرر الانتقاض والتقريع، تقريع من كتب الكذب في جامعات أوروبا ومن صدق ذلك في جامعاتنا، قائلاً “وهل هناك ضرورة لإضافة أن تعبير “سامي” لم يرد له ذكر بين مفردات اللغة الإغريقية، أو في اللغة اللاتينية؟ وما يقال في هذا المجال طويل. إننا لن نجد هذا التعبير قبل نهاية القرن الـ18، ذلك أن العالم شلوتسر هو الذي صاغ هذا النعت “السامي” في مؤلف نشره عام 1781، وأعطاه العنوان التالي “فهرس الأدب التوراتي والشرقي” كأن الأدب “التوراتي” ليس شرقياً. إن هذا التقسيم الذي حدده يجب أن يدعونا إلى الحذر.

تقسيم الشعوب

وإنه لمن المؤكد وبشكل حاسم أن التسليم بتقسيم الشعوب إلى شرقية وغربية هو مفتاح تاريخنا، وأنه مع هذا التقسيم الجغرافي يتطابق حدان مزدوجان عنصريان وهما “الهنود الأوروبيون” [أو من يسمون أحياناً بالآريين] و”الساميون”. إن جميع العقول الجيدة قد انحنت أمام هذا الاختراع المتولد عن خيال اللغويين الألمان.

وإن المؤرخين سيعجبون للانتصار المناقض لما هو متعارف عليه، لهذا التصديق السريع، وللمطابقة في عصر، هو عصرنا الذي يؤكد كونه مرتابًا وعقلانيًا ورافضًا. والواقع أنه انطلاقًا من الوثائق والمصادر والمواد التي كانت تحت تصرف العالم، يبدو أنه من المستحيل البرهان على وجود شعوب “سامية” و”آرية” وبالأحرى إعطاء الحدود والفروق الخاصة بينها، كما أنه يبدو كذلك خاطئًا في منطلقاته مثلما هو خاطئ في عرضه ووقائعه، هذا المذهب الذي يجد الشرق والغرب بموجبه تعريفًا لكل منهما وتفريقًا لأحدهما عن الآخر حسب هذا التقسيم إلى لغات “هندية – أوروبية” و”سامية”.

وإنه لا يحق لنا، بحسب الحالة الراهنة لمعرفتنا، أن نقدم مثل هذه المفاهيم. إن تعبيري “سامي” و”آري” ليسا شيئًا، ولا يدلان على شيء. ولكي يكتسبا حقيقة ما، أو لكي يصلحا نقطتي انطلاق تاريخيتين، ينبغي أن يكون هذان الشعبان قد امتلكا من قبل صفتي “الآرية” و”السامية”. وأنه ليس هناك إنسان ما، أو ثقافة ما، أو مجتمع ما، قد طالب بهذا الارتباط بالمصير “السامي” أو”الآري”.

وإن هذا يجب أن يقال. ولكن عالمنا كان نظرياً إلى حد جعله يجد سعادته في الأشكال الخيالية التي وضعه فيها المفكرون. إن البعد العالمي للنظريات التي يعممونها، والتضامن (لئلا نقول التواطؤ) الذي يصل بعضهم ببعضهم الآخر، والآلة المذهبية التي تحيط بهم.

وإن كل ذلك يعطي لآرائهم وأقوالهم سيطرة تفرض نفسها على الرأي وتعريه، ويبدو الأمر كما كتب إيراسم “الصحيح أن الإنسان مخلوق يتأثر بالخيال أكثر مما يتأثر بالحقيقة”. بيد أنه لا شيء في ميدان الحقيقة يفرض تميزاً سليماً أو مريباً بين “الآريين” و”الساميين”. فـ”من أجل احترام التراث التوراتي، ينبغي أن نقول “اليافثيون” وليس “الآريين” لأن “يافث” من أبناء نوح الثلاثة هو الذي نسل اليونانيين، والأناضوليين، وأقاربنا الأوروبيين”.

وليس من اليسير أن نقطع برأي في صدد تقسيم الجنس البشري كما ورد في “التناخ/ العهد القديم” ومدى انطباقه على الأبحاث الحديثة، ولكني أؤكد أنه غير حرى بالدراسة الجدية. ومن جهة أخرى فإن التأصيل العرقي الذي قدمه شلوتسر، يصطدم بعقبتين رئيسيتين سبقنا إلى تشخيصهما الدكتور لطفي عبد الوهاب، في معرض حديثه عن “الساميين” أو الشعوب “السامية” في كتابه “العرب في العصور القديمة” فيقول: الحديث عن الشعوب (السامية) كمجموعة بشرية تنتمي إلى جنس أو عنصر واحد له ملامحه وخصائصه الجسمية الخاصة به والمميزة له هو حديث لا يستند إلى أساس علمي لسببين: أحدهما يتصل بقضية النقاء العنصري والآخر يتصل بالعلاقة بين العنصر واللغة.

وفيما يخص السبب الأول فإن تطابق الملامح والخصائص الجسمانية بين الشعوب “السامية” أمر غير قائم، فنحن نجد تبايناً واضحاً في هذا المجال بين هذه الشعوب من جهة ثم من داخل كلّ شعب منها من جهة أخرى.. وفي الواقع فإن علماء الأجناس قد انتهوا منذ أواسط القرن الحالي إلى أن الحديث عن نقاء الأجناس البشرية قد أصبح في حقيقة الأمر “خرافة علمية” حسب تعبير أحد علماء الإنثربروبولوجية المعاصرين.

أما عن اتخاذ اللغة أساسًا لوحدة الجنس أو العنصر، فيقول لطفي عبد الوهاب: إن الثابت من الملاحظة التاريخية هو أن اللغة لا تصلح أساساً لأي تحديد عنصري لسبب بسيط هو أن الفئات البشرية لها قابلية غريبة لالتقاط اللغات إذا كان ذلك يخدم أهدافاً مصلحية أو عمرانية.

من “مناهضة السامية” إلى “مناهضة إسرائيل”

ظهرت “اللاسامية” الحديثة أولًا في فرنسا وألمانيا ثم في روسيا، بعد عام 1870.

وكانت “اللاسامية” الحديثة (1880- 1890) ردة فعل لرجال حائرين كرهوا المجتمع الحديث بعمق بكافة جوانبه الطيبة والشريرة، وكانوا من المؤمنين المتحمسين بنظرية المؤامرة في التاريخ. ووضع اليهود في دور كبش الفداء بسبب انهيار المجتمع القديم (الذي يتخيل الحنين “اللاسامي” أنه كان أكثر انغلاقًا وتنظيمًا مما كان عليه في الواقع) ووجود كل ما يثير الانزعاج في الأزمنة الحديثة. ولكن منذ البداية جابه “اللاساميون” ما تجلى أمامهم كمشكلة صعبة: كيف يعرفون كبش الفدا هذا؟ وبأي تعبيرات شعبية؟ وما هو العامل المشترك بين الموسيقى اليهودي، والحرفى، والمصرفى، والمتسول، خاصة بعد انحلال السمات الدينية العامة المشتركة، على الأقل خارجيًا؟ كانت “نظرية” العرق اليهودي هي الجواب “اللاسامي” الحديث لهذه المشكلة.

وإن الذين يُعلمون وينشرون “مناهضة السامية” يجهلون -إجمالًا- الأسباب الحقيقية لمشاعرهم، فيشرحون حالتهم الذهنية بمطاعن الإثنية والدينية والسياسية والاقتصادية و”كل هذه الزّخارف لـ(مناهضة السامية) ليس لها أساس، فبعضها مثل المطاعن الإثنيَّة مُتأتّية من مفهوم خاطئ للأعراق، وبعضها الآخر مثل المطاعن الدينيَّة والمطاعن السياسيَّة نشؤوا من فكرة منقوصة وضيقة عن التطور التاريخي، والأخيرة مثل المطاعن الاقتصادية كانت نتيجة الحاجة لسَتْر أحد صراعات رأس المال. فلا هذه ولا تلك بالإمكان تبريرها. فليس دقيقًا أن يكون اليهودي ساميًا صافيًا، ولا الشعوب الأوروبية هي آرية صافية. حتى أن فكرة السامي والآري لا يمكن شَرْعَنَتها”.

المصدر: شمسان بوست

إقرأ أيضاً:

هل الأفكار المهاجرة يتم توطينها أم تأتي اختيارًا ؟

لا شكّ أن الأفكار ومنها النظريات والفلسفات والقيم عمومًا، تظهر في بيئات ومواطن وبلدان في كل الشعوب، وممكن للأفكار أن تهاجر من موطنها الأصلي، إلى دول وحواضر أخرى لظروف ومتطلبات كثيرة، وهذه الأفكار قد يتم تهجيرها عنوة إلى ثقافات وحضارات أخرى، لها ثقافتها الخاصة، ورؤيتها الفكرية والثقافية، التي قد تكون مغايرة للأفكار التي هُجرت ويتم توطينها في البلدان الأخرى، وقد يتقبل البعض أفكارًا من خارج بيئتها الأصلية، إما انبهارًا واعتقادًا من البعض أن الآخر ربما تقدم بسبب أفكاره ورؤيته المجردة، وإما تتقبل الأفكار لسبب آخر -سنشير إليه لاحقًا- لكن هذا فهم مغلوط للتقدم أو التحضر من خلال هذه النظرة القاصرة للثقافة والوعي المحدود للنهضة، لذلك التقليد لا يفيد هذا المقلد في شيء، ولا يعطيه الإبداع الذي هو أساس منهج التقدم والنهوض -كما حصل لشعوب أخرى- فالأفكار التي انتجت نهضتهم وتقدمهم ونجاحهم في العلوم والإدارة وغيرها من أسباب النهوض الأخرى، فحتى يتحقق لنا ما نسعى إليه مثلما حصل لتلك الدول الأخرى، والفرق شاسع بين أن نأخذ منهج العلم وأسس التقدم، وبين أن نقلد ونستهلك ما انتجه الآخرون، وهذا لا يحقق نهضة للمقلدين. أما هجرة الأفكار التي يراها البعض أنها مثل هجر البشر الآخرين، الذين يهاجرون من بلدانهم إلى بلدان أخرى، فهي إما للتعليم أو العيش الكريم، أو لأسباب أخرى، لكن الأفكار عندما تهاجر، لا يمكن قياسها بهجرة البشر، فقد تكون هجرة الأفكار ليس اختيارًا من شعوب أخرى ورغبتها في أن تحل ثقافة الآخر بدل ثقافتهم وقيمهم، لكن هذه الهجرة المفروضة تهدف إلى إقصاء أفكار وثقافات وقيم تلك الشعوب التي جاء المستعمر من خارجها لكي يسيطر عليها، ومحاولة إحلال أفكاره لتحل محل هذه الثقافة الأصلية بالترغيب حينًا وبالجبروت تارة أخرى وبتخطيط وتدابير للسيطرة.

وهذا التوجه لفرض الأفكار من خارجها حصل في دول كثيرة من الوطن العربي، وفي أوطان أخرى، الهدف هو نفسه تخريف ثقافة وقيم الشعوب، وهذه الأفكار التي يتم فرضها تسمى عند البعض غزوًا، ويسميها البعض اختراقًا أو اجتياحًا، وهذه الأفكار التي تفرض، أو إحلالها محل الثقافة الأصلية، بدعوى أن الثقافة الغربية -مثلًا- نجحت وتقدمت، وحققت نهضةً ضخمةً فكريةً وعلميةً وفلسفيةً، بسبب هذه الأفكار التي أسهمت في هذه النجاحات، لكن هذه المقاربة ليست دقيقة؛ لأن النهضة العلمية التي حصلت في الغرب لها منطلقات أخرى وحركة دؤوبة للخروج من التخلف والجمود أشرنا إلى أسبابها في كتابات سابقة، فالثقافة واللغة وسبل العيش، وتملكها كل الشعوب، لكن الجانب الذي حقق النهضة العلمية والتكنولوجية، كان تراكمًا لمعارف وعلوم ورؤى، من كل الحضارات السابقة، وتم الإضافة عليها من المبدعين لدى كل ثقافة، وهذه قضية معروفة، وهو ما حققته الحضارة العربية / الإسلامية في العصور الأولى للإسلام، لكن ما قام به الاستعمار ليس هدفه نهضة الأمم المستعمرة، بل هدفه التخريب ثم التغريب، وبعد ذلك نهب ثروات لتلك الشعوب بعد ربط هذه الأوطان بالمركز الغربي، وقد سعى إلى ذلك بأدوار حثيثة، وأهم هذه الأدوار الحط من الأفكار الأصلية، والحل في تطبيق اللغة والثقافة الوافدة، لتحل محل الثقافة الوطنية اللصيقة بفكر الأمة وقيمها ورؤيتها العامة، كما توارثوها عبر قرون مضت، صحيح أن رجالًا من علماء ومفكرين ومناضلين، تصدوا لهذا المخطط التغريبي، وواجهوه مواجهة باسلة بقدر استطاعتهم، خاصة في المغرب العربي، الذي كان شرسًا وقاسيًا في تطبيق ما يراه حقًا لصهر وتخريب ثقافتهم وإقصائها، خاصة الاستعمار الفرنسي، الذي كان مهووسًا، وخطط قبل حتى أن يعمد إلى الاحتلال بصورة دائمة لتلك الشعوب، واعتبر بعض دول المغرب العربي -الجزائر مثلًا- جزءًا لا يتجزأ من فرنسا ومشروعها الاستعماري الاستيطاني، واستعمل كل الوسائل لإبقاء هذه الدول مع فرنسا تابعة له، لكن هذه الشعوب قدمت التضحيات الأليمة والكبيرة للحفاظ على استقلالها وثقافتها وهويتها الوطنية، وهذا ما تحقق في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي في المشرق العربي، وكذلك بقية دول المغرب العربي.

وفي فكرة أن المغلوب كما قال البعض من المهتمين بالفكر والتاريخ، دائمًا ينصاع لثقافة الغالب وفكره وسبل حياته وطريقة تفكيره، ومن هؤلاء الذين أشاروا لهذه الرؤية العلامة والفيلسوف العربي ابن خلدون، وهو أن: (المغلوب مولع باقتداء الغالب)، وهذه لا شك أن فيها الكثير من الصحة، كما حصلت عند الكثير من شعوب العالم، لكنها لا تخلو من تعثرات فكرية وتاريخية في الواقع، عبر التاريخ كونها ليست نظرة ثابتة وعامة عند الجميع، فقد ظهر شيء نادر الوقوع في التاريخ الإنساني، وهو أن الغالب يسلّم بفكر المغلوب، وليس العكس وينصهر فيه، ويتخلى عن ثقافته وقيمه، فعندما هجم التتار على البلاد العربية والإسلامية، واحتلوا بغداد ومصر والشام وجزءًا من العالم الإسلامي آنذاك، فإنهم أسلموا بعد ذلك، وذابوا في المحيط العربي الإسلامي، وهذا يعدُّ هجرةً لأفكار جاذبة للآخر الغالب لفكر المغلوب، أو انتصارًا لفكر المغلوب، وهذه من الحالات النادرة في التاريخ الإنساني.

ومن المفكرين العرب الكبار البارزين في القرن العشرين الذين اهتموا بقضية الصراع الثقافي، المفكر الجزائري المعروف مالك بن نبي، في العديد من مؤلفاته، منها كتبه: (مشكلة الثقافة)، وكتاب (مشكلة الأفكار)، وكتاب (قضية الصراع الثقافي مع البلاد المستعمرة)، وغيرها من الكتابات والمؤلفات الفكرية والسياسة والاقتصادية، وقد ركز في بعض هذه المؤلفات، على قضية الصراع الثقافي داخل بلده الجزائر، وما نتج عن ذلك من غرس المفاهيم الفكرية للمستعمر الفرنسي، بهدف استتباع هذا البلد لفكر الآخر ونظرته ومنها اللغة التي تعدُّ رأس الأفكار وأجلها، وأعطى هذه المسألة مصطلحًا متميزًا لفهم الهدف الاستعماري، وهي فكرة (القابلية للاستعمار)، بما يستهدفه من تغيير في النظرة النفسية والسلوكية للشعوب التي استُهدِفت من الدول التي قامت باحتلالها قسرًا، وإرغامًا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وهذه الأهداف كما يرى ابن نبي، هي الأخطر من الاستعمار نفسه؛ لأن ذلك يتعلق بتقبل فكره ونموذجه ليسهل له ما يراه في نجاح خطوته الاستيطانية، لتصبح هذه الشعوب تابعًا له في كل توجهاته الفكرية والثقافية، وقابلة بذلك التوجه، ويقول ابن نبي لشرح فكرة الاستعمار لبلوغ أهدافه فيقول في كتابه (الصراع الفكري في البلاد المستعمرة): «الاستعمار قد جاء إلى العالم الإسلامي نتيجة مرض أساسي عندنا، هو القابلية للاستعمار.. وهو نتيجة الصراع الفكري الذي خطط له الاستعمار وأحسن إحكام الخطة.. لقد سلط الاستعمار الأضواء على المشكلات الهامشية، بينما ترك في الظلام كل رؤية منهجية سليمة.. تفتح الطريق أمام حركة التاريخ». كما أكد مالك بن نبي على المفهوم نفسه في كتاب «شروط النهضة»، حيث تحدث عما يسمّيه «معاملين» فعلا فعلهما في الإنسان المستعمَر: «المعامل الاستعماري» و«معامل القابلية للاستعمار».

ولا شك أن النظرة الاستعمارية لها الكثير من الطرق والأساليب المتعددة التي تهدف إلى بسط سيطرته ونفوذه، وتقبل فكره وثقافته، وتخريبه للأفكار الأصلية لهذه الشعوب، وهناك تمايز جوهري بين الدول الاستعمارية في كيفية اتخاذ المواقف وتحويل الفكرة الناجحة والمؤثرة في التطبيق بوسائل ناعمة حينًا، وأحيانًا فرضها بالقوة في أحايين أخرى، وما يراه حقًا لصهر وتخريب ثقافتهم وإقصائها، وهذا كان قديمًا منذ ما يقرب من قرن.. لكن هل أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي طرق متاحة لنقل الأفكار السلبية والمضادة للقيم الأساسية للشعوب الأخرى؟ وهذا ما يجب أن نأخذه في الحسبان راهنًا ومستقبلًا.

مقالات مشابهة

  • المندوبية السامية للتخطيط تعلن انتهاء تجميع معطيات إحصاء الأسر والشروع في مرحلة أخرى
  • هل الأفكار المهاجرة يتم توطينها أم تأتي اختيارًا ؟
  • لأول مرة.. جامعة بنها في تصنيف راوند الروسي للموضوعات «RUR» لعام 2024
  • محافظ القاهرة يعتمد مشروع تقسيم دجلة الجديدة قبلي زهراء المعادي
  • أكثر من 100 رجل وامرأة يعتزمون رفع دعاوى جديدة ضد شون كومز
  • تقسيم غَزة واحتلال بيروت!!
  • الحرس الثوري الإيراني: ضرب إسرائيل جاءت بعد مرحلة من ضبط النفس
  • "أكسيوس": الصواريخ الإيرانية على إسرائيل جاءت بعد تحذيرات أمريكية
  • رئيس منظمة إرادة يناقش مع مسؤول ملف اليمن والشرق الأوسط لدى المفوض السامي لحقوق الإنسان عددا من الملفات الإنسانية
  • أحمد الطيبي: يمكن اغتيال شخص أو فرد ولكن لا يمكن اغتيال الشعوب