بألقٍ وحفيفٍ رقيقٍ طلعت زهرةُ لوتسِ من غمْر نهرٍ عارمٍ فيَّاض، وانتشأت الكتابة.
لطالما جالَ بخاطري أن عشق اللغة -إذا حُقَّ- هو في كُنهه ولعٌ عتيقٌ جَذِلٌ بالموسيقى الكونية مثلما هو توقٌ إلى سبْر الأصولِ التي انبثقت منها المقاصد الأُولى لكل نبرة ولكل حرف ولكل كلمة، وهو أمَارة نزيهة على جلاءِ حدْس عاشق اللغة وسلامة غريزته ورهافة حواسه لالتقاط البوْح الحيّ للألفاظ.
ارتضيتُ دومًا الاعتقادَ المألوف بأن الطلاسم والألفاظ السحرية في الحكايات القديمة مُصاغة حصرًا من كلماتٍ وحروف يهتف أو يهمس بها الشخصُ فيُجاب؛ لكن ألا يمكن أن تكون حقيقة الأمر على غير هذا؟ ومَن يدري فلعلَّ بعض الطلاسم لم تكن إلا صفيرًا أو دقاتٍ أو أي مُنغَّماتٍ مُجرّدة مُطلَقة يكمُن مفعولُها في منطوقها لا في معناها. الطلاسمُ التي نُسِيَت؛ ما الذي حُجِبَ بنسيانها وزال! اللغاتُ التي ماتت؛ ما الذي رافقَها فاندثرَ واختفى؟
تبدو لي بعض كلمات اللغة العربية كما لو أن لها روائح، وفي هذه اللغة لي كلمات أحبها لِذَاتها وفي ذاتها؛ مثل كلمة «يُـغْـدِق» (وتصريفاتها) ومثل بعض الأسماء المنتهية بألِفٍ مقصورة مثل «رضوى» و«أروى» ومثل الفعل «أضوى»، ومن الكلمات التي أمالت قلبي، وأنا صبي، كلمة «فدائي»، وما زلتُ أطرب لكلمة «فداء، افتداء». ولي في العربية أيضًا كلمات لا أشعر بها ولا أستسيغها؛ مثل كلمة «يَراع» وكلمة «حميم»، وتوجد كلمات أنفرُ منها ولا أتوقَّع الجيّدَ ممن يستعملونها في صياغة كتاباتهم؛ مثل الفعل «جعل، يجعل»، خاصةً حين يُستخدم كفعل مساعد، فيكتب أحدهم مثلا: «وجعل يأكل، وجعل يمشي» الخ.
أبهجتني دائمًا الإشاراتُ والتراسُلاتُ المبثوثة في النصوص الأدبية بل كذلك في الفنون كلها وفي الحياة عمومًا، إذا كانت مدسوسةً بعنايةٍ وعُلُو كأنها وِصالٌ حَيّيّ بين النص وقُرّاءٍ شبيهين بكاتبِهِ أو ذوي قُربى لِطيْفِهِ الأدبي، ولَكأنها سِقايةٌ بالتلميح والإيماء والإضمار إلى نصوصٍ شقيقةٍ مَطويّةٍ في سابق الزمان أو حاضرِه أو آتيِهِ، ومن هذه الإشارات والتراسلات ما يُطْلِق روحَ النص ويرفده بروابط تحتيَّة وما يمنح تأويلَه إثراءً وإكثارًا من دون أنْ يأثم بالوقوع في توجيهه. وأعياني، بالمقابل، الجدالُ عن شكلٍ ومضمون. شكلُ الرسالة صِنوٌ لغايتها، والشكلُ هو أولُ المحتوى وليس له في الكتابة أن يُناقِضه. هل يوجد ثمة معنى منفصلٌ عن الكلمات، بحذافيرها، التي صاغته؟ هل لا يتغيّر المعنى إذا لم تتغيّر الكلمات التي صاغته، إنّما يتغيَّر فقط نسقُ صياغتها؟ هل يمكن التعبير عن المعنى نفسه باستعمال كلمات مختلفة أو باعتماد ترتيبٍ أو تراصٍّ مختلف للكلمات نفسها؟ هذا إذا كان المقصد هو الدِّقّة التامة في التعبير عن المعنى المراد وليس عن معانٍ تقريبية أو رديفة؛ ذلك أن الدقةَ التامة هذه هي في يقيني أصلٌ مكين من أصول الحضارة. أثناء دراستي الجامعية بكلية طب قصر العيني، المقرّرة رسميًا باللغة الإنجليزية؛ كانت حاجتي هي أن تكون كل معلومة أدرسها مُصاغة في تعبير واضح بنسبة مائة في المائة كي أقدر على حفظها واستذكارها، وهذا كان يعني لي ضرورة وجود المعلومة إمّا في صيغة الإثبات التام أو النفي الصريح، أمّا المعلومات التي أتت صياغتُها في الوسط بين الإثبات والنفي فكانت مُحيِّرةً وعسيرةً، وقد صادفتني آنذاك تعبيراتٌ مثل «it is not uncommon to see... to find... to...»، أي «ليس من غير الشائع أن...»، وهي صياغة لا يصحّ إيجازُها أو تقريبها إلى صيغة إثبات مثل «من الشائع»، ولَطالما أربكتني في دراستي تلك العبارةُ الإنجليزية ونظيراتُها، ذلك أني كنتُ أراها غير حاسمة بالإثبات أو بالنفي حسب ما تطلّبتُ؛ أفكان إذا من الممكن أن يصيغ الكاتبُ عبارتَه تلك صياغةً أخرى بديلةً أكثر صراحة لكي يتمكّن تلميذٌ من استذكار المعلومة بسهولة؟ لا-مُطلقًا، فلم يكن أمام الكاتب، وهو يكتب معلومةً علمية دقيقة مُحدَّدة، إلا تلك الصياغة الصعبة المركَّبة التي لا ينضبط المعنى المراد، مع ذلك، بسواها حتى لو لم يُرحِّب بها التلميذُ واتهمَ كاتبَها بالحذلقة أو بالجنوح إلى التعقيد والإعسار! إذا كان هذا هو مبدأ الكتابة في النصوص العلمية فالنصوص الأدبية أجدر وأوْلى به إذْ تستمسكُ بأن ليس في الإمكان التعبير عن المعنى نفسه بكلمات أخرى أو حتى بالكلمات نفسها إذا زُحزِحت مواضِعُها. وبكلمةٍ؛ فإنه حيثما تنقُص جودةُ ودِقة وصرامة ووعي الكتابة، يمكن أن تحلَّ صياغةٌ محل أخرى وأن تُستبدَل مُفرداتٌ بغيرها، من دون أن يتأثر المعنى المراد كتابته.
كُلّما قرأتُ أو سمعت تحبيذًا عموميًا لِما يُسمّى اللغة «العارية» أو «المتقشِّفة» في الأدب أتوجّسُ جزعًا. تمتاز لغة الصحافة والقصص الصحفية عن لغة الأدب بفاعليتها المنجِزة ووضوحها التام وقدرتها على الوصول من أقصر السبل إلى مقاصدها ومعانيها بحسمٍ لا تأويل له ولا ظلال، وهذه كلها، وغيرها، خصائص مناقِضة للغة الأدب، لكن بسبب سهولة الإمساك باللغة «المتقشِّفة» للصحافة، قراءةً وكتابةً، مالَ إليها كثيرون من الطبقة الشعبوية للآدب، قُرّاءً وكُتَّابًا على السواء، واعتُبرت من قِبلِهم هي النموذج الأعلى للكتابة الأدبية. وقد تسمَّمت الكتابةُ الأدبية بتكاثر السمات الصحفية في لغتها باطرادٍ تماشيًا مع ازدياد تغوُّل الفسطاطِ التجاري والغوغائي في الأدب وتعاظُم فسطاطِ الاستعمال السياسي له.
في ظنِّي أنّ كتابةَ سطرٍ من الشعر الحقيقي تستلزمُ، بالأساس، حدًا لا متناهيا من الورع والمروءة، ناهيك عن النُّضج والموهبة والتأهُّل الشخصي للمكانة السامقة، وتستحق وتستوجب -هذه الكتابة لسطرٍ من الشعر الحقيقي- أن تنال كفايتَها من الاختمار والاستواء في ما يُلائمها من الحضانة والكفالة الـمُناظِرة لحضانة وكفالة الرحِم، وأن تُحرَس بالعكوف والانتباه والحدس، إلى أنْ تنبثق فتُشِّع بألقِها المستديم الباقي، أمّا ما يكون غير ذلك، تحت اسم الشعر، فهو تبديدٌ وإهدارٌ ومُغافَلة. الشعراء الحقيقيون، النادرون، يعرفون أن الاستعارات هي من أعمال السِّحر وأن سحرها نافِذٌ ومقيم وأن فيها سرا أصيلا من مباهج الشِّعر، لكن المُلفِّقين تدبّروا بوسائلهم إنتاجَ كميات مهولة من استعاراتٍ مزيَّفة ورديئة حتى عُطِّلت الاستعارة وهي جوهر وابتُذِلت ومُحِقت وهي فنٌ وسِحرٌ ومكمنُ نشوات. لا تترادف بالضرورة القصيدةُ مع الشعر، بل قلَّما عُثِر في القصائد على الشعر الذي قد يحلُّ في سردية قصة أو رواية أو في لوحة أو مشهد سينمائي أو في غير ذلك من حوادث الحياة. يبدعُ الشاعرُ الحقيقي الشعرَ لا القصائدَ، يجسِّد الشعرَ ويحياه، ويعبُر أزمنةً وإنْ عسُرَ عليه عبورُ يومِه. وإذا كان للكلمة طاقة السِّحر والقدرة على اجتراح الخلْق فهذه الكلمة إنما هي بحوْزةِ الشاعر، الذي ما هو بصائغٍ عذبِ اللغة فحسب، وما هو برؤيويٍّ مُقتدرٍ على التعبير والإبانة بموسيقية وإدهاشٍ فحسب، إنّما هو بالأصل كائن مُتمَلِّكٌ ذاتَه، مهما لاحَ من ضَعفه، كأن له وُجوديْن، ومُتمَلِّكٌ التأليفَ بلُغته الشخصية المُمضاةِ منه والطالِعة من الصميم ومن البكارة كأنها لُغة لم يسبق لها قبله وجود.
لا أراني من نُصراء الأدب الواقعي (ما يمكن بالأحرى أن يُسمّى «الواقعي الواقعي»، مرتيْن)، الناقلِ لِما يُظَن من قِبل بعض الكُتّاب وبعض القُرّاء أنه الواقع بلحمِهِ وشحمِه، إذْ يبدو لي أنه يخدعنا. يخدعنا ويسلبنا هذا الأدبُ الواقعي إذْ يعجبنا، وقد وقعنا في خلْطٍ حين يُلهينا اهتمامنا بالحكاية عن افتقار سردِها إلى فنون الأدب، فيتحصّل على استحساننا؛ غير أنه لا يتحصَّل حقًا، في غالبية الأحوال، إلا على شغفنا الإنساني العام من جهة تأثُّرنا كقُراء بالموضوع وتفاصيله إذا كان الموضوعُ خلَّابًا قويًا من الوِجهة الإنسانية، بينما قد لا يمتلك ذلك النَّصُّ الواقعي نفسُه الجدارةَ الأدبية والفنية بالضرورة، فلا يستحق استحسانَنا المجرَّد الحقيقي ورضانا الفني كلّما حُيِّدت مزايا الموضوع.
تتضاءل توقعاتي إزاء جودة أي نص نقديّ أدبي إذا تعثّرتُ فيه بمصطلح «يُوظِّف» أو «توظيف»؛ ذلك أن هذه الكلمة، بما فيها من معاني «التخديم» و«عَمْدية التخديم»، تبوح بنوعية معتقداتِ الناقد عن ماهية الكتابة وتكشف عن متطلباتٍ استنفاعية له منها باعتبار فنون وعناصر الكتابة الأدبية خوادِم. يتأبّى الأدبُ أن يكون وسيلةً أو أن يقدّم خدمات؛ فلا التزام له سوى أدبيته. ولحُسن الحظ لم تعد تصادفني عبارة «الأدب الملتزم»، بإيحاءاتها المخاتِلة، التي طالما اقترنت بالجماعات السياسية، وكان المراد منها دومًا هو إتاحة الإبداعات الأدبية لأجل خدمة أغراضٍ وتسريب دعاياتٍ وتضمين مبادئَ، وِفقًا لتصوُّرٍ فحواه أن الأدب أداةٌ يمكن بسْطُها أفخاخًا لصيْد ونهْب عقل القارئ ووجدانه. وهذا هو أيضًا، إلى حدٍ ما، شأن ما يُسمَّى الأدب الرمزي، بما ينطوي عليه من استعمالية ومن استخفاف بل إزراء بمكانة الأدب وباستعصائه على التوظيف أو أداء مهام. كذلك يترفّع الأدبُ وأهْلوه عن المثول في مضمار سباق، اللهم إلا لو بَرَزَ للسباق محكِّمون وقُضاة وحكماء يستأهلون أن تُضرب عليهم قبابُ كقباب سوق عكاظ ذاك الذي كان بعضا من شعائر الحج القديم؛ ذلك أنّ الجوائز اللاعبة في السوق الأدبي مهما تسامت لا تفلت من لزومية الظلم بها ولا تبرأ من غايتها كأداةِ تسليعٍ للأدب. ولعل من دواعي الفطنة أن يهنأ أدباءُ العالَم الحقيقيون لِكونهم قد أفلتوا من الفوز بجائزةٍ سياسية مموَّهة هي جائزة نوبل للأدب التي لا تجترئ فحسب على التلاعُب بالأدب وكُتّابه بل تنهب سُلطةَ تقدير الجدارات والطبقات الأدبية وتروِّج مُفضلّاتِ رُعاتِها الآنية بأسواق الترجمة والنشر وتتدخّل كذلك بمتطلباتها وبسطوتها في إرساء الأولويات الأدبية للقُراء والكُتّاب. جائزةُ الكتابة للكاتب ليست تُضارَع إلا بلَذةِ وِصال حبيبةٍ وحبيب؛ لا شأن لثالثٍ بها.
أعتقدُ، في فؤادي، بوجود الإلهام. إذا افترضنا أن شخصا قد توصّل إلى فكرةٍ جديدة -فنية أو علمية أو اجتماعية الخ- ثم مات هذا الشخص قبل أن يجهر بفكرته؛ فما الذي يحدث لهذه الفكرة؟ جوابي الشخصي هو أن هذه الفكرة -بذاتها- ستنتقل إلى عقل أو وجدان شخصٍ آخر يُقارب عقلَ أو وجدان الشخص الذي مات، وهذا الشخص الآخر سيتلقى هذه الفكرة كإلهام. أمّا إذا لم يُوجد هذا الشخص الآخر، المثيلُ عقليّا ووجدانيّا للميت صاحبِ الفكرة، فإن الفكرة قد تتحوصل وتبقى هائمةً نصفَ حيةٍ نصفَ ميتة حتى تُتاح لها ظروف إنعاشها وانطلاقها، كإلهام.
*
العدوانُ الصهيوني فائقُ الشراسة والحقدِ على الفلسطينيين أعاد طرحَ مسألة وجودية: أتكتبُ أم تنحني لتُزيح وترفع ركامَ البنايات التي قصفتها الصواريخ فاندفن تحتها أحياءٌ بالآلاف لا سبيل إلى إنقاذ معظمهم؟! معضلةٌ نشأت فأسعفني ما كنتُ قد دوَّنتُه في دفتر يومياتي، ذات يوم بعيد بالقرن الماضي: «إذا أخذنا في الاعتبار المآسي والكوارث التي تحيق بالبشرية وتحدث لها كل يوم فسيصعبُ أن نجد الشجاعة والمروءةَ للحديث عن جدوى الكتابة أو جدوى الفنون أو حتى جدوى أي عمل فردي، ومن المؤكد أن طرْح الأمر على هذا النحو ينطوي على ضيْمٍ لكل الأطراف؛ الكاتب والكتابة والقارئ والعالَم، فإذا كانت هنالك حياةٌ تُفقَد ودماءٌ تُنزَف وآلامٌ ومواجع بغير حصْر، وكان هذا هو الحد الأول فهل يمكن وضْع «الكتابة» في هذا الفخ لتكون هي الـمُعادِل وهي الحد الآخر! لا؛ فالكتابة ليست أكبر من كوارث البشر، ولكنها ليست أصغر منها، والكتابة لا عُقدة لديها تجاه جدواها، وما انبغى أن يكون لها مثل عقدة الذنب هذي، ولو كانت الكتابة هي مجرد رسالة يؤديها الكاتب لَكان يحقُّ عليه التزام الصمت أحيانًا، بل كثيرًا، تجاه مصائب البشر، ولكن الكتابة تتجاوز منطقَ الرسالة ومنطق المنفعة المتعمَّدة، مثلها كمثل الرجل والمرأة اللذين ينجبان طفلاً للعائلة فهُما لا يقصدان تعويضَ البشرية عن طفلٍ هَلَكَ في مجاعةٍ أو حرب أو مرض أو غير ذلك، إنهما لا يتعمَّدان هذا المنحى الكُلِّي الذي لا يخطر لهما على بالٍ، ولا يقصدان أن يقدِّما منفعةً عامة في الوقت نفسه الذي يقدِّمان فعليًا هذه المنفعة العامة بعفوية، ويغدو الحديثُ عن الجدوى أو الرسالة ممجوجا لأن الجدوى والرسالة مطويَّتان مُخبّأتان مدسوستان باحترازٍ يصون الكرامة؛ كرامة الكاتب والكتابة وكرامة الذين يتلقونها ويفضُّونها ويضيفونها إلى أنفسهم.
لماذا أكتبُ؟ أكتبُ للوصول إلى معرفة. فالكتابة كالقراءة، أداة للوصول إلى تَلقّي معرفة، وليس إلى توصيل معرفة، فالكاتب بينما هو يكتبُ يعرفُ؛ يعرفُ ما لم يكن يعرفه قبلا. الكتابة مملة ولا تناسبني إذا كنتُ سأكتبُ ما أعرفه أو إذا كنتُ أتصوّر أني أريد إفادة الآخرين أو إفاقتهم أو إعلامهم بما أعرف. الكاتبُ يكتبُ ليتحرّى وليتمثّل وليعرفَ، يكتب ليجدَ المعرفة أثناء ممارسة الكتابة، وشيئًا فشيئًا تتكوّن فيه الشهوة لهذا السبيل من سُبُل المعرفة التي لا تفي بها القراءة ولا تؤدّي إليها مُعارَكةُ الحياة اليومية ولا يجلبها الحدْس ولا الحُلم، ومن هنا فإنّ الكُتّاب الذين يجلسون لكتابة كتابٍ يعرفونه بالتمام مُسبقًا إنّما يكونون، بحسب رأيي، كمَن يتوقّع أن ينبت من خشب الطاولة نوّارٌ وأوراقٌ خُضر.
أيمكنني -يومًا- أن أُلخِّص حياتي في صفحة، ثم ألخص الصفحةَ في كلمة، ثم ألخص الكلمةَ وأُجرِّدها وأُنظِّفها لتغدو صوتًا يكون هو طَيفي الموسيقي! أيمكن!»
*
لو أن لديَّ الفرصة للاستيلاء على كتابيْن من صاحبيْهما فسآخذ الأمير الصغير من أنطوان ده سانت إكسوبري، وآخذ حرير من أليساندرو باريكو، مع تقديري لأعمال مثل الجريمة والعقاب والحرب والسلام، إلا أني لا أراني في الأعمال المطوَّلة هذه التي أحب قراءتها لكني لا أغبطُ كُتَّابَها. ثمة كُتب قصيرة، من ضمنها هذان الكتابان، تنمو بلا توقُّف في نفوس وسرائر بعض قُرّائها حتى لتغدو مُلهِمةً وترسخُ متراميةً بلا أول وبلا آخر، إنّما بفِطنة وحَذق.
وأنت تكتب كُن أنت القارئ المختارَ الوحيدَ الذي تنشُده. لا تحسب حسابَ القارئ الآخر، الذي هو كل الآخرين. لا تراعِ القارئَ الآخر، لا تتملّقه، لا تخشاه. إذا بدأتَ بمراعاة القارئ أهونَ مراعاةٍ فلن تنتهي من ذلك، وستمضي إلى حيث تفقد قلمَك وأفكارَك وأسلوبَك، وتضمحل، وتُضيِّع قارئَك المثالي، ولا يَبقى لك إلا أسوأ القارئين.
عاطف سليمان كاتب وناقد
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الكاتب إبراهيم الخليل: الأدب لم يكن محايدًا في الحروب وكان تابعًا للسياسي عند كثيرين
الرواية قصيدة القرن الحادي والعشرين
يعنيني المكان والواقع بتفاصيله أكثر من الجوائز
ما جرى في الرقة ينافي الجانب الإنساني والواقع.. ولا اسم له في قاموس البشرية
العمل الخالي من المرأة كالنهر بلا ماء
تجربة النقد في سوريا متواضعة ولم تواكب النص على عكس المغرب العربي
"سيناريوهات الجسد" استكمال لمشروع التجديد
السينما حوّلت روايتي "الضباع" من النخبوية إلى الشعبوية
قامة أدبية من روافد الفرات الذي لا ينضب إبداعه، تدفّق رقراقًا سلسبيلًا عذبًا سهل التناول إلى جانب باقي الروافد الإبداعية التي أنجبتها مدينة الرقة الضاربة في الحضارة، إنه الأديب إبراهيم الخليل الذي استطاع أن يهزم مرارة الحرب التي مرت على البلاد وبالأخص مدينته التي نالها الكثير من الخراب وتلونت فوق سمائها رايات المخربين الذين حاولوا محو بعض من حضارة عمرها مئات السنين.
الأديب إبراهيم الخليل كان شاهدا، وصمد بسنواته الثمانين بعد أن قدم للمكتبة العربية العديد من الروايات التي حملت النبض الراقي بكل تفاصيله الجميلة.
صحيفة "عمان" وفي بحثها عن المبدعين التقت الروائي إبراهيم الخليل الذي فتح قلبه لها رغم ما يعانيه من مرض.
بقاؤك في الرقة، وما نالها من خراب، هل بقيتَ لتكون شاهدًا على ما حلّ بها من خراب، أم أن الأمر لا يحتمل أن تكتب عنه؟
بقائي في الرقة اختياري لأكون شاهدا على ما يجري من عنف وقسوة، وممارسات غير إنسانية، وكأن في ذلك أشياء تعزز ما أكتبه، وخاصة في الجنس الجديد العابر للأشكال الذي يحتاج إلى أدوات جديدة وعالم جديد.
عانيتَ في المحنة السورية، وحزنتَ لما حلّ في مكتبتك، ما شعورك وقد رأيتَ كتبك تحترق، وكيف تصوّر مغول العصر، وهل ذكّركَ ذلك بأحداث مشابهة؟
شعرت بمعنى الخراب، ومعنى أن يكون الكتاب هدفًا، إن الكتاب هو الأصابع التي احترقت، وهي تحاول أن تكون شاهدة على ما جرى.
تحول الحبر لدينا إلى حريق كبير، وتحولت الكتب إلى مادة محترقة، في رمادها كمٌّ هائلٌ من الجهد والمعرفة.
لقد مر التتار من قبل بالرقة، وقرأت عن ذلك، لكن التتار اليوم أشد همجية وقسوة، وكان الكتاب من ضحاياهم، إضافة لما أملكه من كتب نادرة ولوحات ثمينة، إنها جنى العمر ذهبت هباءً على يد المتوحشين الجدد.
ذكرني هذا بما حلّ في بغداد وحبر كتبها الذي لوّن ماء دجلة باللون الأزرق.
هل يستطيع أن يكون الأدب شاهدا على التحولات التي عصفت بالبلاد؟
بالتأكيد، وإلا ما معنى ما جرى، الأدب كان شاهدا، ولكن عند قلة صادقة، وكان تابعا للسياسي وخاضعا للرقابة عند كثيرين، بحيث كتبوا ما يريده السياسي، وبما يناسب التاريخ الذي يصنعه الأفراد، ومع ذلك فالحرب سترفد التوجه الأدبي لفترة طويلة كما رأينا في آداب الأمم التي تعرضت لمثل هذه الحروب والنكبات، ولا مجال إلا للكتابة عن ذلك، والكتابة مرة أخرى تعني إعادة صياغة الإنسان من جديد ليكون أكثر إنسانية وإحساسا بما يجري في هذا العالم الذي أصبح قرية كبيرة، ونحن نصرُّ على ذلك.
هنا أسأل، هل واكب الأدب ما يدور في عالمنا العربي من أزمات وحروب؟
الأدب لم يكن محايدًا في نقل ذلك، وخاصة الأدب الذي عالج مشكلة السجون السياسية.
أتابع ما يجري خلال الأزمة، وأنا مع تصوير ما جرى، وما يجري، ومن لم يتعلم من الحرب فلن يتعلم أبدا، وأخزّن في الذاكرة لعل ذلك التخزين يجد فرصة للظهور يوما.
مقولتك: "يجب أن يفصل الكاتب بين أدبه وموقفه السياسي" أليس من حق الكاتب أن يعيش ما يمر به؟
هناك إحراج في السياسي والأدبي، هذا الإحراج يكون الكاتب معه أحيانا معبّرًا عن أيدلوجية يشارك فيها، وأحيانا يعبر عن جانب أبعد من ذلك هو الجانب الإنساني، فنحن مجموعة أقوامية مختلفة المشارب والأهواء والمعيشة، نتكامل بتوحدنا وتشكيل لوحة جميلة كقوس قزح متعدد الألوان يبشّر بمطر خصيب.
وأنت تتابع المشهد الثقافي السوري، هل كان ذلك المشهد فاعلا أو منفعلا خلال الأزمة السورية؟
تابعت هذا المشهد وعشته، ولم أغادر المكان، ورأيت كل شيء، الاضطهاد باسم الدين وباسم أشياء أخرى، وحتى الآن يحاول إعطاء بعض الإشارات، ومع ذلك لا يمكن الحكم عليه والكتابة عنه إلا بعد حين، الكتابة السريعة عنه انطباعات آنية لا تصوّر الحقيقة، نحتاج إلى أقلام صادقة ومحايدة حتى لا نقع في فخ الترويج لجهة أو فكرة معينة، يجب البعد عن الأيدلوجيات، ونختار الإنسانية، فهي ملجؤنا الأخير.
أجل، فالكتابة عن الحرب تحتاج إلى زمن على مرورها، ونرى في تجربة السوفييت مثالا على ذلك في الحرب العالمية، ونحن نريد لهذه الحرب ألّا تمر دون أن نتعلم منها، فالتعلم ضرورة واجبة خاصة في بلاد الشام والبلاد المشابهة لها.
هل لديك موانع من الكتابة عمّا جرى في الرقة، أم أن للعمر دلالاته؟
ليس لدي موانع للكتابة، وما جرى في الرقة من أمور تنافي الجانب الإنساني والواقع، وفي الحقيقة كان ما يجري لا اسم له في قاموس التاريخ البشري لشدة ما يحمله من سطوة وعنف، وتخريب للبشر والشجر والحجر.
أما العمر فهو وازع يدفعك إلى أن تكون صادقا فيما تكتب، وحكيما فيما تنقل.
المكان ثيمة أدبية، ماذا تعني لك المدن؟
الرقة هي المكان، وأحيانا يكون المكان هو الحامل الأساسي للنص بحيث يقوده إلى مصيره، والمكان واللغة والسرد أعمدة النص، وشرطه الأساسي لكي يحقق نصا أدبيا يحمل إرث المكان، وفي الرقة نحن بحاجة إلى هذا الإرث، بل والكشف عنه لأنه غنيّ ومعبّر بكل ما فيه من سطوة وحضور في حياة الناس وتطلعاتهم إلى حياة أجمل، وفي زمن يحاول الكاتب فيه القبض على الجمال للدفاع عن الجمال في مواجهة القبح، ومن هنا ليس المكان فقط ما نريده ككتاب بل نريد إعادة اكتشافه من جديد؛ لأنه هويتنا الأساسية خاصة، ونحن على الأطراف المهمشة التي تدخل حديثا المشهد الثقافي بكل ما فيه من زخم، وبكل ما في هذا المكان من إرث.
إضافة إلى ذلك فالمكان مفردة تعطي قوة وخصوصية للنص في منطقة عاشت مهملة ومهمشة في الشمال السوري، والمكان يكسبها شيئا من الهوية لتستطيع الدخول إلى المشهد الثقافي بقوة، وتنزع عن المكان صفة التغييب، وتعطيه حق المشاركة في صنع الأحداث والتاريخ، حتى لا نكون غائبين عنهما.
وكانت دمشق هي المدينة الثانية في حياتي، وظهرت في كتاباتي بجوار مدينة الرقة، ولا عجب في هذا فقد عشت فيها فترة، وتعلمت فيها وتعلمت منها سبل الحياة الجديدة، ثم عدت إلى الرقة حاضنتي التي لا أستغني عنها حتى في أيام الحرب.
ودائما للمدن عاشقوها، وأنا من عشاق الرقة وحضورها في كتاباتي يعطيني حالة متفردة بعيدا عن الفكر البري والنظر للأشياء بعين واحدة.
الكاتب ابن بيئته، ومن خلالها ينفذ الكاتب نحو التفرد ونيل الجوائز، وقد كتبتَ عن البيئة البدوية والصحراوية، هل يعد هذا من باب الوفاء للبيئة، وهل استطعت تقديم عالم البداوة المشوق للقارئ؟
ليس من باب الوفاء، بل من باب الإخلاص للمكان، ومحاولة الكشف عن الأقوامية التي يعيشها، وهو تصالح واندماج مع جانب كبير وواسع وإنساني، وقد كتبت هذا ضمن مشروع أنا اخترته، وهذا المشروع أقوامي، فكتبت عن العرب والأرمن والكرد والبدو، وأعتبر هذا التنوع خصيصة من خصائص أدبي تحمل رسالة أكثر من التعبير فقط، فنحن عبارة عن فسيفساء، لو سقط جزء منها لتشوهت.
وما قدمته يهم القارئ الذي يعيش الواقع، وليس من أجل الجوائز، أو التفرد، فالمكان يعنيني وتفاصيله أكثر مما تهمني الجائزة، وإذا كان هناك تفرد في الكتابة، فليس همه الجائزة بقدر ما يهتم بالواقع الذي أجده رابطا بيني وبينه جعلني أعشق المكان، ولا أغادره رغم الإغراءات الأخرى التي تتيحها الغربة علما بأن لدي فيزا دائمة إلى أمريكا التي زرتها في برنامج "فول برايت" ولكنني لم أغادر بيئتي.
هناك من استنكر عليك الواقعية، ومن التقط هنّات سردية في "حارة البدو"، أليس من حق الكاتب أن يكتب بما يليق بعوالمه، أم أن هذا النقد هو من "عداوة الكار"؟
مسألة النقد مسألة متشعبة وذات شجون، ويطول الحديث عنها، ولكنني أقول: تجربة النقد في بلادنا متواضعة رغم الإرث الباذخ في الكتابة على عكس المغرب العربي الذي جاور أوروبا، وأتقن النقد أكثر من بقية الأجناس الأدبية، وهذا حكم الواقع الذي يريد للكتابة هذا المسار رغم الأصوات الجديدة، وإن المصطلح النقدي عندنا لا زال بسيطا لم يواكب النص، ولم يعبر عنه بحرفة وشفافية، ومع ذلك لا نلوم من يعيش على قدر فهمه المحدود، والكتابة عن الواقع ليست سهلة، تحتاج إلى شجاعة، وأدوات فاعلة، لا إلى فهم بسيط مسطح، والمشكلة أن الواقع عند بعضهم ملكية خاصة، والكتابة عنه فضيحة، علينا ألا نعيش على الفضيحة، لكن نصورها إن وجدت.
قدمتَ في كتابك "سيناريوهات الجسد: نصوص عابرة للأشكال" على أنه أشكال مبتكرة قلت عنها إنها ما بعد الحداثة، ماذا أردتَ أن تقول من خلال هذه السيناريوهات، وماذا تقصد بعبارة ما بعد الحداثة؟
"سيناريوهات الجسد" هو استكمال لمشروع التجديد، والمقصود بالسيناريوهات هو لغة الجـسد، خاصة عند المتصوفة، ونحتاج إلى عالم جديد ووعي جديد ولغة أخرى، تخدم هذا المنحى التجريدي لكي يكون ذلك الأمر واقعيا، ومن عناصر ذلك: تجاور المتغايرات وتفجير اللغة والاعتماد على التناص، والإشارة الصوفية والتنوع وهو كل شيء لا ينحاز إلى شيء، إنما الأدب هو الهم الأكبر له، فنحن في الأساس هو من فجر اللغة على يد السيوطي وابن جني، وتوقف ذلك الجهد الرائع.
أما ما بعد الحداثة فهي محاولة لتطوير تجربة الجديد؛ لأن هذا الجديد ينبع من واقع عرف الابتكار، وخاصة في الأدب، والبحث عن عالم جديد، ونحن تعلمنا من إرثنا في ألف ليلة وليلة هذا النزوع الجميل الذي نريده جديدا، ففي ألف ليلة وليلة كل أجناس التجريب، واستخدام الغرائبية التي شاعت فيما بعد في أوروبا وأمريكا اللاتينية.
لماذا توجهت إلى الكتابة الصوفية، وبمَ أفادك هذا التوجه؟
الصوفية في الإسلام وفي التراث الأدبي من أكثر الجوانب التي ظلمت؛ لأن فيها التجديد الذي نحتاجه، ومع ذلك لم تقف عنده، ولم تتعامل معه بما يليق به، بل العكس قدمت النص الجديد، والشهداء الجدد كالحلاج والسهروردي، وهي جانب يغذي نزعة التجديد عندي، وكان لها اهتمام كبير عند الأدباء الكبار مثل آني شيميل وسواها.
بدأتَ بالشعر ثم القصة وجددتَ فيها، ثم تخصصتَ بالرواية، لماذا هذا التنوع، وهل هجرتك القوافي لتتجه نحو السرد؟
التنوع يأتي من التجريب، وكان الشعر يليق بالمكان الريفي، وبعد أن عشت فترة في دمشق اتجهت إلى الرواية، فالمكان المركب يحتاج إلى أدب مركب، أي إلى الرواية، وهي قصيدة القرن الحادي والعشرين، وهي اختياري الأخير.
لك تجربة شعرية، وتشاركتَ مع أحد الشعراء بديوان شعري، حدثنا عن هذه التجربة؟
كان هذا في البداية الأولى، وتحقق في ديوان يعتمد على التجديد، وهو مشترك بين شاعرين، وهذا الاشتراك بين أديبين قديم، نجده عند محمود درويش ومعين بسيسو في قصيدة بيروت، وعند العجيلي مع أنور قصيباتي في رواية ألوان الحب الثلاثة، وعند جبرا إبراهيم جبرا مع عبد الرحمن منيف.
هذا يبشر بمنهج جديد في الأدب، والأدب حركة، والحركة ولود، والصمت عاقر.
تم تحويل روايتك "الضباع" إلى فيلم سينمائي، هل كان الفيلم مخلصا للرواية؟
حوّل الرواية إلى فيلم المخرج مصطفى الراشد، وحمل الفيلم عنوان "خط المطر"، وهو من الأعمال التي أنتجتها المؤسسة العامة للسينما، وقد كانت بحاجة إلى دعم مالي أكثر، لذلك تم اختصار بعض المشاهد خاصة (لعبة السكارات) التي تعبر عن التراث اللامادي في حياة منطقة البليخ، ومع ذلك تظل هذه التجربة مهمة، وتشير إلى الشمال المهمش في عالم يحكمه المركز.
وأنا مع الرواية حين تتحول إلى السينما، فهذا التحول يجعل الرواية مرئية، وتكسب جمهورا جديدا يضاف إلى جمهورها القارئ، وهي تخفف النبرة السياسية في الرواية المعبرة عن الخيبة بالوحدة بين مصر وسوريا، تحولت الرواية من النخبوية، إلى الشعبوية السينمائية، بعد أن تم إسقاط ماهو سياسي منها.
حضرتْ المرأة في كتاباتك، كيف تنظر لها؟
كتبت عن المرأة المقيمة والعابرة كالمرأة الغجرية في رواية "الهدس"، وفي مختلف حالاتها وأعمالها، فالعمل الخالي منها يكون نهرا بلا ماء، فكانت حاضرة في كتاباتي، وهذا الحضور أعطى العمل جمالية يحتاجها مع إثراء ضروري للنص، ومكمل لشروطه في الشخصيات.
عندما تذكر الرقة يذكر العجيلي، هل تشعر بالغبن أنت وباقي أدباء الرقة الذين تتوارى أسماؤهم خلف اسم العجيلي كونه أضحى عنوانًا للمدينة، أم أنه مدعاة للفخر، وأنتم امتداد له؟
لسنا امتدادا لأحد، وإنما نعبر عن مرحلة غير مرحلة العجيلي الذي امتازت كتابته بالغيبية والعشائرية والتخلف، وكل ما سبق لا يليق بالجيل الجديد.
لا أشعر بالغبن، فأنا عبرت عن الرقة في عالمها الجديد، وليس العالم البعيد المتخلف، ولا تجد أي أديب "رقاوي" تأثر بالعجيلي من بعيد أو قريب، أو توارى خلف اسمه، أو كتب على نمطه.
العجيلي أضحى قيمة أدبية لدارسي الأدب في بداياته، هناك أجيال تخطته في الناحية الفنية الأديبة والأشكال الثقافية. ومع ذلك لا ننكر وجوده، وإلا لكان هذا الرأي تعسفا.
كيف يمكن أن تنجح الكتابة الروائية في الأطراف وبعيدا عن المركز؟
حين تنفرد، وتقرأ بشكل جيد، فالقراءة جانب مهم للقراءة، وهي المعين المفيد عليها، وبعيدا عن التأثر الطاغي، والكاتب الحقيقي هو الذي يعطي صورة صادقة ومتوازنة عن واقعه، ولا يستعير أصابع الآخرين في كتاباته.
الرقة حاضرة ومدينة عامرة بالثقافة، وفيها من الأصوات الأدبية الكثير، لكن حضورها خافت، فلماذا؟
الرقة عاصمة القصة القصية باعتراف الجميع، وهي حاضرة ثقافية ومدينة ولود، وقدمت أسماء كبيرة أعادت الألق للمشهد الثقافي، لكن بعضهم رحل، وآخر هاجر خلال الأزمة، وثالث ترك الكتابة، ولم يبق فيها اليوم إلا العدد القليل.
وفي مخزونها الكثير مما يحتاجه الكاتب، ووظفه بعضهم في الرواية الجديدة، وفي النزوع إلى التجريب، وكشف الأعماق البشرية التي يعنى بها الأدب.
وغاب فيها الأدب النسوي، وهذه مسألة عامة في سوريا، وإن كان الخفوت من نصيب أكثر الأسماء الرقاوية فهذا يعود لبعد المكان "الرقاوي" عن المركز وتضييق الرقابة عيها، ومع ذلك تعد اليوم وسائل التواصل الحديثة وسيلة فعالة لإثبات حضورهم.
الأديب الأجنبي يكتب بصراحة وبدون مواربة، وأحيانا عن نفسه وبيئته متجاوزا المحرمات في الأدب، هل لامست هذا البوح. أم أن العربي محكوم بمجتمعه وأهله، ولا يكتب إلا في السياق العام؟
يختلف الأديب في الغرب عنا، فهو غير ملزم بالقيود الاجتماعية ولا تحكمه نظم معينة، ولا يخشى الرقابة على عكس ما نحن فيه، حيث تحيط بنا المدينة والعشيرة والأصدقاء والقيود الكثيرة، و في عدد من الأعمال حولت البوح الذي تقصده، ومن خلال الجمالية والكشف الجديد لأترك لتلك الأعمال القبول اللائق بها، وأن تكون خارج مرمى الرقابة في الطريق إليها. وكنت دائما أبحث عن الجديد في التراث والحياة لكي أكون مواكبا لما أحمله في داخلي من أعمال أخرى.
غالبا ما يعمد الأديب إلى تجسيد السيرة الذاتية عبر أعماله بشكل أو بآخر، هل فكرتَ بفعل ذلك، أم أن الأمر لا يستحق؟
يعد الكتاب صورة للكاتب في الفهم ومعاملة الواقع لأن الكاتب هو الذي يصنع الكتابة، فهي صناعة أحيانا، أما القارئ فهو شاهد آخر، أو مبدع بشكل ما، وقد يكون رأيه يغاير رأي الكاتب، وكتب السيرة خاصة تكون للسياسيين والقادة ومن شابههم، أو من الأدباء الذين لهم مخالطة بهم، ولا تعنيني كتابة السيرة بقدر ما يهمني تقديم أعمال قادرة على أن يستلهم منها القارئ ما يفيده ويمنحه صورة صادقة عن سيرتي وهو الذي يحكم عليها.
هل قلتَ ما تريد في ظل وجود الرقيب؟
قلت بعض ما أريد، فعالمنا ليس عالما مفتوحا بل تحكمه مسألة مهمة هي السياسي والأيدلوجي، هما يريدان تبعية الأدب لهما، وليس شريكا لهما في بناء العالم الجديد بكل أدواته التي تؤسس لرؤية أجمل، ومحاربة القبح في حياتنا. والرقابة تحد من الإبداع.
بقيتَ في الرقة بعيدا عن أضواء العاصمة وشهرتها، فهل ندمتَ على ذلك؟
سكني في الرقة اختياري، مع أن دمشق قدمت لي الكثير من أشكال الحياة العصرية، ولم أندم على اختياري لأن الرقة تظل المدينة والأنثى والنهر والنص، وهل يوجد أجمل من ذلك؟
ماذا جنيتَ من الكتابة؟
الإحساس بالواقع، وبكل ما فيه من أحزان وأفراح، فهو عالمنا، ولا يمكن إلغاؤه، والكتابة تشعرك بالوجود، وتحقيق الذات والاكتشاف حتى لا يضيع هذا الإرث الناجز في متاهات النسيان.
من هو ملهمك أو شجعك على الكتابة؟
تحمل الكتابة قيمتها في داخلها، وهذا أكبر تشجيع وأكبر انحياز للإنسانية؛ لأن أهم ميزات الكاتب الصدق، فالنفاق لا يليق به، ولا يليق بالكتابة.
ألهمني المكان والتراث لأن فيهما القيمة الحقيقية للإنسان، ومن لم يتسلح بذلك يعِشْ على الهامش.
المكان أوحى لي بالكثير، وهو مصدري الأساسي، وبيئتي غنية بالتراث اللامادي، ومن الطبيعي استلهامه أو استحضاره، أو الإشارة إليه لكشفه وإكمال نواقص المشهد الثقافي.
ما طقوس الكتابة لديكَ؟
حين أكتب الرواية أقرأ الشعر، وحين أكتب الشعر أقرأ الرواية، وحين لا أكتب شيئا أقرأ للقراءة، وأستحضر حياة الناس، فكل عجوز "رقاوية" هي صندوق للحكاية، فيه ذخائر جميلة، وفيه محفوظات مهمة.
ماذا تقول عن هؤلاء الأدباء الرقيين ؟
*عبد السلام العجيلي: كتب الكلاسيكية المبشرة بسكون الواقع وجموده.
*خليل جاسم الحميدي: كان وفيا للقصة القصيرة، ومجددا فيها.
*عمر الحمود: كاتب متابع موهوب، يكتب القصة والرواية والنقد، وأثبت حضوره بأسلوبه الخاص.
*إبراهيم الجرادي: شاعر الكلمة الجديدة، والريبورتاج الشعري.
*أحمد الحافظ: ينهج نهج الحداثة بدراية وخبرة.
*باسم القاسم: شاعر يقارب الحداثة، ولا زال.
*سعيد سراج: مجتهد في محاولاته، وهذا يحسب له كشاعر صورة، وليس مفردة.
*خليل إبراهيم الخليل: شاعر نهَجَ نهْجَ القدامى بروح عصرية.
*عبدالله أبو هيف: خلق جسرا للعبور بين النقد والقصة القصيرة.
*حمدي موصلي: كاتب مسرحي ومخرج، يمثّل هوية الرقة المسرحية.