المجاعة هي جوع شديد طويل الأمد يصيب نسبة كبيرة من السكان في بلد أو منطقة ما، تتسبب في الوفاة نتيجة لارتفاع معدلات سوء التغذية الحادة بين الأفراد.

ويرجع حدوث المجاعات لسببين رئيسيين:

الأول: ناتج عن الكوارث الطبيعية مثل الفيضانات والأعاصير والجفاف والبرد غير الموسمي وتفشي الحشرات وأمراض النباتات، وغيرها.

والثاني: بشري بفعل الحروب والاعتداءات، وتأتي الحروب في المركز الأول المتسبب والأكثر شيوعا في حدوث المجاعات، إذ ينتج عنها إتلاف للمحاصيل عن قصد أو نتيجة القتال، أو قطع الطرق وتعطيل خطوط الإمداد ومنع وصول الطعام وتوزيعه من قبل المقاتلين.

العلاقة بين المجاعة ونقص الغذاء

الفرضية التي كانت سائدة في حدوث المجاعات حتى ثمانينيات القرن الماضي هي انخفاض إنتاج الغذاء، مما دفع إلى عدم تصنيف المجاعات التي يلازمها هذا النقص بأنها "مجاعات" إلا بعد وقوعها بوقت طويل وتفاقم الوضع.

وفي أواخر القرن الـ20، أجرى الاقتصادي الهندي، أمارتيا سين، دراسة حول المجاعات محاولا دحض فرضية العلاقة الطردية بين انخفاض إنتاج الغذاء وحدوث المجاعات. وأثبت أن السبب الأقرب للمجاعات هو ما سماه "فشل الاستحقاق"، وأن حدوث المجاعة ليس بالضرورة ناتجا عن انخفاض في إنتاج الغذاء.

ويقصد بمفهوم "الاستحقاق" هنا حق الإنسان في الحصول على القدر الكافي من السلع والخدمات والقدرة على الاختيار فيما بينها. ويتوقف "استحقاق" الشخص على عدة عوامل من بينها تغير أسعار السلع أو فرض قوانين جديدة أو إصابة المحاصيل الزراعية بالآفات أو تعطيل توزيع الطعام بسبب الحرب، ومن ثم فيمكن أن تتعرض إحدى شرائح المجتمع للمجاعة دون أن يكون هناك نقص في الغذاء.

فعلى سبيل المثال تعتبر مجاعة البنغال 1943 دليلا على هذه الفرضية، إذ على الرغم من انخفاض إنتاج الغذاء عام 1943 فإن نسبته كانت مرتفعة قليلا عن سنوات ماضية أخرى، فقد ارتفع إنتاج الغذاء عام 1943 بنسبة 13% عما كان عليه عام 1941.

ويعد السبب الرئيسي لحدوث مجاعة البنغال 1943 التضخم الناتج عن الحرب، إذ ارتفعت أسعار الحبوب الزراعية بنسبة 300% مقابل زيادة 30% فقط في أجور العمال الزراعيين، مما أدى إلى تضرر هذه الطبقة من العمال بصورة بالغة، ومات كثيرون بسبب الجوع، وبينما اجتاحت المجاعة ريف البنغال، لم تتأثر عاصمة البنغال الغربية كولكاتا بالدرجة نفسها.

أبرز المجاعات حول العالم مجاعة روسيا 1912

بدأت المجاعة نتيجة لكارثة طبيعية بفعل الجفاف الشديد، لكن مشاركة روسيا في أوائل القرن العشرين في الحرب العالمية الأولى وعدد من الحروب الأهلية دفع إلى تفاقم الوضع ووقوع مجاعة شديدة.

ونتج عن الحرب التي استمرت 4 سنوات (1914-1918) الإضرار بالممتلكات وفرض حصار اقتصادي والاستيلاء القسري على الأراضي الزراعية والمحاصيل بمقابل زهيد يعطى للمزارعين.

وأدت هذه التداعيات إلى انخفاض معدلات الإنتاج ونقص الغذاء بفعل الجفاف الشديد، إذ بلغت المجاعة ذروتها، وأودت بحياة 5 ملايين من السكان.

مشهد لأطفال ضحايا المجاعة في روسيا عام 1921 (أسوشيتد برس) مجاعة الشام 1915

أصابت مجاعة الشام خلال الحرب العالمية الأولى، وخاصة مناطق واسعة من سوريا، والتي كانت تشمل ولاية حلب وبيروت وسكان جبل لبنان.

صادرت الحكومة الأملاك والأراضي الزراعية والمحاصيل لخدمة المجهود الحربي، كما فر الكثير من المزارعين الشباب من أراضيهم هربا من الخدمة العسكرية.

وأودت المجاعة بحياة ما يقرب من ثلث سكان جبل لبنان وما بين 60 ألفا و80 ألف نسمة في مدينة حلب.

مجاعة البنغال 1943

تعد مجاعة البنغال واحدة من أسوأ الكوارث في الهند وجنوب آسيا في القرن العشرين، وكانت الهند حينها تحت الحكم البريطاني.

عقب سقوط ميانمار وسنغافورة في أيدي اليابان خلال الحرب العالمية الثانية عام 1942، توقفت صادرات الأرز من هاتين الدولتين. وتسبب الإعصار الذي حدث في أكتوبر/تشرين الأول 1942 في إتلاف محصول الأرز، وبعد ذلك توقفت واردات الأرز من ميانمار إلى الهند، وكانت تمثل نسبة 15%، إضافة إلى فقدان صادرات الأرز من البنغال إلى سريلانكا.

وعلى الرغم من كل ذلك فإن تلك الأسباب لم تدفع بشكل أساسي إلى حدوث مجاعة البنغال في الهند البريطانية، إذ كان المحصول كافيا للشعب البنغالي، لكن ظروف الحرب هي التي دفعت إلى تحول الوضع إلى مجاعة كارثية.

فقد خزنت القوات الاستعمارية البريطانية المواد الغذائية لتزويد القوات المقاتلة بها خوفا من الغزو الياباني، كما صدرت القوارب والعربات والأفيال، مما أضر بالصيادين والعمال البنغاليين ومنعهم من استئناف تجارتهم التي تمثل مصدر دخل رئيسي لهم.

كل هذه السياسات أضرت بالبلاد وأدت إلى ارتفاع نسب التضخم بصورة كبيرة إلى جانب فشل الحكومة في توفير المساعدات الإغاثية، مما دفع إلى وقوع مجاعة كارثية أثرت على أكثر من 58% من الأسر الريفية.

واستمرت هذه المجاعة 8 أشهر (من مارس/آذار حتى أكتوبر/تشرين الأول 1943) وامتدت آثارها عدة أشهر أخرى، وأودت بحياة حوالي 3 ملايين شخص نتيجة لسوء التغذية وتفشي الأمراض والأوبئة.

مجاعة المغرب 1944

وقعت المجاعة إبان الاستعمار الفرنسي للمغرب الذي نهب خيرات البلاد، وسميت هذه السنة "عام الجوع"، وكذا عام "البون" (القسيمة) لأن الاستعمار فرض التزود بالمواد الغذائية عبر قسائم شراء محدودة. واستمرت المجاعة عاما كاملا.

فرض الاستعمار نظام الحماية على البلاد وارتكب أبشع الجرائم بحق المغاربة، واستنزف ثروات البلاد وسخرها لصالح المجهود الحربي، ووضع ملكية الأراضي الزراعية في يد المستعمرين الفرنسيين، وفرض سياسة التقشف على أصحاب الأراضي الأصليين.

ولم تكن حصص التموين التي فرضها الاستعمار تسد حاجة الناس، ودفع هذا الوضع كثيرين في عدة مناطق إلى أكل بعض الحشائش والنباتات وكذا الجراد. وخلفت هذه المجاعة نحو 50 ألف قتيل وأورثت أمراضا وأوبئة.

مجاعة فيتنام 1945

دخل الجيش الياباني فيتنام الشمالية والوسطى عام 1940 باتفاق مع الاستعمار الفرنسي، مما أدى إلى خضوع فيتنام لاستعمار مزدوج.

خلال الاستعمار الفرنسي كان الجوع يصيب فيتنام، ولكن لم يصل إلى ذروته إلا بدخول الاستعمار الياباني، الذي دفع إلى وقوع مجاعة شديدة أصابت نحو 32 مقاطعة.

عام 1945 دمر الاستعمار الياباني مزارع الأرز لصالح زراعة نبات الجوت العشبي وإنتاج مواد تخدم جيشه على حساب الشعب الفيتنامي، كما خزن اليابانيون الأرز للاستهلاك المحلي واستخدامه وقودا لمحطات الطاقة.

وأدت المجاعة في فيتنام إلى وفاة نحو مليوني شخص وفق تقديرات محلية، بينما تقدر وثائق دولية عدد الضحايا بمليون شخص، أي ما نحو 8% من إجمالي السكان.

مجاعة الصومال 1992

تعد الصومال من أكثر الدول عرضة للمجاعات بشكل مستمر، نظرا لطبيعة مناخها الجاف والصحراوي وندرة سقوط الأمطار، مما يدفع إلى نفوق الكثير من المواشي وتلف العديد من المحاصيل الزراعية وقلة توافر المياه في الأنهار والآبار.

لكنها لم تسلم أيضا من تعرضها للمجاعات بفعل الحروب الأهلية المتكررة والصراعات المسلحة، والفوضى المتكررة في البلاد، مما يحول دون إقامة حكومة قوية مستقرة تسهم في وضع إستراتيجية قوية لتنمية البلاد.

ففي عام 1992 وقعت مجاعة تعد من أقسى المجاعات في القرن العشرين، أدخلت الصومال في حرب أهلية قاسية عقب الإطاحة بنظام الرئيس محمد سياد بري على يد أمراء الحرب العشائريين، وسرعان ما انزلقت البلد في مجاعة، ونفقت آلاف المواشي وتفشت الأمراض، ولقي على إثرها نحو 300 ألف شخص مصرعهم.

أحد ضحايا المجاعة التي تسببت فيها الحروب في الهند بداية القرن العشرين (غيتي)

هذه الكارثة دفعت الولايات المتحدة الأميركية وعدة دول إلى إرسال قوات عسكرية بموجب قرار أممي تحت عنوان حملة "إعادة الأمل" لحماية المواطنين والإشراف على وصول مواد الإغاثة الغذائية والطبية إليهم.

وفي نهاية عام 2016 حذرت الأمم المتحدة من مخاطر وقوع مجاعة قاسية بالبلاد، وقدرت أن نحو نصف السكان يحتاجون إلى دعم عاجل لتجنب آثار الجفاف الشديد الواقع بالبلاد وقتها.

مجاعة السودان 1998

في عام 1998 دفعت الحرب في السودان (وخاصة في جنوب السودان قبل أن ينفصل ويصبح دولة عام 2011) إلى وقوع مجاعة أدت إلى وفاة الآلاف من السكان. وواجه أطراف النزاع (الحكومة السودانية والمليشيات المسلحة المعارضة لها) تهما بالمساهمة في تفاقم الأزمة بسبب نهب الغذاء ومنع وصول المساعدات الإغاثية إلى الشعب.

وتعرضت البلاد لموجة جفاف شرسة وتأخر هطول الأمطار واشتدت المجاعة، مما أدى إلى وفاة نحو 70 ألف شخص ونزوح أكثر من 72 ألفا من المناطق الريفية.

وفي السنة نفسها، قدرت الأمم المتحدة أن نحو 2.5 مليون شخص في جنوب السودان (من إجمالي عدد سكان السودان المقدر بنحو 27 مليونا) معرضون لخطر المجاعة.

وفي عام 2017 أعلنت منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) وبرنامج الأغذية العالمي، أن أجزاء من جنوب السودان تعاني من مجاعة شديدة جراء الحرب الأهلية والصراع المستمر في المنطقة والأزمات الاقتصادية المتوالية وارتفاع أسعار الغذاء وانخفاض الإنتاج الزراعي وارتفاع نسب التضخم، التي تجاوزت نسبة 800%.

مجاعة السودان 2023

منذ منتصف أبريل/نيسان 2023 اندلع قتال عنيف في السودان بين قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) وقوات الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان مما أودى بحياة أكثر من 15 ألف شخص وتسبب بنزوح أكثر من 8 ملايين، وهي إحدى عمليات النزوح الكبرى في العالم.

وواجه نحو 25 مليون شخص خطر المجاعة بسبب نقص الغذاء والماء، وعانى نحو 18 مليون شخص الجوع الحاد وانعدام الأمن الغذائي الحاد، من بينهم 5 ملايين في حالة خطرة.

كما عانى نحو 3.5 ملايين طفل من سوء التغذية، وارتفعت معدلات سوء التغذية ووجد السودانيون أنفسهم على حافة كارثة إنسانية مع مرور الوقت. ودفع سوء الأوضاع إلى تفشي الأمراض المعدية والأوبئة، وتم الإبلاغ عن تفشي أمراض مثل الملاريا وحمى الضنك والكوليرا.

وحذرت منظمات دولية من تفاقم الأوضاع وتكرار وقوع مجاعة شرسة كتلك التي ضربت السودان في سنوات سابقة.

مجاعة قطاع غزة 2023

عانى قطاع غزة من مجاعة شرسة بسبب العدوان الإسرائيلي الذي بدأ في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، إذ شدد الاحتلال منذ بداية الحرب الحصار -الذي كان قد فرضه من قبل على القطاع منذ 2007- مما أدى إلى نفاد جميع المواد الغذائية.

وإضافة إلى تجاوز حصيلة الشهداء جراء القصف والتوغل البري حاجز 29 ألف شهيد منذ بدء الحرب -أغلبهم من النساء والأطفال- فإن الاحتلال الإسرائيلي قرر فرض حصار خانق واستخدم سلاح التجويع ضد الفلسطينيين في غزة.

وقد بلغت الأزمة الإنسانية أقصى ذروتها في شمال القطاع ثم امتدت إلى جنوبه، وعانى السكان من النقص الشديد في الغذاء ومياه الشرب (حتى الملوثة منها) وذلك بعد قطع الاحتلال إمدادات المياه ونقص الوقود الذي أدى إلى إغلاق الآبار.

كما أغلقت المخابز بسبب النقص الشديد في الوقود والدقيق، واعتمد سكان القطاع على تناول المعلبات منذ بداية الحرب لسد جوعهم على الرغم من ندرتها، ولجؤوا إلى طحن أعلاف الحيوانات، وحتى هذه الأعلاف نفدت، كما امتد الجوع الشديد إلى الحيوانات وأدى إلى نفوق الكثير منها.

ووفقا لمؤشرات اليونيسيف ومنظمات دولية فإن حوالي 90% من الأطفال دون سن الخامسة في القطاع مصابون بمرض معد أو أكثر، وحذرت من ارتفاع شديد في الوفيات بين الأطفال مع استمرار الحرب.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: القرن العشرین إنتاج الغذاء سوء التغذیة مما أدى إلى أکثر من دفع إلى

إقرأ أيضاً:

الحرب التي تحدث في الجزيرة الآن هي في حقيقتها حرب مؤجلة.. وتحققت!

صديق عبد الهادي

(1)

هذا المقال لا يقدم رصداً تاريخياً، بقدر ما أنه يحاول أن يبين الخيط الذي ينتظم حقائق تاريخية لأجل الوصول لفهم حقيقة الهدف من وراء الحرب التي تم نقلها إلى أرض الجزيرة وليس إلى أي أرض أخرى، رغم حقيقة أن منطقة الجزيرة في الأساس هي منطقة إنتاج، حيث يبقى الاحتياج إليها مستقرة وآمنة في وقت الحرب لهو أكثر ضرورة منه في أي وقتٍ آخر، أي لا بد أن تبقى بمنأى عن الحرب، وذلك لأنها ستوفر الغذاء المطلوب في ظل مثل هذه الظروف، ولكن السؤال لماذا حدث العكس؟!

(2)

إن منطقة الجزيرة، والتي هي في حقيقة الأمر تضم منطقة وسط السودان بشكل عام، اكتسبت أهميتها القصوى بعد تفكك دولة الفونج وانهيارها الذي تمّ على مشارف القرن التاسع عشر. ولتبدأ من بعده تحولها التاريخي المعاصر مع تأسيس الدولة التركية في العام 1821. ومن هذه النقطة التاريخية تحديداً، وبمفهومها الحقيقي كدولة مركزية، بدأت العلاقة بين الدولة ووسط السودان، أي علاقتها بالجزيرة. وهي علاقة لم تكن تشبهها أي علاقة أخرى للدولة المركزية مع أيٍ من بقية مناطق السودان الأخرى.

ومنها، فقد مرّتْ أربع دول مركزية على السودان حتى الآن، وتلك الدول المركزية هي الدولة التركية (1821-1885)، الدولة المهدية (1885-1898)، دولة الحكم الثنائي/ الإنجليزي المصري (1898-1956) والدولة الوطنية بعد الاستقلال، أي من عام 1956، وإلى يومنا هذا. وكلها دول مختلفة في طبيعتها وتركيبتها بشكل عام، إلا أنها تشترك في سمة واحدة وأساس، وتلك السمة هي علاقتها بمنطقة الجزيرة تحديداً. اعتمدت كل تلك الدول المركزية في اقتصادها على منطقة الجزيرة باعتبار أنها منطقة زراعية من الدرجة الأولى، وكذلك لقربها من مركز إدارة سلطة الدولة المركزية. وهتان الحقيقتان إستوعبتهما القوى الاجتماعية وأنظمتها الحاكمة التي كانت تدير تلك الدول المركزية. جاء مكتوبٌ لمحمد علي باشا قائلاً فيه “من أجل تعمير الزراعة في سنار التي فتحناها بجهدٍ كبير نحتاج إلى فنيين لهم دراية، فلا تهملوا هذا الأمر وإلا ستندموا عليه كثيراً”. وبسنار يقصد محمد علي باشا دولة الفونج. ومن جانب آخر يمكن أن تكون أكثر عبارة أوضحت وأشارت، ليس فقط للنشاط الذي كان يسود منطقة الجزيرة، وإنما أفصحت عن الارتباط القوي لإنسان الجزيرة بالأرض، هي عبارة الخليفة عبد الله التعايشي في عدم رضائه، وفي ذمِّه لأهل الجزيرة حينما رفضوا الخوض في وحل الحرب الداخلية التي كان يديرها الخليفة داخل دولته، حيث قال إنهم، ويقصد أهل الجزيرة، “يميلون إلى حب الأطيان والإقامة بالأوطان”!.

(3)

ومع بدايات الحكم الثنائي، أي الإنجليزي المصري، كتب “جون ج لانق”، قنصل الولايات المتحدة في القاهرة إلى “ديفيد ج هيل” مساعد وزير الخارجية الأمريكي، قائلاً “تسعى حكومة البلاد بشدة إلى تطوير الموارد الزراعية في البلاد على أسس ليبرالية لتشجيع رأس المال والهجرة. لقد أصبح السفر إلى المدن الواقعة على النيل الأبيض والأزرق أكثر ملائمةً، إذ يمكن لأي مسافر أن يترحل” وإلى أن يقول “هناك احتياج للأدوات والآليات الزراعية… عليكم القدوم باكراً لتأمين موقع راسخ في أسواق البلاد”. إن “تطوير الموارد الزراعية في البلاد على أسس ليبرالية” والذي أشار إليه القنصل الأمريكي في عبارته إنما يعني به المساعي التي تمخض عنها إنشاء مشروع الجزيرة، في نهاية نجاحاتها في 1925. وهو المشروع الذي أصبح تحت سلطة الدولة المركزية الوطنية وأنظمة الحكم التي تعاقبت خلالها منذ الاستقلال، وبعد ذهاب دولة المستعمر.

وعلى نفس منوال تأكيد أهمية منطقة الوسط والتي تضم الجزيرة جاءت، أيضاً، أكثر الإفادات إفصاحاً وتركيزاً من الاقتصادي الإسلامي وأحد منظري نظام الإنقاذ “عبد الرحيم حمدي” الذي قال، ” إن الجسم الجيوسياسي في المنطقة الشمالية المشار إليه أعلاه، وسأطلق عليه اختصاراً {محور دنقلا – سنار + كردفان} أكثر تجانساً.. وهو يحمل فكرة السودان العربي/الإسلامي بصورة عملية من الممالك الاسلامية القديمة قبل مئات السنين.. ولهذا يسهل تشكيل تحالف سياسي عربي/إسلامي يستوعبه”. وهو أيضا “الجزء الذي حمل السودان منذ العهد التركي/الاستعماري/الاستقلال.. وظل يصرف عليه.. حتى في غير وجود النفط؛ ولهذا فإنه حتى إذا انفصل عنه الآخرون {إن لم يكن سياسياً واقتصاديا عن طريق سحب موارد كبيرة منه} لديه إمكانية الاستمرار كدولة فاعلة، يصدق هذا بصورة مختلفة قليلاً حتى إذا ابتعدت دارفور.. رغم إمكانية خلق علاقات اقتصادية أكثر مع دارفور، حتى لو انفصلت أو ابتعدت سياسياً.” (انتهى).

عُرف هذا النص في أدب الاقتصاد السياسي السوداني بنص تأسيس “مثلث حمدي”! وهو نص نظري مهم، مثَّلَ ملخص لبرنامج الحركة الإسلامية للتغيير الاجتماعي المتكامل، وكشف عما تضمره الحركة الإسلامية تجاه منطقة الجزيرة وكيفية محاولة تجييرها في صالح ذلك البرنامج الذي يرمي في نهاية الأمر لإقامة الدولة الإمارة!. وبالفعل قد بينت وحددت محاولات تنفيذه شكل العلاقة بين منطقة الجزيرة ونظام الإنقاذ، والتي لا تزال تداعياتها تترى وتتتابع حتى اليوم.

(4)

على ضوء هذه الخلفية المختصرة، ليست التاريخية وحسب، وإنما الاقتصادية السياسية، وكذلك من خلال النظر المتأمل في علاقة منطقة الجزيرة بكل النظم الحاكمة التي مرت على البلاد منذ العهد التركي وحتى الآن نود أن ننظر إلى هذه الحرب الكارثية الغاشمة التي تجري الآن في منطقة الجزيرة، وكما تمت الإشارة في مقدمة المقال، ولنقف أيضاً على طبيعتها، وعلى أصل الأهداف التي خُطِطَ لتحقيقها من وراء زج منطقة الجزيرة في أتونها.

إن العلاقة بين الجزيرة وجميع الحكومات المركزية في تاريخ السودان الحديث، كانت في صعودها وهبوطها تخضع للسلاسة مرات وللتوتر مرات أخرى، وذلك بالقطع ما هو من طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم. وقد كانت تخضع تلك العلاقة كذلك للأشكال والأدوات المعروفة التي تستخدم في الصراع لأجل تحقيق المصالح بين الأطراف، من تفاوضٍ واحتجاجاتٍ وإضراباتٍ وبل اعتصامات خاصة عندما أخذت العلاقة تحتكم لأشكال حديثة وأرقى، تمثلت في القوانين التي حولت تلك العلاقات لتصبح هي الأخرى علاقات حداثية مبنية على عقدٍ اجتماعيٍ وعلى علم، وذلك بفضل الأرضية التي خلقها مشروع الجزيرة كركيزة لنهوض القطاع الحديث. فالاستثناء الوحيد في سجل تلك العلاقة مع الأنظمة الحاكمة في التاريخ الحديث للسودان كانت علاقة منطقة الجزيرة مع نظام الإنقاذ، أي نظام الإسلاميين!، إذ إنه كان النظام الوحيد الذي ناصب المزارعين العداء والفجور في الصراع، حيث تمت فيه ملاحقة المزارعين؛ ومن ثم إيداعهم السجون لا لسبب سوى أنهم مزارعون! وتلك كانت الخطوة الأولى في تغيير طبيعة التعامل مع المشروع ومكوناته البشرية والمادية، وكذلك كانت الخطوة الأولى نحو تفكيكه كوحدة اقتصادية/ اجتماعية. ومن ثم تداعت بعد ذلك، وتلاحقت الدعاوى بفشل المشروع، وكانت في معظمها دعاوى كذوبة قصد منها التمهيد للقضاء على المشروع، وذلك بتصفية ممتلكاته الأساسية؛ ومن ثم بنياته التحتية، وقد كان. وقد قالها الراحل حسن الترابي في دار اتحاد المزارعين حين اجتماعه بكبار موظفي ومهنيي المشروع في أوائل أيام حكمهم، بأن يجب التخلص من مشروع الجزيرة. والمقصود بالتخلص منه، هو أن يتم ذلك عن طريق تغيير طبيعة ملكية الأرض فيه. وكذلك رددها عوض الجاز بأنه لا يود سماع “أن يذهب جنيه واحد لدعم مشروع الجزيرة”!، وكذلك قالها البشير، وحتى البرهان قالها، “عفو الخاطر” في مخاطبته لأحد لواءات جهاز الأمن، وهو من أبناء الجزيرة، “إنت من الجزيرة وكيف وصلت للرتبة دي؟!”. فإن لم يكن ذلك هو العداء المضمر فما العداء إذاً؟!

في ظل نظام الإنقاذ تمت صياغة الأداة القانونية والتشريعية الكفيلة بتصفية المشروع (صدور قانون 2005). وكان ذلك في مواءمة تامة مع الإطار النظري الذي استند إليه “مثلث حمدي”، أي برنامج التغيير الاقتصادي /الاجتماعي/ السياسي للحركة الإسلامية السودانية، والقاضي بإقامة الدولة الإمارة!

(5)

لم تسقط رايات ذلك البرنامج حتى بعد ثورة ديسمبر 2018، بل زاد التمسك به على رأس المصالح الضخمة التي من أجلها تم إشعال الحرب! فشلت كل محاولات تغيير طبيعة ملكية الأرض في منطقة الجزيرة عن طريق “الحرب الناعمة” لأن أهل الجزيرة انتصروا في جميع المواجهات القانونية التي تمت إبان فترة حكم الإنقاذ، وقد نجحت الثورة في تجميد العمل بقانون 2005، وذلك رغماً عن عدم التمكن من إجازة القانون البديل الذي كان تحت الإعداد بعد الثورة.

وضح للإسلاميين أن تغيير ملكية الأرض لن يتم إلا عن طريق الإحلال، أي عن طريق ما يعرف بالتغيير الديمغرافي، وليس بوسيلة “الحرب الناعمة” أي ليس بواسطة التشريع والقانون، وإنما عن طريق “الحرب الخشنة” أي باستخدام الحديد والنار. فلذلك كان قرار اللجنة الأمنية للحركة الإسلامية هو نقل الحرب وبكامل قبحها وقوتها التدميرية إلى أرض الجزيرة، وليس إلى أي منطقة أخرى! فقرار نقل الحرب وإخلاء الجيش السوداني وترك أهل الجزيرة العزل في مواجهة وحشية قوات الدعم السريع ودمويتها، هو قرار لا علاقة له بالتكتيك العسكري أو القتالي أو الحربي، لأن التكتيك العسكري الحصيف والمعروف لا ينقل المعارك إلى مناطق الإنتاج، فالحرب، وكما هو معلوم، تحتاج لأن تكون هناك عملية للإنتاج مستمرة دون اضطراب، وهذا ما تفهمه العقليات الحربية وما تحض عليه كافة العلوم العسكرية. ولكن ما تم من قرار بأن تصبح أرض الجزيرة هي أرض المعركة الأم، فقد كان ذلك هو، وفي صميمه إعلان وإفصاح، بل وتحقيق عملي لحرب كانت مؤجلة ولزمن طويل!. ولا أدلَّ على ذلك من أن العالم كله يشهد اليوم كابوس إخلاء أهل منطقة الجزيرة وبهذا العنف الدامي، ويقف كذلك شاهداً على بدء التمهيد لعملية الإحلال القسري في أرض الجزيرة وكما خطط لها الإسلاميون وحلفاؤهم من برابرة العصر.

فهذه الحرب ليست حرب صدفة، وإنما حرب كانت مؤجلة والآن قد تحققت، وبالفعل.

(6)

إن العالم، وكل العالم، ملزم قانونياً وأخلاقياً بالعمل على وقف عملية الاقتلاع التي تتم الآن في حق أهل الجزيرة وذلك بأن يمتثل لنص قوانين الأمم المتحدة وخاصةً إعلانها المتعلق بحماية حقوق السكان الأصليين (295/61)، الصادر في 13 سبتمبر 2007. وخاصةً المادة (10) المتعلقة بحماية الأرض. فأهل الجزيرة، ولا شك، ممنْ تنطبق عليهم تلك الحماية وفقاً للتعريف الذي تتبناه الأمم المتحدة بخصوص أرض السكان الأصليين.

لنعمل جميعاً على المطالبة بوقف هذه الحرب ولنعمل على المناشدة بالحماية ليست لأهل الجزيرة وحدهم، وإنما التمسك بالحماية لكافة أهل السودان.

الوسومصديق عبدالهادي

مقالات مشابهة

  • الحرب التي تحدث في الجزيرة الآن هي في حقيقتها حرب مؤجلة.. وتحققت !
  • هل ستكون حرب الستين يومًا آخر الحروب؟
  • طبيب يوضح أبرز العوامل التي تحفز احتشاء عضلة القلب
  • الحرب التي تحدث في الجزيرة الآن هي في حقيقتها حرب مؤجلة.. وتحققت!
  • وزير النقل: انطلاق قطار الرياض علامة بارزة على النهضة التي نعيشها في مختلف المجالات
  • فرحة اللبنانيين بوقف الحرب وتواصل أحزان السودانيين
  • السفير العماني يرعى صالون أحمد بن ماجد والملتقى العشرين للطلبة العمانيين في مصر
  • أبرز الأعمال الدرامية الجديدة التي عرضت خلال شهر نوفمبر
  • رئيس هيئة الغذاء يشارك في أعمال الدورة 47 لهيئة الدستور الغذائي (CODEX) في جنيف
  • مليون ونصف نازح سوداني يواجهون خطر المجاعة مع شح المساعدات