دخل الرجل الستيني الموفور الصحة إلى مجلس العزاء بكامل قيافته العصرية: بدلة منسقة ومكوية جيدا من ياقتها حتى حواف أردانها، ربطة عنق زاهية الألوان، لحية حليقة وسحنة تطفح بالبِشر، شارب مصبوغ بالأسود متوسط الكثافة، ومن معصم اليد اليسرى تطل ساعة رولكس مهيبة، وعلى سطح الخنصر يلتف خاتم فضة تتوسطه عين عقيق تنبض بالحياة.
حين قام الرجل مستأذنا تبرع ثلاثة من متصدري صف العزاء لتشييعه والوقوف انتظارا حتى يرتدي حذاءه، ثم التقدم معه جهة سيارته «البي أم دبليو»، حيث هرع سائقها من كرسيه كي يفتح له الباب. وانتظروا واقفين رافعين أكف الوداع إلى أن اختفت سيارته في منعطف الطريق.
***
حين ترك الرجل منصبه في الوزارة، اختار عالم رجال الأعمال والمضاربات الحرة، ظل بعد ذلك مرتبطا بالسفر والتجوال. وضمن القرارات التي أضافها إلى حياته، تخليه عن الملابس التقليدية نهائيا. حتى في الأعياد كان لا يصطف أمام محال الخياطة كما يفعل بعض زملائه السابقين تظاهرا بأن الوزير يمكنه أن يكون مثل العامة في الوقوف خلف الصفوف، بل لم يحضر خياطين إلى بيته. في مكتبه كذلك بالشركة كان لا يتخلى عن ملابسه الأنيقة تاركا موظفيه على حريتهم في ارتداء ما يشاؤون طالما أن أمور العمل تجري على الوجه المعقول. لا يفرط في المناسبات الاجتماعية، بل يؤديها بحرص خاصة زيارات المرضى من أقاربه، ولكن دون تفريط في أمر ملابسه. وكانت هذه المرة الأولى التي يحضر فيها مراسم عزاء بملابس عصرية. لا شك أن الأمر استغرق منه يومين كاملين لاتخاذ القرار، ولكن في اليوم الأخير للعزاء عقد أمره وتقدم بكامل زيه جهة صحن العزاء.
***
كان ينظر من الكرسي الخلفي لسيارته منتشيا وكأنه يرى العالم من حوله بحلة جديدة. وكأن البلد تغيرت وصار للغروب معنى، كما سيصير الشروق إلى معنى آخر كذلك.
محمود الرحبي روائي وقاص عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
امتحان الصبر على المكارِه..!
احد الكتاب الراتبين كتب يقول انه مع الثورة "حرية سلام وعدالة"..ثم قدّم في خاتمة مقاله دفاعاً مستميتاً عن الرعاع الذين خرجوا في تظاهرة لندن؛ وقال إنهم لم يشتموا أحداً..إنما رفعوا صوتهم عالياً ضد النيولبيرالية الامبريالية..! (نعم والله هكذا قال)..!
الرجل أراد ببساطة أن يشن هجوماً على "تنسيقية تقدّم"..فقد جعل عنوان مقاله (خضوع حمدوك وقادة تنسيقية تقدم لأداة امبريالية)..!
ما هي الأداة الامبريالية يا شيخنا..؟! قال إنها (شاتام هاوس)..! وهو يقصد مكان اللقاء الذي عقده حمدوك ورفاقه..وهم قد دخلوا إلى مكان اللقاء وخرجوا منه وهم هم أنفسهم..! لم يتغيّر لونهم ولا طعمهم ولا ملابسهم..فقد خرجوا من غير (برانيط)..! وظلوا كما هم على موقفهم من نبذ الحرب والبحث عن إغاثة الوطن والمدنيين من ويلات الحرب الفاجرة بين الكيزان ومليشياتهم..وهي للعلم حرب بذيئة ملعونة يموت فيها المواطنون لا عساكر الطرفين..!
حتى يصل كاتب المقال إلى خلاصته بكيل المديح لمظاهرة الرعاع في لندن، حلّق بنا الرجل في (رحلة بين طيّات السحاب) حول تاريخ الجزيرة البريطانية و(وعد بلفور) ودول الجنوب، والهيمنة الاستعمارية الكلاسيكية، والثقافة الانجلوسكسونية، والمركزية الأوربية، وسيرة اللورد ساليسبوري وروتشيلد، وطباعة اليورو والدولار والإسترليني..وتجربة فنزويلا وكيف تم القبض على غاندو والإطاحة بمادورو..؟!
وفد تنسيقية تقدّم عقد لقاءه في "شاتام هاوس" وهذا معناه انه خضع للامبريالية العالمية..! اللهم أهدنا إلى الرشد وألهم نفوسنا تقواها..!
هذا الرجل يهاجم مسعى تنسيقية تقدّم لإيقاف الحرب وحماية المدنيين، ولا معنى لذلك غير أن الرجل من أنصار مواصلة الحرب، وقد دأب أنصار الحرب على التغطي بشعارات الثورة في ذات الوقت الذي يغضون فيه أبصارهم عن كوارث انقلاب البرهان وفظائع الكيزان وما صنعوه بالوطن وأهله..!
الذي ينهض من أجل أرواح السودانيين وحماية المدنيين لا يستنكف أن يواصل مسعاه بحثاً عن السلام حتى في مغارات السعالي وكهوف الضواري..فماذا إذا عقد الوفد لقاءه تحت الضوء في هذه القاعة أو تلك..؟!
هل قادة تنسيقية تقدّم هم من يقتلون الناس الآن في الهلالية والفاشر وزالنجي ونيالا وأم درمان حتى يكون نصيبهم هذا التجنّي..مع امتداح الرعاع الذين يلاحقونهم بالشتم والبذاءات..؟!
هل كانت كل تلك البذاءات والشتائم والهرج والتهريج والتحرّش والتهديد والوعيد والخروج عن قواعد الأدب تعبيراً عن رفض (النيوليبرالية الامبريالية)..!
ما هذه المصيبة التي وقعنا فيها حتى أصبحت "لا للحرب" مسبّة ومعرّة يتم مقابلتها بكل هذا الهجوم..! هل الصواب هو أن نقول "نعم للحرب"..!
هذه (البذاءة المتحرِّكة) التي تُسمى تظاهرة لندن والتي نظّمها الكيزان وبعض المؤجرين من عساكر الانقلاب وصلت إلى دركها الأسفل عندما أعلن البرهان "تعديلاً وزارياً" حتى يكافئ من ساهم في تنظيمها بتعيينه وزيراً للإعلام..!! أين النيوليبرالية هنا..؟!
ألم تسمع يا رجل ما قالته منابر الإعلام في بريطانيا وحول العالم عن هذه التظاهرة الكيزانية المأجورة التي تدافع عن الحرب الفاجرة وتخرج عن كل القواعد المرعية..!
إليك نذراً يسيراً عما قالته المصادر عن هذه التظاهرة الصبيانية تحت عنوان "همجية الأوباش تدمّر إرثاً سودانياً وبريطانياً عريقاً" لقد وصفت عدة مصادر هذه التظاهرة بأنها فضيحة كبرى تشير إلى تدني ثقافي مريع يجسّد الانحطاط الذي غمر السودان على مدى ثلاثة عقود، وسلوك غير متحضّر لم تشهد لندن مثيلاً له في تاريخها القريب..!
وتقول الصحفية البريطانية المستقلة "هولي ستينغز" إن هذا الحدث الغوغائي يمثل انحرافاً فريداً ومزعجاً عن التقاليد العريقة في مناهضة الحروب والديكتاتوريات؛ حيث ارتدى المتظاهرون زياً عسكرياً وقاموا باستفزازات غير لائقة؛ خاصة وأن معظم المشاركين من طالبي اللجوء السياسي الذين يقولون إنهم هربوا من الاضطهاد في بلادهم..! وطبيب بريطاني من أصل سوداني قال انه أصيب بصدمة من مظهر الهمجية..وإن المتظاهرين كانوا يتصرفون تصرف الرعاع.. إلخ
لو سأل السيد الكاتب متظاهري لندن وقال لهم: هل كانت مظاهرتكم من اجل الاعتراض على النيولبرالية الامبريالية.. (لفطسوا من الضحك)...الله لا كسّب الكيزان..!!
مرتضى الغالي
murtadamore@yahoo.com