قراءة في رواية «النهايات السعيدة» لأحمد ناجي
تاريخ النشر: 28th, February 2024 GMT
تتحدّث الرواية -الصادرة في عام (2022) عن دار نشر المحروسة: مصر، التي حصلت على المركز الأول كأفضل نص روائي فرع شباب الكتّاب لجوائز ساويرس الثقافية بتاريخ 8 يناير 2024- عن مرحلة من مراحل حياة الكاتب، ممَّا يعني أنَّها يمكن أنْ تكون رواية السيرة الذاتية أكثر من كونها رواية لا علاقة لها بحياة الكاتب، أو أنَّ الكاتب حوَّل حياته أو جزءًا من حياته إلى عمل روائي، فرواية السيرة الذاتية متصلة بحياة الروائي ومنفصلة عنه في آن، لكنّني أفضل أنْ ألتزم بالتصنيف الموجود على غلاف الكتاب من قبل دار النشر.
ورواية «النهايات السعيدة» تشبه في لغتها الفنية روايات أحمد ناجي السابقة، مثل: «روجرز» (2007)، و«استخدام الحياة» (2014)، و«حرز مكمكم» (2020)، «والنمور لحجرتي» (2020)؛ فلغتها تتَّسم بالشفافية الشديدة التي تذيب حدود الحواجز بين النص السردي والقارئ، وتجعل مَن يقرأها يشعر بشيء من الحميمية والتعاطف مع صاحب التجربة، فكأنَّ الحكاية التي يقرأها القارئ يشعر أنّها حكايته الخاصة التي تعبّر ولو في جزئية منها عنه أو عن مرحلة من حياته شبيهة بها. ولست في وضع المدافع عن جرأة الكاتب في لجوئه إلى استخدام بعض الألفاظ غير المقبولة من الناحية الاجتماعية في مواقف ما في رواياته، ولكن رأيي أنَّه ربما لجأ إلى ذلك لا بهدف التمرّد على كلِّ ما هو متعارف عليه من التقاليد الاجتماعية لمجرد التمرّد، وإنَّما قد يعود السبب في ذلك إلى رغبته في توضيح موقفه المخالف لكلِّ ما يعدّ متعارفًا عليه في مجتمعه ممّا يساعد في توضيح وجهة نظره تجاه الحياة نفسها بجرأة دون مواربة، فهو يبتغي إيصال صوته بوضوح لمحيطه.
تدور حكاية الرواية حول موضوع يعدّ ملفتًا بالنسبة لي من حيث اهتماماتي البحثية، وهو كيفيّة تأسيس الإنسان المهاجر لحياة جديدة له في مهجره، أيْ فيما يعدّ وطنًا جديدًا أو بديلًا بالنسبة إليه، وهو موضوع مرتبط بمفهوم الهُوية في الأدب والدراسات النقدية والثقافية الحديثة والمعاصرة؛ فالفرد عندما يبدأ حياة جديدة في بلد جديد يكتسب عادات وأفكارًا جديدة تضاف لهُويته، وتسقط منه في المقابل عادات وأفكار أخرى لا تتناسب مع المكان الجديد. فالبطل المهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية يحكي قصته في المهجر مصوّرًا المصاعب التي واجهته في أمريكا وهو يحاول بناء حياة جديدة له فيها، وهي المشكلات ذاتها التي يمكن لأيِّ مهاجر في أيِّ بلد آخر من مواجهتها؛ مثل التحديات المرتبطة: بتعلُّم لغة البلد الجديد، وإنهاء إجراءات الإقامة التي غالبًا ما تكون معقدة وطويلة، والحصول على مهنة/ وظيفة جيدة توفّر للإنسان حياة كريمة، وإيجاد محيط اجتماعي آمن بالنسبة للمهاجر، ومحاولة التأقلم مع قيم البلاد الجديدة وإنْ كانت غير منطقية من وجهة نظر المغترب؛ إضافةً إلى إحساسه بضرورة تحقيقه للنجاح والاستقرار في بيئته الجديدة بشكل ضاغط، ولا سيّما إذا لم يكن بإمكانه لأسباب سياسية أو اجتماعية العودة إلى وطنه الأم في حالة إخفاقه.
تناقش الرواية الأفكار المذكورة آنفًا كلّها، بطريقة لا تخلو ممّا يُعرف بالكوميديا السوداء، فبطل الرواية يسير في طريق غير واضح الملامح لا تعرف له نهاية، لذلك فهو يشعر بعدم وضوح مستقبله في تلك البلد، ويشكّ في إمكانية تحقّق تجذّره هناك؛ وقد استُخدمت جماعة الطريق المتنقلة التي كان يصادفها البطل من حين إلى آخر أمامه مع أطفالها -الذين يصعب تحديد جنسهم- المرتدين لمعاطف حمراء، رمزًا لهواجسه بعدم الاستقرار والتجذّر في تلك البلاد، وتعبيرًا منه عن إحساسه بالغموض المكتنف للقيم الاجتماعية في البلد الذي يحيا فيه، الذي لا يتردّد باستغلال الإنسان كأداة لتجارب علمية، ولا سيَّما إذا كان الفرد من صنف المهاجرين الذين أخفقوا في خلق حياة كريمة ومستقرة لهم في تلك البلاد؛ ممّا يعني أنّه لا توجد له أيّ حقوق فيها، تمامًا كما حدث مع خاله. وقد يكون اللون الأحمر للمعطف الذي يلبسه أطفال تلك الجماعة رمزًا للإغراء والإغواء المثخن بالخطر أو عدم الأمان.
يسافر البطل إلى أمريكا، بعد مدّة من خروجه من السجن في مصر حيث قضى عامين مسجونًا، لحضور ورشة عمل لمدّة ستة أسابيع، لكن بعد أسبوع من وجوده في الولايات المتحدة تثار ضدّه في مصر قضية أخلاقية تجبره البقاء في أمريكا، فعودته إلى وطنه تعني دخوله للسجن مرة أخرى؛ فيجد نفسه قد فُرض عليه وضع لم يسعَ إليه وبشكل مفاجئ، ممّا يضطره إلى محاولة التأقلم مع ذلك الوضع؛ إلّا أنّه يواجه مشكلة مادية لرغبته في إكمال دراسته الجامعية مع عدم إمكانية توفير المبلغ المطلوب للتسجيل في الجامعة، ممّا يضطرّه لترك الولاية التي يعيش فيها والسفر إلى نيويورك بحثًا عن فرصة عمل. وأثناء سرد البطل لمغامرته هذه، يجسّد للقارئ المصاعب كلّها التي يمرّ بها المهاجر العربي/ الشرقي في البيئة الغربية الجديدة عليه، التي أصبحت فجأة موطنًا جديدًا للشخصية الرئيسة في «النهايات السعيدة»؛ لا يكتفي البطل بذلك، بل يتوسّع في سرد تجربة حياته في مصر وأمريكا بالمقارنة بينهما من خلال ما عاشه من أحداث محمّلة بقيم متضاربة فيهما، منتقدًا بذلك الثقافتين، وهو يفعل ذلك بتقسيم الرواية إلى ثلاثة أقسام تصوّر تلك الفكرة، وهي:
- القسم الأول: ويتكوّن من خمسة وثلاثين فصلًا كما يوضِّح الترقيم ذلك، يتحدّث فيها عن حياته الماضية في مصر، وحياته الراهنة في أمريكا التي يحاول أنْ يجد لها قوامًا، معتبرًا أنَّ حياته في مصر أصبحت من الماضي المنسي.
- القسم الثاني: يبدأه بالآية العاشرة من سورة يوسف وهي: «قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ»، وقد تكون هذه الآية رمزًا استُخدم في النص الروائي لتجسيد فكرة معاناة الإنسان من الهجرة الناتجة عن النفي، فيوسف لفظه إخوته؛ ليكتبوا عليه الشقاء لأمد لا بأس به في حياته بالغربة؛ وفي هذا الجزء يتحدّث البطل عن لقائه بخاله الذي سبقه بسنين طويلة إلى أمريكا، موضِّحًا بسرده لحكاية خاله الجانب المظلم من أسطورة الحُلم الأمريكي. ويخلو هذا الجزء من أيِّ ترقيم، فقد ورد بأسلوب متتابع في طريقة حكيه؛ لأنَّه في حقيقة الأمر يروي قصة واحدة بانتظام شديد تتمحور في لقاء البطل بخاله، وهو عبارة عن جزء توسّط مدتين من حياة الشخصية الرئيسة صوِّرتا في الجزء الأول والثاني من الرواية، وقد ورد هذا الجزء معتمدًا على تقنية الاسترجاع في الخطاب السردي لتأكيد ما أراده البطل وهو انقطاع علاقته بخاله بعد تلك الزيارة التي قام بها، فأمست علاقة من الماضي لا يتناسب عند الحديث عنها إلّا استخدام أسلوب الاسترجاع من الناحية الفنية تمامًا مثلما يتحدّث عن مصر وعن تجاربه في مصر.
- القسم الثالث والنهاية: وهو الجزء الذي يسرد فيه البطل علاقاته الإنسانية/ الاجتماعية في أمريكا، مبّينًا صعوبة تكوين علاقات حقيقية في المهجر، بسبب التناقض والتضارب الثقافي بين الناس، وإنْ انتموا إلى الخلفية الثقافية ذاتها، فوجودهم في المهجر يؤدّي ببعضهم إلى التنصُّل من قيمهم الأصيلة المعبّرة عن ثقافتهم الأساسية التي جاؤوا منها، وربّما يرمز الكاتب من تصوير/ ذكر هذه الفكرة إلى نخر الفساد لأصالة القيم الأخلاقية/ الاجتماعية للشرقيين. لذلك نجد البطل في النهاية، يقرّر الهرب من ذلك الوضع كلّه مستغنيًا عن الفرص التي يمكن لمدينة نيويورك أنْ تقدّمها له مع احتياجه إليها، منقذًا نفسه من تلك الحياة الملوّثة دون أنْ ينظر خلفه؛ ممّا شكّل نوعًا من النهاية السعيدة له بالرغم من عدم تمكّنه من تحقيق أحلامه التي سعى إليها وهي الحصول على وظيفة تساعده على التسجيل في الجامعة لإكمال دراسته، فمع خسارته لتلك الفرص إلّا أنَّ تلك الخسارة/ الخسارات شكّلت نهايات سعيدة للبطل؛ وبذا نتمكّن من فهم مدلول عنوان النص الروائي «النهايات السعيدة».
أُعجبت بالرواية؛ لأنَّها احتوت على فكرة/ قضية عميقة من الناحية الإنسانية، وهي قضية الإنسان المغترب وكيفية تطوّر هويته في الغربة في ظلّ ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية معقّدة، وقد نجح الكاتب في تجسيدها بأسلوب فنّي بديع من خلال طريقة تقسيمه للنص السردي وأسلوب مراوحته في استخدام تقنية الزمن السردي بين الحاضر والماضي لتصوير تجربته في ظلّ ثقافتين مختلفتين في قيمهما بكلّ ما لهما وعليهما؛ إضافةً إلى استخدام الكاتب للغة شعرية مكثّفة عاطفيًّا تتّسم بالصدق الفني؛ بمعنى آخر أو أوضح هو نص يستحق القراءة.
الدكتورة سناء بنت طاهر الجمالية/ أستاذة مساعدة بقسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية، جامعة السلطان قابوس
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی أمریکا ه فی مصر
إقرأ أيضاً:
60 عاما على إعلان إسلام محمد علي كلاي.. كيف غيرت العقيدة حياته ؟
في 7 فبراير عام 1964، أعلن الملاكم الأميركي كاسيوس كلاي اعتناقه الإسلام، ليصبح اسمه الجديد "محمد علي". لم يكن هذا التحول مجرد تغيير اسم، بل كان نقطة فاصلة في حياته ومسيرته الرياضية، إذ أصبح الإسلام جزءًا لا يتجزأ من شخصيته ومعتقداته ورسالة نضاله ضد العنصرية والتمييز.
لقد ظل اسمه "محمد علي" رمزًا للتحدي، ليس فقط داخل الحلبة، بل أيضًا في ساحات الدفاع عن حقوق الإنسان، حيث واجه انتقادات عنيفة وقرارات مجحفة، لكنه بقي متمسكًا بمبادئه حتى النهاية.
الرحلة إلى الإسلام
ولد كاسيوس ماركوس كلاي في 17 يناير 1942، في لويزفيل بولاية كنتاكي الأميركية، لعائلة من الطبقة المتوسطة. نشأ في بيئة يغلب عليها التمييز العنصري، وكان لهذا أثر كبير في تكوين شخصيته وشعوره بضرورة البحث عن هوية تعكس طموحه وتحرره.
بدأت رحلته مع الإسلام في أوائل الستينيات، عندما تعرف على حركة "أمة الإسلام" بزعامة إليجا محمد، والتي كانت تدعو إلى تحرر السود الأميركيين وتعزيز الهوية الإسلامية بينهم. كانت هذه الحركة آنذاك مثيرة للجدل، لكن محمد علي وجد في الإسلام إجابة لتساؤلاته عن العدالة والمساواة والكرامة.
بعد فوزه ببطولة العالم للوزن الثقيل في 25 فبراير 1964 على سوني ليستون، أعلن انضمامه إلى "أمة الإسلام"، وكان صديقه المقرب مالكوم إكس هو من ساعده على اتخاذ هذه الخطوة الجريئة. بعد ذلك بأيام، وبالتحديد في 7 فبراير، أعلن رسميًا تغيير اسمه إلى "محمد علي"، رافضًا أن يُنادى باسمه القديم "كاسيوس كلاي"، لأنه كان - حسب قوله - "اسمًا للعبودية".
قال محمد علي عن هذا التحول:"لم أختر اسمي القديم، ولم أكن أريد أن أحمل اسم أسيادي السابقين، الإسلام أعطاني هوية جديدة ونظرة مختلفة للحياة."
ردود الفعل على إسلامه
أثار إعلان محمد علي اعتناق الإسلام عاصفة من الجدل في الولايات المتحدة، حيث تعرض لحملة شرسة من الإعلام والرياضة والمجتمع الأميركي المحافظ. رفض كثيرون الاعتراف باسمه الجديد، وكان بعض المعلقين الرياضيين يُصرّون على مناداته بـ"كاسيوس"، كما خسر عقود رعاية وأُلغي ظهوره في عدة برامج تلفزيونية بسبب قراره.
واجه محمد علي تمييزًا واضحًا، لكنه ظل ثابتًا على موقفه، وقال ذات مرة:
"أنا أمريكي، ولدي الحق في حرية الدين. إنهم يريدون مني أن أكون مسيحيًا، لكنني اخترت الإسلام ولن أعود عنه."
لم يكن إسلام محمد علي مجرد هوية دينية، بل كان مصدر قوة وإلهام له في مسيرته الرياضية والشخصية. فقد انعكس على أسلوب حياته، إذ امتنع عن شرب الكحول، وبدأ يمارس القيم الإسلامية في حياته اليومية، كما استخدم شهرته للدعوة إلى العدالة والمساواة.
بين الإسلام والملاكمة.. أعظم بطل في التاريخ
رغم التحديات التي واجهها بسبب دينه، استمر محمد علي في تحقيق الإنجازات داخل الحلبة. فقد أصبح أول ملاكم في التاريخ يفوز ببطولة العالم للوزن الثقيل ثلاث مرات، وخاض 61 نزالًا احترافيًا، انتصر في 56 منها، من بينها 37 بالضربة القاضية.
لكن أحد أصعب المعارك التي خاضها لم تكن فوق الحلبة، بل كانت مع الحكومة الأميركية نفسها. ففي عام 1967، رفض محمد علي التجنيد الإجباري للمشاركة في حرب فيتنام، قائلاً:
"لن أقاتل في حرب ضد أناس لم يؤذوني أبدًا. الإسلام يمنعني من قتل الأبرياء."
كان لهذا القرار تبعات قاسية، إذ تم تجريده من لقبه العالمي ومنع من الملاكمة لمدة أربع سنوات، كما صدر حكم بسجنه لمدة خمس سنوات، قبل أن يتم إسقاط العقوبة لاحقًا. لكنه رغم ذلك، لم يتراجع عن مواقفه، وظل مدافعًا عن قناعاته حتى عاد إلى الحلبة عام 1970 ليستعيد لقبه لاحقًا في واحدة من أعظم اللحظات في تاريخ الرياضة.
الإسلام والعمل الإنساني
مع تقدمه في العمر واعتزاله الملاكمة عام 1981، كرّس محمد علي حياته للدعوة إلى الإسلام والعمل الخيري. فقد سافر إلى العديد من الدول الإسلامية، ودعم الجمعيات الخيرية، وساهم في نشر صورة إيجابية عن الإسلام في الغرب. كما بنى مساجد، وتبرع لمشاريع إغاثية في أفريقيا وآسيا، وكان سفيرًا للسلام في الأمم المتحدة.
كان يقول دائمًا:
"خدمتُ الناس وساعدتُ الفقراء، لأنني أعلم أن الله سيحاسبني على أعمالي، وليس على عدد الألقاب التي فزت بها."
رحيله وإرثه الخالد
في 3 يونيو 2016، رحل محمد علي عن عالمنا بعد صراع طويل مع مرض باركنسون، لكن إرثه لم ينتهِ. فقد بقي رمزًا عالميًا ليس فقط في الملاكمة، ولكن أيضًا في الدفاع عن المساواة والحرية، وشخصية بارزة في نشر صورة إيجابية عن الإسلام في العالم.
اليوم، بعد أكثر من خمسة عقود على إسلامه، لا يزال الملايين حول العالم يتذكرون محمد علي كلاي، ليس فقط كرياضي أسطوري، ولكن كرجل واجه العالم بثبات وإيمان، وترك بصمة لا تُمحى في قلوب محبيه.