لم نعد كما كنا، أصبحنا غرباء، تفرقنا هرباً من الذكرى وعهود الصداقة والتزامات الأخوة التى ترهقنا.. أنهكتنا الحياة حتى لم نعد نقوَ على الحب، ذلك الذى كان (فعلاً وثورة ولقمة عيش وضحكة من القلب وسخرية من تفاهة أحلامنا المستحيلة وعلاقات معقدة «لأننا لسنا عاديين».. وضماناً للأقساط ومنح مالية لا ترد إلا بحروف وكلمات لأنها أثمن ما نملك)!.
هل كان صديقى المكتئب دائماً هو الخيط الذى يجمعنا وانفرط العقد بعده؟!.. أم كانت غواية الكلمة الحرة المتمردة، والإضراب ضد «حبس الصحفيين»، ورائحة الحبر تشيع عهد مبارك وتلعن «الإخوان وسنينهم»؟!.
«انزل يا محمود روح الجورنال».. شيلوا اسمى من على الترويسة: إن لم نجد من يدهسنا انتحرنا من أعلى المانشيت الرئيسى.
هكذا كان «محمود الكردوسى» طفلنا المدلل العنيد، الأكثر موهبة والأكثر إيماناً بأن الموهبة لعنة لا تزول إلا بالعشق أو الكتابة (أنا الذى رأى كل سحرة العاصمة لحماً ودماً).. ألم تنفخ فى عصاك شجناً خاصاً لتخلع الأساطير ثيابها وتكشف عن صمتك الكئيب وتفك «طلاسم كلماتك»، وتفض بكارة الخرافات الساكنة فى قلب التاريخ والصعيد، وتتراقص جنيات الشعر من حولك لتمنحك «سيناريو صاخباً» وسخرية لاذعة وموهبة نادرة لتسطر «ذائقة الموت» بحبر القلب: «اليوم أتممت كلماتك».
لم يترك لنا «محمود» فرصة للمزايدة على حزنه، ولا البكاء على قبره، لقد بكيناه مئات المرات حياً، وانتزع الأنفاس من صدورنا ونحن نراقب جسده يقاوم «الحياة» ليذهب سريعاً إلى حضن «أمه»: «أصبح عندى الآن قبر»!.
وكأنه منحنا نفحة من موته جعلتنا نضيع فى دروب الحياة، لكنه لم يعلمنا كيف نغتال الموت حين يتسلل ليسرق منا «البهجة اليتيمة».. ولا أطلعنا على سر الخلود بين كلمتين: «السيسى – 30 يونيو».. احتكر محمود لنفسه «الخلطة السحرية»: أن يؤلمك ويزعجك ويغرقك فى طاقة الكآبة السلبية وتحبه!.. أن يهرب منك أو يأتيك فجأة مثل جنىّ يقفز إلى عقر حياتك دون استئذان ليفرض حزنه ومرضه ووجعه العاطفى وتحبه!.
لم نسأل يوماً لماذا أحببنا «الكردوسى» بكل ما فيه من لامبالاة وعدمية؟.. إنها عبقرية «أن تكون محمود الكردوسى» بكل هذا النزق والتهور فى حب الوطن، وتلك الطفولة فى التعلق السريع والهجر السريع «نزوات لم تأتِ» وعرائس أحلام لم تتجسد، وحدها «صاحبة الجلالة» كانت المعشوقة التى منحته نفسها ومجدها وبريقها بربع ما أوتى من موهبة واحترافية.
احترف «الكردوسى» الكتابة واحتكر اللغة وترك لى «رثاء يليق به».. ترك لى ضحكته الصافية حين يسخر من «فكرة الاحتراف».. كانت «المناصب» تأتيه صدفة ويهرب منها ليعانق القلم ويكتب: الكلمة هى معشوقته الوحيدة.. تراوده عن نفسها، ربما يجنى منها مالاً أو شهرة، لكن ذلك «الانبهار» الذى يحيط به لم يأته إلا فى شهقة الموت!.
«وقدرت تموت يا محمود» وتُميت فينا دفء «الصحبة» وتفرض علينا العزلة والصمت؟.. الطيبون هكذا: غرباء.. كرقعة حريرٍ فى رداء صوفى مهووس.. لا يتذكرون أين خبأوا لحظاتهم الجميلة.. ولا يكترثون إلا بنداء القديسة تريزا: «هلمى أيتها الحياة فغادرينى.. إنى أريد أن أفقدك لكى أكسبك».. ثم يموتون فى صمت.
سحر الجعارة – الوطن نيوز
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً: