البحث عن التعايش والسلام في «كطائر يحلم بالمطر»
تاريخ النشر: 28th, February 2024 GMT
يلجأ الشاعر يونس مرهون البوسعيدي في نصه لعدة ظواهر مثل حشد الثنائيات والسخرية والاستهزاء وكسر أفق التوقع حتى يعبر عن النسق الثقافي مستخدما أدوات كثيرة في ذلك، ونظرا للجوء الشاعر لصدمة القارئ ثقافيا، فإن المقال يتناول المنهج الثقافي حتى يتناول الأنساق الثقافية المضمرة في النص مع وجود إشارات لأدوات البناء الأسلوبية أيضا.
فعنوان المجموعة الذي يطل بها الشاعر علينا «كطائر يحلم بالمطر» هو خروج على عناوين النصوص، فما من نص فيها صدر بهذا العنوان، «وهو له وظيفة جمالية تتمثل في تزيين الكتاب وتنميقه، ووظيفة تداولية تكمن في استقطاب القارئ» وقد اعتمد الشاعر على كاف التشبيه، في محاولة لربط الواقع بالمتخيل الشعري، حيث نطرح سؤالا من الذي يشبه الطائر... أين المشبه؟ من اللبنة الأولى للمجموعة يرسخ الشاعر المنهج الذي يقوم عليه في بناء تساؤلاته الوجودية والشعرية أيضا، وتأويل المشبه هنا لا يمكن أن نحجزه في جانب واحد، فهو على حسب المعطيات، فقد يكون الشاعر، وقد يكون المواطن وقد يكون الباحث عن الحرية المطلقة وقد يكون الباحث عن حرية الإبداع.
ثم من الملاحظ أن الشاعر في كل النصوص يطرح فكرة البناء والهدم حيث يبني من المستحيل شيئا ومن الموجود المقدس يساوي به الأرض حتى تتجلى علاقات قد تكون متضادة للنيل من الآخر والتي تستهوي الشاعر، وربما علاقات متجاورة، وفي هذه المجموعة يتوقع القارئ أن النصوص متجاورة بحكم الشكل الذي تبنى عليه، فالنصوص جاءت من البحور الشعرية الخليلية العمودية الوزن وأخرى من شعر التفعيلة الحرة في وقفة القافية، والمدورة في بعضها، تتعاضد هذه النصوص مع نصوص أخرى ذات بعد ثائر على كل الإيقاعات، من قصيدة النثر.
لكن بعد القراءة الفاحصة للنصوص يتبين لك أنها لم تكن متجاورة في المجموعة بل هي أشبه بثورة من الشاعر على الأنساق الثقافية الكثيرة والتي ظهرت بشكل مضمر في عدة أماكن منها وقد تكون بارزة أيضا. أما تجاور هذه النصوص فهي أقرب لتعايش النصوص مع بعضها البعض. وهذا ما يجعل السؤال مطروحا: ما التعايش الذي يتكون من تجاور النصوص المتعددة الأشكال؟
أنواع التعايش في مجموعة كطائر حلم بالمطر:
أولا تعايش الأصناف والأشكال: وهو يقوم على انسجام التفعيلات المتعددة في النص الواحد وهو ماثل في قصيدة «أربع صور لفصول شجرة» حيث قسم الشاعر صور الشجرة التي التقطها على شكل صورة هادئة متكئة على تفعيلة «متفاعلن» ويبرز منها الهدوء الذي يتماهى مع الشجرة ولكن هدوء الحياة والموت، حيث يتناوب الاثنان في تقاسم الهدوء من بعضهما، ومن تزاحم أوصاف اليوم وقدسية الهدوء الذي لا يتعلق بالسكون فقط بل بالحياة أيضا، والرابط بين الموت والحياة هو هذا الزمن المتأرجح بين الواقع واللاواقعي، اللحظة الزمنية المندسة في اليوم تضم في جنباتها عدم الرضا والتسليم لتناهي الوقت بل يندفع الشاعر في محاولة جادة في النيل من الاضمحلال والانتهاء بدفع سخريته في جملة (ونحن صرنا نشبه الكومبارس) حيث صرنا منسحبين في هوس التأمل في السكون.
ما حيلة الإنسان من توالي اليوم أو انتهائه غير محاولته مقاومته بعالم السخرية والاستهزاء لعله يرضى بمضي الأيام، فالصورة الهادئة التي التقطها الشاعر بحروفه وكاميرا التصوير الشعري تتمثل في تسكين حركة اليوم وترويضه حتى يصبح سهلا مطيعا هادئا في رحيله ولا ضير من استخدام أدوات ساخرة تندس خلفها ثقافة دينية مثل الإيمان بالبرزخ:
اليوم يمضي هادئا/ شجر بلا طير/وقلب دون محبوب/ فلا شيء يجرح صفوه/تجري البرازخ مثل نهر بالهباء/ونخن صرنا نشبه الكومبارس/ اليوم يمضي هادئا...
تكرار «اليوم يمضي هادئا» خمس مرات يعكس أيضا النسق الثقافي المضمر في المجتمع من عدم الاهتمام بالوقت والزمن وانتشار اللامبالاة في المجتمع في اليوم الذي يعاش، مما يجعله سريع المضي.
أما الصورة الثانية هي (صورة بطيئة): من العجيب أن يكون الإيقاع سريعا في (صورة بطيئة) فالمقطع هنا من تفعيلة المتقارب فعولن وزحافاتها، ولابد من الانتباه إلا أن نمط البطء هو ما يسيطر على المشهد اليومي، فهنا يعتمد الشاعر على كسر أفق التوقع وهذا النوع من الطرق المعتمدة على النمط المبني على الثقافة المبنية بين الشاعر والمحيط الذي حوله، يرى الباحث أن عدم انسجام الإيقاع والنمط هو من أدوات الهدم والبناء فالخروج عن المألوف في اللغة وإيقاعها مع مضمون البناء يبعث لك بصورة غير متوقعة هي كاسرة لأفق التوقع:
كظلّ على الماء.. أسري/كأوبرا لموزارت في هدأة الحب.. أبكي/ وأمضي لكي لا أحس بأني أشيب/أغير أشجار بيتي كل مساء، لكي لا تمل مقاعدها/وحتى تزور الظلال أماكن أخرى/وكي لا يحاصرني الخوف مثل الجبال
ثانيا: التعايش من خلال كسر أفق التوقع:
من خلال النمط المترسخ في الذهن يكسر الشاعر أفق توقع الواقع فالشاعر يغير رتم الحياة الراسخ بعدة أمور مثل تغيير أشجار البيت وتغيير التكنولوجيا والغناء الذي يتسلى به وكل هذه الأمور هي تحتاج وقت لتنفيذها ولكن مختلف من حالة إلى أخرى فلا يمكن أن يكون زمن الغناء كزمن تبديل شجر البيت وهذه طريقة الشاعر في البناء والهدم الماثل في تشكيل ثقافة جديدة تخص ذاته، ضاربا عرض الحائط كل الثقافات الأخرى غير معترف بها بل هو يهدم البناء التقليدي المنغرس في النمط ويبني نسقا جديدا يأمل أن يكون متبوعا ومرادا.
في الصورة الثالثة (صورة شبه موناليزية):
ثالثا التعايش من خلال حشد الثنائيات: الإيقاع هنا هو «فاعلاتن» من بحر الرمل وزحافاتها ويتحدث الشاعر عن الحب والموت وهي ثنائية طالما ترد في نصوص المجموعة قاطبة، حشد هذه الثنائيات من خلال عدم وجود رابط بينها وجعل وجود رابط يجمعها، وأن كانت متنافرة وهذه من طرق الشاعر في البناء والهدم وجعل بناء الذاتي هو الأصل لا يهتم بالنمط المسبق فالموت والحب (خطان متوازيان لا التقاء بينهما، والعلاقة التي تربطهما والعلاقة التي تربطهما علاقة قيمية لا أكثر):
ما أنا أقرب للموت/ ولا للحب أقرب/أغمضي عيني هذا اليوم/ إني/لا أرى خلفي/
ولا في الأفق ما يدفعني/كي أتهرب/ ككتاب لم أمزق صفحة فيه/ولا بالبيت ماذا/في صحاف العمر يكتب
يبدو نسق اللهو واللعب هو المهرب الأساسي من الموت والمكان الآمن للحب فيهرب الشاعر من الواقع بالمرح واللهو حيث ينتصر الإنسان به.
رابعا: التعايش مع الزمن في صورة أخيرة هاربة:
هذا المقطع يعتمد على البحر البسيط وهو يدل أن النص اعتمد على عدم الانسجام بين الإيقاع في كل مقطع على حدة ولكن من خلال التمازج في النسق الثقافي تجد الانسجام بين المقاطع:
ماذا سأفعل بالأيام ليس بها غير الكهانة تقفو سير كوكبها
أبريل مثل سجاح لا أصدقه أيام أبريل إني من مكذبها النص يظهر نسقا مضمرا مثل الكذب الذي يدخل في ثقافة الناس ويحاربها وكذبة أبريل هي علامة وأيقونة دالة على الكذب وعليه يفضح الشاعر النسق المضمر في وضع الحكمة وهو من طرق الشاعر في التعايش مع الوضع الراهن:
فديت عمرك، لا تحسب لياليها وأنعم بما استطعت في الدنيا وأطيبها
يجعل الشاعر من التنعم هو الهرب من الموت والمشاكل والمنغصات الحياة متجها إلى الذات الشاعر ليستغل الزمن استغلا أمثلا. تغري نصوص المجموعة القارئ كي يبحث عن فضاءات كثيرة مثل التعايش والسلام مع الاخر في ضوء ثقافة النص والتلقي وغيرها من الموضوعات الحرية بالتأمل.
د. عبدالله الكعبي باحث وشاعر عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الشاعر فی من خلال
إقرأ أيضاً:
حسن عبدالله القرشي.. شاعر البسمات الملونة (2/2)
ويمتلك الأستاذ الشاعر حسن عبدالله قرشي ثقافة واسعة هي نتاج قراءاته، ومصدر عطائه الشعري حيث حفظ الكثير من الشعر القديم وشعر المعلقات وأُعجب بالعديد من الشعراء في العصر الأموي والعباسي، وأعجب أكثر بالموسيقى الشعرية التي تترقرق في شعر البحتري، ويعتبره من أساتذة الموسيقى الشعرية، وأحد روادها، كما إعجب بشعر أبي الطيب المتنبي، وحفظ معظم ديوانه، وبشعر تلميذه المخلص لمدرسته “الشريف الرضي” ، كما قرأ لشعراء العصور المتأخرة، والصوفيين منهم، وعلى الأخص: عمر بن الوردي وعمر بن الفارض والبوصيري. وهو إلى جانب قراءته للشعر القديم، قرأ لكثير من الشعراء والأدباء المعاصرين، يأتي في المقدمة منهم أمير الشعراء أحمد شوقي وشاعر النيل حافظ إبراهيم وخليل مطران والأخطل الصغير وعمر أبي ريشة والرصافي والجواهري، كما قرأ لشعراء المهجر جبران وإيليا أبي ماضي والقروي وفوزي المعلوف ونعيمة، واطلع على أعمال العقاد والمازني والزيات وعلي محمود طه واحمد رامي وإبراهيم ناجي وغيرهم.
وكانت تربطه كما يقول في كتابه: [تجربتي الشعرية]، علاقات صداقة وثيقة بعدد منهم، وكان معجباً بشعر صديقه الشاعر محمود حسن إسماعيل وأبي القاسم الشابي. وعند قراءتك لشعر القرشي، يستوقفك نضوج الروح وجمال الموقف الإنساني وعذوبته والقدرة المكتملة على التعبير الدقيق عن تجربة روحية تنساب كلماتها في سلاسة محكمة يسكن الشعر داخلها، وتبدو فيها روحه صافية تتطلع من موقع إنساني ممتاز إلى الحياة والكون، وقد برع شاعرنا القرشي في طرق أبواب الشعر العربي المختلفة، شأنه شان الكثيرين من أدبائنا الرواد، غير أن الغزل يبدو واضحاً في كثير مما نشر من قصائد في الصحف المحلية وفي العديد من المجلات العربية ومنها مجلة الرسالة ومجلة الثقافة المصرية ومجلة الآداب البيروتية.
وعن نتاجه الشعري والأدبي، كتب عدد من كبار النقاد العرب وفي مقدمتهم عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين وأحمد حسن الزيات صاحب مجلة الرساله والفيتوري وصالح جودت وغيرهم. وخلال مسيرتة الأدبية الثرية، صدر للأستاذ حسن عبدالله القرشي نحو ستة عشر ديواناً أولها ديوانه البسمات الملونة الذي صدر في عام 1366 هـ. ثم تبعته دوواينه الشعرية الأخرى : مواكب الذكريات ..الأمس الضائع .. سوزان ..ألحان منتحرة .. نداء الدم..النغم الأزرق.. بحيرة العطش ..لن يضيع الغد .. فلسطين وكبرياء الجرح.. وزخارف فوق أطلال عصر المجون ..وبالإضافة إلى دواوينه، أصدر رحمه الله سيرة ذاتية بعنوان (تجربتي الشعرية)، وله أيضا مجموعتان قصصيتان هما: (أنات الساقية) و(حب في الظلام)، وله من الدراسات الأدبية (فارس بني عبس) و(أنا والناس).
أما بالنسبة لمسار حياتة الوظيفية، فقد التحق الأستاذ القرشي في بداية عمله محرراً بديوان الأوراق في وزارة المالية، ومنها انتقل إلى الإذاعة السعودية عند تأسيسها عام 1368هـ، ثم ارسل لمدة عام للدراسة الفنية الإذاعية في مصر ليعود بعد ذلك للعمل في وزارة المالية مديراً لمكتب وكيل الوزارة للشؤون الاقتصادية، فمديراً عاماً مساعداً، ثم سكرتيراً مالياً، فمساعداً لمدير المكتب الخاص ثم مديراً عاماً لمكتب الوزير قبل أن تنقل خدماته للعمل في وزارة الخارجية بمرتبة سفير حيث عمل سفيراً للمملكة في موريتانيا ثم السودان. وقد حظي الأستاذ القرشي بتقدير العديد من المؤسسات الثقافية العربية والأجنبية وترجمت بعض قصائده إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية، وكان عضوا بمجمع اللغة العربية بالقاهره ومنح وسام الجمهورية والوسام الثقافي من تونس ومنحه اتحاد أدباء السودان عضويتة الشرفية، كما منحته جامعة أريزونا الأمريكية درجة الدكتوراه الفخرية في الآداب تقديرا لجهوده الأدبية.
توفي الأستاذ الشاعر حسن القرشي عام سنة 2004م رحمه الله تعالى رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.