سيف الرَّحبي: لا شيءَ بعد الخطيئة الأولى يمكن أن يمازج ماء الفضَّة سوى الغراب
تاريخ النشر: 28th, February 2024 GMT
يستذكر الكاتب سيف الرَّحبي في عمله «عاصفة على جناح متعب» كائن الغراب وهو يعود من زمن الخليقة الأولى إلى الظُّهور مجدَّدًا ليكسر طوق المكان ويحرِّر الإنسان مجدَّدا من معتقله الوجودي [عاصفة على جناح متعب - 59]، فبفضل هذا الكائن، يستنقذ الكاتب نفسه مجدَّدًا من القتل الوجودي الذي تحملنا عليه جبال صارت لشدَّة إبادتها للأقوام مكانًا للجحيم الرَّهيب.
ولطالما ارتبط الغراب في الكيمياء القديمة رمزيًّا بلون السَّواد، لا كحامل فيزيولوجي له، وإنَّما كتعبير عن المراحل الأولى التي تمرُّ بها المادَّة قبل بلوغها لحظة التَّحوُّلات الأخيرة التي يتحقَّق بفضلها المعدن الشَّريف الذي هو الذَّهب. وتستخدم اللاتينيَّة للتَّعبير عن هذا اللَّون الأسود مصطلح النيگريدو (Nigredo)، ويشير هذا المصطلح في الكيمياء إلى مرحلة التَّسويد فيما يقابل الإحراق كمرحلة أولى في طريق صناعة بيضة الفلاسفة. في هذه المرحلة، يجب تفكيكُ المادَّة لغرض عودتها إلى حالتها الأوليَّة، وذلك عن طريق تحليلها من خلال حرقها وتحويلها إلى رماد على النَّار ثمَّ اختصارها إلى جوهرها الذي يُعرف بالزِّئبق الفلسفي. تُسمَّى هذه العمليَّة أيضًا بالسَّحق، أي تجزئة المادَّة وتطهيرها من مكوِّناتها الأولى وإيداعها للتَّخمُّر فترة طويلة قبل مباشرة إعادة عملية الصِّناعة من جديد.
سنواجه في الكيمياء القديمة إذًا مسألتين: التَّسويد كعمليَّة تطهيريَّة للمعدن، ثمَّ الغراب كرمز لهذه العمليَّة. وسيكون أمامنا في هذا المقال أن نتبيَّن رمزيَّة الغراب في كتابات سيف الرَّحبي بما يقابل مفهوم السَّحق الأول لإعادة بناء جديدٍ للعالم، دون التَّعرُّض لدور التَّسويد الكيميائي بالشَّرح والتَّحليل. ولكنَّه قبل ذلك، بودِّنا إلقاء الضَّوء على ما كتبه ابن أرفع رأس بهذا الخصوص وكارل يونغ أيضًا.
يجعل هذا الشَّاعر الأندلسي الغراب في المرتبة الثَّانيَّة من التَّحوُّلات. فبعد أن كان حمامةً، سيتحوَّل إلى غرابٍ ثمَّ إلى عُقابٍ (أو عِقاب) ثمَّ إلى إنسانٍ كامل. يقول في قصيدته الرَّابعة من الدِّيوان (4 : 15-19):
خُذِ البَيْضَةَ الشَّقْرَاءَ، فَانْزِعْ قُشُورَهَا،
فَإنَّ لَهَا تَحْتَ القُشُورِ لُبَابَا
وَخُذْ مَاءَهَا، فَاخْلِطْهُ بالمُحِّ كَيْ تَرَى
حَمَامَتَهُ فِيهِ تَصِيرُ غُرَابَا
فَقُصَّ جَنَاحَيْهِ بِرِفْقٍ، فَإنَّهُ
إذَا قُصَّ عَنْهُ الرِّيشُ صَارَ عُقَابَا
وَطَيِّرْهُ بَعْدَ القَصِّ، وانْصِبْ لِصَيْدِهِ
شِبَاكاً تُسَمَّى في الرُّموزِ قِبَابَا
تَصِدْ مِنْهُ طِفلاً كَامِلَ العَقْلِ سَيِّداً،
وَلَكِنَّهُ إنْ ضِيمَ لاَ يَتَغَابَى
هذه التَّحوُّلات تعكسُ في الواقع عمليَّات الكيميائيِّين الأربع وهي التَّبييضُ والتَّسويدُ والتَّحميرُ والتَّصفير، وذلك قبل الوصول إلى صناعة الذَّهب وهو الطِّفل السيِّدُ كامل العقل، دون أن نأخذ هذا التَّرتيب على وجهه المذكور، فها هو بن أيدمر الجلدكي في شرحه هذه الأبيات يقول: إنَّ واو العطف لا تقتضي التَّرتيب (غاية السُّرور، في القسم الثَّاني من حرف الباء). ولنقرأ له أيضًا نصًّا يستعيدُ فيه صورة الغراب المواري سوأة أخيه في تعبير عن عمليَّة تجزئة المعدن التي تتمثَّلُ في إلحاق كلِّ طبعٍ بأصله قبلَ إعادة جوهر الحياة إليه وهو ماء الإكسير. ويحيل هذا النَّصُّ لوجوب الانتقال إلى النُّضرة والمثال عبر النَّظر في رأي الغراب الذي بحث مصرع قابيل. كأنَّه بذلك، يشير من خلال الدَّفن إلى سحق الحالة البشريَّة الأولى والانتقال بها إلى حالة البعث. يقول (7 : 8-14):
هُنَالِكَ وَارَى قَابِلٌ جِسْمَ هَابل،
بِرَأيِ غُرَابٍ عِنْدَ مَصْرَعِهِ بَحَثْ
فَأَقْبَلَ نَبْشَ الأَرْضِ يَأْكُلُ كُلَّمَا
تَعَفَّنَ مِنْ عُضْوٍ سَمِينٍ لَهُ وَغَثّْ
فَأَلْحَقَ مِنْهُ كُـلَّ طَــــــبْـــــعٍ بأَصْــــــــــلِهِ
وَخَفَّفَ مِنْ أَوْزَارِهِ وَقَضَى النَّفَثْ
فَلَمَّا تَأَتَّى لِلْـحَيَـاةِ قُـبُـــولُهُ
بِفَضْلِ قُوىً فِي خَيْرِ أَعْضَائِهِ نَبَثْ
أعَـدْنَا إلَيْـــــهِ ذَلِـــكَ الجَـــوْهـــرَ الذِّي
يُفَـارِقُهُ شَـــيْــخــاً وَيَبْعَثُهُ حَــدَثْ
فَأَلْــبَـسَهُ ثَـــوْبَيْ بَقَـــاءٍ وَنَــضْرَةٍ
نَضَا لَهُمَا عَنْهُ التَّغَيُّــــرُ والشَّعَثْ
يستخدم ابن أرفع رأس مقابلا آخر للتَّسويد والإحراق والسَّحق وهو التَّشويَّة، (12 : 19-23):
وَذَاكَ هُوَ التَّصْعِيدُ فَاشْوِهِ قَبْلَهُ،
فَإنَّكَ إنْ شَوَّيْتَهُ قَبْلُ يَصْعَدِي
وَلِلْخَلْطِ إحْرَاقَان يَظْهَرُ عَنْهُمَا
سَوَادٌ وَتَبْيِيضٌ، فَبَيِّضْ وَسَوِّدِي
وَعَقْدَانِ عَنْ حَلَّيْنِ لاَ بُدَّ مِنْهُمَا،
فَحَلِّلْهُ واْعْقِدْ، ثَمَّ حَلِّلْهُ واعْقِدِي
وَسَوِّدْهُ تَسْوِيدَيْنِ تَحْظَى بِسِرِّهِ،
وَبَيِّضْهُ تَبْيِيضَيْنِ تَغْنَى وَتَسْعَدِي
فَيَجْمُدُ بَعْدَ الحَلِّ رُوحاً مُجَسَّماً،
مَتَى يَنْبَسِطْ فِي جِسْمِ فَانٍ يُخَلَّدِي
ويمثل التَّسويدُ مرحلة موت الأنا، وهو ما يقابل في كتاب ميلاد الآلهات اليونانيَّة أسطوريًّا حالة الفوضى الأصليَّة التي نشأ منها العالم، فمن الواجب تدميرُ العناصر جميعها حتى يمكن إعادة تكوينها لاحقًا في تركيبة أعلى. يتجسَّدُ هذا التَّسويد في الكيمياء المسيحيَّة أيضًا من خلال تضحية المسيح بنفسه على الَّصليب، حيث يتمُّ تدميرُ جسده وتفريق دمه بحثا عن خلاص العالم. ولذلك، فإنَّ الجلجلة تعني حرفيًّا «محلَّ الجمجمة»، وهي صورة رمزيَّة لحالة التَّسويد الكيميائيَّة. لننظر من جهة أخرى في كتاب تفسير الأحلام كيف يصف ابن سيرين الغراب عندما يقول: الأبقع رجلٌ مختالٌ في مشيته، متكبِّرٌ، بخيلٌ، وهو من الممسوخ. فتمنحنا هذه المفردة ذلك المعنى الذي يفيد بالمتحوّل عن الصُّورة الأصليَّة أو المثاليَّة والذي وقع عليه فعلُ المسخ، فيحتاج قبل الوصول به للحالة الذَّهبية إلى الفصل والسَّحق والإحراق والتَّشوية والتَّذويب وإعادة تهيئته من جديد، هذا فضلا عن كون المواصفات الأخرى تفيد بما هو مدعاةٌ للتَّطهير، فالاختيال والتَّبختر والتَّكبّر والبخل إنَّما هي من العلل التي يقف عليها الكيميائيّ في المرحلة الأولى من العملية لإزالتها طلبا لتطهير المادّة كما يقف عليها الفيلسوف لتطهير الرُّوح.
يقول كارل يونغ: إنَّ النيگريدو (Nigredo - مرحلة التَّسويد) هو التَّسمية التَّقليدية التي يرمز إليها الغراب أو رأس الغراب، وهي (...) تعبِّر عن حالة التَّحلُّل والموت والفصل والتَّذويب. ويمكن أن تعني هذه التَّسمية أيضا الجزء المعبّر عن الكل أو الجزء «الكلّي»، أو «الجوهر»، تماما مثل مفهوم «رأس الغراب الأسود» وقد دلَّ في وقت لاحق على «زئبق الفلاسفة» تعبيرا عن الانتقال إلى حالة من الامتناع الأبدي عن التآكل. وهذه هي صفات طائر هرمس الذي لا يستريح أبدًا، وهو الغراب الذي قيل عنه: اِعلموا أنَّ العنصر الأساسي للفنّ هو الغراب الذي يطير دون جناح في ظلام اللَّيل وفي ضوء النَّهار». إنَّه روح لا تهدأ أبدًا، لا تنام، إنّه الحجر الهوائيُّ الطَّائر، ولهذا السَّبب فهو كائن طبيعي متناقض. إنه «السّماء» وفي الوقت نفسه «ما لفظه البحر». ونظرًا لكونه يسمى أيضًا «بالماء»، يتبادر إلى الذِّهن ماء الأمطار الذي يرد إلينا من البحر وينهلّ من السماء، (وهو ما يوحي بعمليتي التَّبخير والتَّقطير). إنَّ فكرة السُّحب والمطر والنَّدى تعود كثيرًا في النُّصوص، وهذا منذ العصور القديمة.
وفي الواقع لا يبتعد كارل يونغ ولا ابن أرفع رأس عن رأي الشَّيخ الأكبر ابن عربي، ففي كتاب رسالة الاتِّحاد الكوني يقرُّ ابن عربي بأربعة طيور روحانيَّة تمثِّل رموزًا لتحوُّلات المعدن الكيميائيَّة، فأعلى هذه المراحل مرحلة المطوَّقة الورقاء (التَّصفير) وهي الحالة المثالية التي تتجسَّد في الذَّهب (وطوق الورق بكسر الواو هو خاتم الذهب)، وتقع هذه المرحلة حسب التَّرتيب الأفقي آخر المراحل لا أولاها، إلا أن ابن عربي عدّ المراحل بشكل مقلوب احتراما للنُّزول من الأعلى نحو الأسفل، بما يتناسب ومنهج الوحي، ثم تليها نزولا مرحلة العقاب المالك (التَّحمير)، ثم الغريبة العنقاء (التَّبييض) ثم المرحلة الأدنى وهي مرحلة الغراب الحالك التي تتناسب وما سمّيناه بمرحلة التَّسويد التي يقوم منها عالم الجسوم. يقول ابن عربي: فقام الغراب وقال: أنا هيكل الأنوار . . . ومحلّ الكيف والكمّ، وأنا الرّئيسُ المرؤوس وليس الحسَّ المحسوس، بي ظهرت الرّسوم، ومني قام عالم الجسوم، أنا أصل الأشكال، وبمراتب صوري تُضرب الأمثال (...)، وأنا اللَّاحق الذي لا أُلحَق، كما العقاب السّابق الذي لا يسبق، هو الأوَّل وأنا الآخر، وله الباطن ولي الظّاهر، قسم الوجود بيني وبينه، وأنا أظهرت عزّه وكونه، توقّف عليّ حكمه، وسرى منه علمي، وسرى فيَّ علمُه. . . . “.[رسالة الاتِّحاد الكوني في حضرة الإشهاد العيني؛ 104-105].
وإذا كان المقال لا يكفي لتحليل هذه الفقرة، فإنَّنا نكتفي بالقول إنَّ الغراب هو ظاهر المادَّة قبل السَّحق، فإذا سُحقت وكُشِفَ باطنها صارت عقابا وهو الذي سرت أجزاؤه في المعدن المسحوق، وسرت أجزاءُ المعدن المسحوق فيه.
ويُفسِّرُ بن أيدمر الجلدكي علاقة الحمامة بالغراب في شكل تقنيٍّ جدًّا خلافًا لابن عربي، فالحمامة هي الآلة التي يحصلُ البكاء من عينيها (وهو الإنبيق)، والطَّوق الذي يتحلَّى به هو العرق الصَّاعد المتوقِّف على القطر، والنَّاعق الغُراب هو السَّواد السَّابقُ على الخضرة والمحيط بها (...) وعليها من الماء الصَّاعد ما ينفعه إلى طوق الورقاء، وهاتان العلامتان يستبشر بهما الطَّالب ظهورَ الخضرة في الوسط وإحاطة السَّواد به وعليه منحل يصعدُ إلى طوقٍ ثم يبتسم البرقُ وتبكي الودق.
وإذا نظرنا من هذا الباب في كتابات سيف الرَّحبي، فإنَّ ما استخلصناه من هذا المبدأ يتجلَّى من علم أو من دون علمٍ في ما يكتب، فلا هو فيلسوفٌ درس الكيمياء، ولا كيميائيٌّ خبر الموادّ، ولكنَّه شاعرٌ أخلص اللِّقاء مع الخيال فآتاه من المعارف ما اتَّفق لدى الإنسانيَّة منذ قدمها من الأحلام والأفكار الأولى.
لنلاحظ بداية أن الشَّاعر يقرُّ -في مختلف الاستخدامات الرَّمزيَّة لهذا الكائن- مسألتين جوهريَّتين لهما علاقة مباشرة بالكيمياء: كون الغراب عنصرًا لأجله تدخَّل الصَّانع ليجعله تجربة أولى وأساسيَّة للإنسان، ومفردة الصَّانع مصطلح استخدمه ذوو الصَّنعة الكيميائيَّة، أمَّا المسألة الثَّانيَّة، فالغراب هو مسوَدَّة خطَّت عليها التَّجارب الأولى لوجود البشر، وتكون بذلك في مفردة مسودَّة إشارة إلى التَّسويد. يقول: ربما كسب الغراب، كائن القِدم، ومعلّم البشرية كيف تداري سوأتها، أحقيته الأولى في الانتماء إلى عصورها الجيولوجية السحيقة: (...) وكأنَّما الصَّانع - قبل أن تمتدّ إليها يد التَّحديث والتَّقدم - صنعها كتجربة أولى، مسودَّة وجودٍ لأرض البشر اللَّاحقة. [1، 3]
ولنرى حقًّا كيف يعبِّر الكاتب من جهةٍ أخرى عن التَّحول المعدني للغراب بشكل مثير للغرابة: غُرابٌ في غَسقٍ دمويٍّ / يهمُّ بالنُّزولِ على شجرةٍ / لا، إنّ هذا الطائرَ الفاحمَ / أكبرُ من غُرابٍ / يمكنُ القولُ إنَّه غدافٌ / قادمٌ من أزمنةِ الطُّوفانِ الأولى. [3 - 164].
من يقرأ لتفسير الأحلام، سيلاحظ ذلك الجوهر الباطني الذي يتَّفق فيه الحالمون من المسلمين على الأقلّ والكاتب، فالغراب الذي يحطُّ على الشَّجرة ثمَّ يتحوَّل إلى غداف باعتبار أنَّ الشَّجرة هي رمز المرحلة الذَّهبيَّة إنَّما هو تأويلٌ يفيد لدى ابن سيرين بأنَّ شخصًا يريد خداع نفس الرَّائي، وهي حالةُ تسويدٍ قويَّةٍ لجوهر النَّفس لا شكّ. إلا أنَّ الأغرب حقًّا هو أنَّ هذا الانتقال للغراب إلى هيئة أخرى لا يتمُّ بأيِّ واسطة، كأنَّه تحوُّلٌ جوهري لا يتمُّ بأيِّ تدخُّلٍ خارجيٍّ، يقول: وأنتَ هنا، محَدِّقاً في الطُّيورِ / التي تحملُ في مناقيرِها العواصفَ، اعوجاجٌ / لا تنقُصُهُ الاستقامةُ / غُرابٌ يتقمَّصُ هيئةَ عصفورٍٍ بلا واسطة / وأنتَ هنا أوْ هناك / جالِسا أو ماشِيا / فوقَ الجبالِ أو في أسفلِ السُّفوحِ. [1 - 142].
كان من المفروض حقًّا أن يتقمَّص الغراب شكل العقاب عوض هيئة العصفور، وذلك في محاولةٍ للتَّقدُّم بالمعدنِ نحو المثاليَّة، إلَّا أنَّ الكاتب يبدو أنَّه يعود القهقرى نحو حالة ما قبل الغراب، كما فعل ابن عربي في ترتيبه للطُّيور الرُّوحانيَّة من الصُّورة الأكثر ذهبيَّةً والأعلى إلى الأكثر تسويدًا والأسفل.
في مواجهة مباشرة مع عالم الطُّيور وهو سائحٌ بين الجبال، تلتقي المفارقات لدى الشَّاعر في نقطة واحدة، وتختفي الأضداد، ويصبحُ الوجود عاريًا من حقيقته الضديَّة، حيث الحالة الفردوسيَّة الأولى تتجلَّى خاليةً من قيم الخير والشَّر، وحيث المماثلة فارغة من المقابلة، إنَّها لحظة ابتداءٍ حيث لا نعرف للخطِّ ماهيةً فالاعوجاج استقامةٌ، والظُّلمة ضوء، والكائنات في مطلقها هي واحدة. يقول ابن أرفع رأس (4 : 32):
هُوَ الطَّائِرُ السَّهلُ المُرَامُ وُقُوعُهُ
عَلَى مَنْ إلَى أَلْوَانِهِ يَتَصَابَى
ينبغي من جهة أخرى أن نفهم حقًّا ماذا يقصد بالواسطة، ومن هو هذا الواسط الذي ينبغي أن يقوم بتحويل الغراب إلى عصفور من الخارج. فعادةً، تتحوَّل الكائنات لدى الكاتب من خلال فعلٍ يقوم العقاب به أمام الغراب كقتله مثلًا أو افتراسه، كما هو الحال في الصَّفحة [1، 69]، عندما تخنق الحداءاتُ وهي نوع من الطُّيور الجارحة غرابا بربطةِ عُنُقٍ [1، 69]. أمَّا أن يكون التَّحوُّل من الدَّاخل، فهذا يشبه ما تكون عليه عمليَّة النَّشأة وليست عمليَّة التَّركيب.
لنعُد إلى تلك الآية القرآنيَّة حيث أخذ إبراهيم أربعة من الطَّير وجعل على كلِّ جبلٍ منها جزءًا، فلمَّا تفرَّقت الأجزاء بالجبال، ودعاها إليه، اِلتحق كلُّ جزءٍ بالكلِّ وهو يأتي إليه سعيًا حثيثًا في عمليةٍ من عمليات إحياء الموتى. ولقد جاء في الأثر عند المسلمين أنَّ هذه الطُّيور الأربعة هي الحمامة والدِّيك والطَّاؤوس والغراب. هذا الأخير الذي يظهر أساسيًّا وكليًّا، سيتحوَّل في شعر سيف الرَّحبي إلى جزءٍ متجزِّئ في انقضاء تامٍّ للتناقضات، ممَّا يظهر حقًّا حالة التَّفرُّغ الوجودي لهذا الشاعر باحثًا عن التَّماثل الكوني الأوَّل.
ليس هذا فحسب، بل ستقوم حداءات الشَّاعر بعد أن تخنق الغراب بإفراد أجنحتها في رحمِ امرأةٍ [1، 69]، وذلك في مهمَّةِ إنجاز المرحلة الثَّالثة من حالة التَّصحيح وهو التَّحمير داخل هذا الرَّحم المقصود به التَّنُّور الذي تنصهر فيه المواد والمعادن. تتكرَّرُ صورة التَّنُّور مرَّة أخرى في مفردة البطن المعتم الذي لا تُولَدُ منه الأنوار فحسب، بل أيضًا كون الكائنات برمَّتها، كأنَّ هذا البطن إنبيقٌ تتولَّد فيه ومنه المعادنُ الأولى وهي مضيئةٌ، يقول متحدِّثًا عن توأمي الحلكة والغراب: إنَّ لونَه «الحالكَ حلكة اللَّيل العميق، (هو) توأمُه الضَّارب في القِدم والأسطورة التي وُلد من بطنها المعتم كونُ الكائنات بأكمله، وُلد النُّور والمحيطاتُ وكذلك الإنسانُ، (فـ)ـما قيمة الغراب من غير ذلك السَّواد ؟ [3-114].
إنَّه حقًّا مثيرٌ للتَّساؤل أن يتحوَّل السَّواد إلى مصدرٍ للنُّور، والغموض إلى مصدرٍ للحقيقة، والغراب إلى إنسان كامل العقل. سنجد عبارة مثيرة للانتباه أيضًا في ذلك العنوان الذي صدَّر به الكاتب أحد كتبه وهو يسرد فيها مرحلة الكوفيد، كأنَّه يستنطق عصر الموت كينابيع حياة، إنَّه النُّور المنبعث من نبوءة الغراب.
د. الهواري غزالي أستاذٌ محاضرٌ بجامعة باريس
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی الکیمیاء الغراب فی ابن عربی ة الأولى ة الغراب الذی لا من خلال الذی ی ة أخرى ة التی راب فی
إقرأ أيضاً:
ترامب يدمر مكتسبات لا يمكن ترميمها
لم يعد الضرر الذي يسببه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضررًا عابرًا يمكن إصلاحه بانتخابات قادمة أو حتى بأخرى تليها؛ فالتصدعات التي أحدثها قد تحتاج إلى جيل كامل أو أكثر لمعالجتها.
لفهم حجم الخلل الذي باتت تعانيه الولايات المتحدة في ظل ولاية ترامب، قد يكون من المفيد العودة إلى حقبة الحرب الباردة. آنذاك، رغم الخلافات الحادة بين الجمهوريين والديمقراطيين بشأن كيفية التعامل مع الاتحاد السوفيتي، سواء فيما يتعلق بالإنفاق العسكري أو ضبط التسلح أو التدخل في النزاعات التي تخص حلفاء موسكو، إلا أن ذلك لم يكن يمس الثوابت الكبرى.
فعلى مدار عقود، ظل الحزبان متفقين على أهمية حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وعلى اعتبار الاتحاد السوفيتي تهديدًا وجوديًا للأمن القومي الأمريكي، وتمسكا معًا باستراتيجية الاحتواء، بهدف كبح جماح التوسع السوفيتي والاستبداد الذي يمثله.
لم يكن واردًا في أي انتخابات أمريكية أن يُعرض على الناخبين خيار بين مرشح يدعم الناتو وآخر متعاطف مع المعسكر السوفيتي. مجرد ورود الفكرة كان مستحيلا. فالانتخابات قد تغيّر السياسات، لكنها لم تكن تهدد التحالفات أو الهوية الوطنية الأمريكية.
لكن اليوم، ومع ترامب، بات ذلك ممكنًا.
ففي مشهد غير مسبوق شهدته أروقة البيت الأبيض مؤخرًا، شن ترامب ونائبه جي. دي. فانس هجومًا مفاجئًا على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وأمام عدسات التلفاز اتهم فانس زيلينسكي بعدم الاحترام، بينما وجه ترامب سهامه نحوه قائلًا: «أنت تغامر بحياة الملايين، وتفتح الباب أمام حرب عالمية ثالثة، وما تفعله ينطوي على قلة احترام لهذا البلد الذي منحك من الدعم أكثر مما يعتقد البعض أنه يستحق».
لكن هذه الواقعة لم تكن سوى محطة جديدة في مسلسل عداء ترامب لحلفاء الولايات المتحدة. فالرئيس السابق، العائد إلى سدة الحكم، وجّه رسالة صادمة للشركاء الاستراتيجيين حول العالم مفادها أن أمريكا قادرة على تبديل مواقفها والاصطفاف مع ألدّ أعدائها، وربما ينتخب الأمريكيون من يتخلى عن التحالفات التقليدية ويقف إلى جانب الأنظمة القمعية والخطرة.
وحتى لو تمكن الديمقراطيون من تحقيق انتصار كاسح في انتخابات منتصف 2026 وأزاحوا الجمهوريين عن البيت الأبيض في 2028، فإن أثر هذا الدرس سيبقى حاضرًا. إذ بات واضحًا أن استقرار التحالفات الأمريكية مرهون بنتائج الانتخابات، وأن الوعود قد لا تصمد أكثر من ولاية رئاسية واحدة.
في ظل هذه الحالة من التقلّب، كيف يمكن بناء إستراتيجية دفاعية طويلة الأمد؟ وكيف يمكن رسم سياسات تجارية مستقرة أو إنجاز دبلوماسية مستمرة؟ فالاتفاقات التي قد تلغى بقرار من إدارة جديدة، هل يمكن أن تظل محل ثقة القوى العالمية؟
بالتزامن مع هذا التحوّل في السياسة الخارجية، قررت إدارة ترامب إلغاء آلاف العقود المخصصة لتمويل برامج مكافحة الملاريا وحملات التلقيح ضد شلل الأطفال وعلاج السل ومراقبة الأوبئة وتقديم الرعاية في مخيمات اللاجئين. وإذا بقيت هذه القرارات سارية، فإن الولايات المتحدة ستتخلى عن شبكة إنسانية عملاقة أنقذت أرواح الملايين.
ولا يختلف المشهد كثيرًا في الشأن الداخلي؛ فحملات الإقالة الواسعة في أجهزة الدولة، والعفو عن حلفاء ترامب السياسيين المدانين، والسعي لإغلاق مؤسسات أنشأها القانون، جعلت السياسة الداخلية رهينة النزوات ذاتها.
كيف لدولة أن تخدم مواطنيها وهي تعيد هيكلة جهازها الإداري كل أربع سنوات؟ وكيف لها أن تغلق وتعيد فتح وكالاتها الحكومية تبعًا لدورات الانتخابات؟
لقد حذّر كثيرون، وأنا من بينهم، من أن ترامب يسعى إلى ما يشبه ثورة دستورية تضع الرئيس في موقع السيادة المطلقة، خارج حدود القانون. ولعل أحداث السادس من يناير كشفت بوضوح عن تعطش ترامب للسلطة واحتقاره الصريح للمؤسسات.
ومع توالي تداعيات أفعاله، ندرك اليوم لماذا حرص الآباء المؤسسون على ألا يكون للرئيس سلطة منفردة. فقد أدركوا خطورة إدارة بلد واسع ومتنوع بقرارات فردية.
وفي هذا السياق، أوصي بالاستماع إلى حديث الباحث يوفال ليفين مع الصحفي عزرا كلاين، الذي أوضح فيه أن الرئيس، رغم انتخابه، لم يُوضع ليكون الممثل الأوحد للأمة. فبلد بحجم الولايات المتحدة لا يمكن أن يمثله شخص واحد، بل مؤسسات تعددية كالكونجرس.
وأضاف ليفين أن «الدستور الأمريكي بُني على قاعدة حكم الأغلبية، مع الحذر من أن تتحول الأغلبية إلى خطر على الأقليات، لذا جاء النظام ليجبر الأغلبية على التوسع والاعتدال قبل أن تمارس سلطاتها».
وحين يعمل النظام كما يجب، يكون التغيير صعبًا وبطيئًا، لكنه أيضًا دائم ومستقر. وهذا أمر إيجابي. تخيلوا لو كان استمرار برامج كبرى مثل الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية مرهونًا بمزاج رئيس واحد!
في الواقع، دور الرئيس الحقيقي هو إدارة المؤسسات التي ينشئها الكونغرس، ورعاية الاتفاقيات التي يقرها مجلس الشيوخ، لا أن يقرر وحده استمرارها أو إنهاءها. وإذا تمكن ترامب من تنفيذ رؤيته، فقد تجد المعارضة الديمقراطية فرصة للعودة، لكن استعادة الاستقرار الوطني لن تكون سهلة ولا سريعة. لهذا السبب، تبقى المعارك القانونية الدائرة الآن شديدة الأهمية. فالمحكمة العليا لا تستطيع فرض دعم ترامب لأوكرانيا، لكنها قادرة على حماية العقود الحكومية، والدفاع عن الموظفين من الفصل التعسفي، ومنع العبث بالمؤسسات التي أُنشئت بقوانين الكونجرس. بكلمات أخرى، يمكنها حماية النظام الدستوري.
ومع ذلك، حين أتحدث عن «النظام الدستوري»، أشعر بأن المصطلح قد يبدو أكاديميًا ومعزولًا عن الواقع. لكن الحقيقة أن ترامب، عبر تقويض هذا النظام، يهدد استقرار الولايات المتحدة نفسها.
لقد وقع الضرر فعلا. والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم: كم من الانتخابات سنحتاج قبل أن يصدق حلفاؤنا من جديد أننا شريك يمكن الوثوق به؟
وبوصفي محافظًا، لطالما آمنت بمبدأ «سياج تشيسترتون»، الذي يذكّرنا بأهمية معرفة سبب وجود أي نظام قبل التفكير في تغييره أو إزالته. فالتغيير المدروس يتطلب فهم الأسس التي بُني عليها الحاضر.
لكن ما يفعله ترامب الآن لا علاقة له بالحكمة أو الحذر؛ إنه يهدم الأسوار وهو مستمتع دون تفكير. ومع كل مؤسسة يطيح بها، يدمر الثقة. والثقة، حين تنهار، يصعب ترميمها.
ديفيد فرينش كاتب متخصص في قضايا القانون والثقافة والدين والنزاعات المسلحة، وهو من قدامى المحاربين في حرب العراق ومحام سابق في القضايا الدستورية. من مؤلفاته الأخيرة: «إذا انقسمنا سقطنا: تهديد الانفصال في أمريكا وكيفية إنقاذ الوطن».