تروج اليوم من جديد إدارة الدول لأمنها ودفاعها وسط التهديدات الدولية على النحو الأساسي للغاية، أي الحرب والسلام. ولقد تأكد ذلك بغزو روسيا لأوكرانيا، وحرب غزة، والانقلابات والحروب الأهلية في عدد من البلاد الإفريقية وخطر التصعيد العسكري في شرق آسيا سواء في تايوان أم في بحر الصين الجنوبي أو شبه الجزيرة الكورية.

غير أنه حتى الآن لا يوجد من ينازع في أن السياسة الخارجية تتعلق بما هو أكثر كثيرًا من الدبلوماسية أو المخابرات أو التحالفات الاستراتيجية أو مخزونات الأسلحة. إذ يجدر بها أيضا أن تشتمل -مثلًا- على أزمة المناخ، وانعدام الأمن الغذائي والذكاء الاصطناعي. وثمة طريق طويل لا بد من قطعه لكن الاعتراف بالتعقيد والتداخل ظهر على أتم نحو ممكن في مؤتمر ميونيخ الآخر للأمن، وهو لقاء سنوي يعرف بدفاع ديفوس.

لقد بدأت حضور فعالية ميونيخ هذه منذ ما يربو على العقد. وفي أول الأمر كنت أشعر وكأنني سمكة أخرجت من مياهها. فلم يكن هناك غير مجموعة من النساء يحضرن المؤتمر وكانت الأغلبية الساحقة من الحضور رجالًا بيضًا هرمين ذوي سترات أو أشكال مختلفة من الأزياء الرسمية العسكرية.

وجاء التغير الحادث على مدار السنين مثيرًا للإعجاب، كما أنه كان ملهمًا من أوجه كثيرة. فقد تزايدت المشاركة النسائية على نحو هائل، وكذلك التمثيل الجغرافي. فمن بين عشرات رؤساء الدول والوزراء الحاضرين، بات الكثيرون الآن ينتمون إلى بلاد في الجنوب العالمي. وثمة تنوع عظيم في المشاركين، من رؤساء ووزراء وجنرالات وكبار رجال المخابرات يشتركون في المكان مع المناضلين من أجل المناخ وسحرة التكنولوجيا وناشطي حقوق الإنسان وغيرهم.

وثمة مكانة بارزة في برنامج الفعالية تحتلها الآن موضوعات من قبيل أزمة المناخ والطاقة والأمن الغذائي والذكاء الاصطناعي والهجرة والتعددية وسلاسل التوريد العالمية. وإذا ما اعتبرنا المؤتمر أنموذجًا مصغرًا للمجال الأمني الدولي فإن كل هذا يصبح من الأخبار الطيبة.

غير أن الكثير من النقاشات لم تزل تجري في فقاعات منفصلة عن بعضها بعضا. لقد أجريت محادثة متميزة ومقبضة للغاية حول الحرب الروسية الأوكرانية، طغت عليها وفاة زعيم المعارضة الروسي أليكس نفالني، وخسارة أوكرانيا مدينة أفديفيكا أمام القوات الروسية وتعليق الكونجرس الأمريكي المساعدات العسكرية لأوكرانيا، وشبح دونالد ترامب البادي في الأفق.

وجرى كذلك نقاش محبط إلى أقصى حد حول الشرق الأوسط في ظل عدم إبداء الحكومة الإسرائيلية أي بوادر على ضبط النفس، وعزوف إدارة بايدن -برغم إعرابها لفظيا عن معارضة هجوم إسرائيل على رفح- عن استعمال ما تمتلك من نفوذ لإيقاف إسرائيل.

وفي حين أن هذه النقاشات أجريت بشكل منفصل، فقد غابت المفارقة المأساوية التي تربط بينها جميعًا. فتعليق المساعدة العسكرية لأوكرانيا بسبب مماطلة الكونجرس الأمريكي يمنح روسيا تفوقًا عسكريًا، أما في الشرق الأوسط فإن عزوف جو بايدن عن مجرد التلويح بتعليق المساعدات العسكرية لإسرائيل يكمن في لبّ الأزمة الإنسانية التي تعانيها غزة.

والأمر لا يقتصر فقط على الفصل بين النقاشات التي أجريت حول حربي أوروبا والشرق الأوسط؛ لأن ذلك ينطبق على أمور أخرى تحتل قمة الأجندة العالمية. فبلاد الشمال العالمي مستغرقة في أوكرانيا. وبلاد الجنوب العالمي أكثر اهتماما بحالة الطوارئ المناخية والأمن الغذائي والنزوح الجماعي.

وبرغم الروابط الواضحة بينها جميعًا، وكون الرابط بين الأمن الحربي والغذائي هو الأشد وضوحًا، فإن الحوارات تجري في أماكن مختلفة ويشترك فيها أشخاص مختلفون.

والأدهى من ذلك أنه في حين أن الغرب قد بذل جهدا واعيا من أجل إشراك الجنوب العالمي في أوكرانيا خلال السنة الأولى بعد الغزو الكامل، فقد انتهت إلى الصمت تلك المحاولات البسيطة التي تمت على استحياء. ولم تعد إثارة قضية أوكرانيا اليوم تثير أي تعاطف في ضوء ازدواجية الغرب الشنيعة في المعايير، ما لم نقُل تواطؤ الغرب مع إسرائيل في حرب غزة.

لقد أصبح العالم اليوم أكثر ترابطًا من ذي قبل. وليس ذلك أوضح في مجال مما هو في الصراعات الجارية الآن، بدءا بأزمات الغذاء العالمي والطاقة الناجمة عن تأثير هجوم روسيا على أوكرانيا إلى قضية الإبادة الجماعية المرفوعة من جنوب إفريقيا على إسرائيل في محكمة العدل الدولية، أو قطع الحوثيين لمسارات التجارة العالمية بالهجوم على السفن العابرة في البحر الأحمر.

ولكن العالم أيضا أشد انقسامًا وتشرذمًا من ذي قبل؛ إذ تضيق المجالات المخصصة للحوار الحقيقي والتعاون والفهم من يوم إلى يوم.

لقد صدمني على سبيل المثال كيف أن تشكيلة الحاضرين في القاعة الرئيسية في ميونيخ قد تبدلت على نحو مشهود خلال جلستين متتاليتين، إحداهما مخصصة للدفاع الأوروبي، والثانية للشرق الأوسط. لقد بقيت في القاعة خلال الجلستين ورأيت الجمع الأبيض (في الغالب) إذ يغادر الجلسة الأولى ليدخل جمعٌ أكثر تنوعًا. وبالطبع كان المشاركون ينشغلون بإجراء محادثات ثنائية ثم يرجعون حينما يقترب الموضوع في القاعة من دائرة اهتمامهم. غير أنني أتصور أيضًا أن الناس يكونون أكثر ارتياحًا بالبقاء في القاعات التي يألفون موضوعاتها.

إنَّ للحروب الجارية الآن -وإن تكن إقليمية- تداعيات عالمية، وهي تغذي فقدان الثقة، وسوء التفاهم وسردية «الغرب في مقابل الباقين» في العالم. وهذا بدوره يزيد من تعقيد البحث عن حلول للتحديات الكبرى العابرة للحدود الوطنية في عصرنا. وفي حين أنه من الممكن للغاية تجميع الأصوات من شتى أرجاء العالم بنجاح، فإن الانفصال العالمي بينها يزداد اتساعًا.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

قبلان لرئيس الجمهورية: أسوأ ما يمكن أن تضعنا فيه واشنطن مع حلفها هو حرب أهلية ستنتهي ويبقى لبنان

وجّه المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان كتاباً مفتوحاً الى رئيس الجمهورية جوزاف عون، جاء فيه: مع كامل المحبة والحرص، فخامتكم تعلمون أن هذا البلد مرّ بتاريخ هائل وصعب مما فرضته صراعات الإقليم والعالم، ومع ذلك عاشت مكوّناته الوطنية كعائلة وطنية تصرّ على وحدتها وطبيعة ثقافتها التاريخية والوطنية، ولم تمنع الخصوصية الطائفية من بناء وحدة وطنية عابرة للطوائف، ومع توغّل السياسات الدولية بواقع هذا البلد وضمن فترة حساسة انتهى لبنان بحرب أهلية مجنونة انكشفت عن كوارث هائلة، إلا أنّ لبنان بقي وبقيت طوائفه، والآن البلد على حافة برميل من البارود، واللعبة الخارجية تريد توظيف البلد بمشاريع صفقاتها الدولية والإقليمية، وهذا أمر شبه مستحيل، إلا إذا لم يبق جيل سيادي ممانع وأعني بذلك كل قوى لبنان وطوائفه التي تعتقد بسيادة هذا البلد، وأي خطأ جسيم (لا سمح الله) سيضعنا بقلب خرائط حرب أهلية ستكون نتائجها كارثية وكبيرة على هذا البلد المظلوم، وإسرائيل رغم شراكة أميركا والأطلسي - والتي لم تستطع التخلص من قطاع غزة- ليس بمقدورها التخلص من قيمة وصميم قوة لبنان، وللتاريخ: لبنان عصي على إسرائيل، وأسوأ ما يمكن أن تضعنا فيه واشنطن مع حلفها هو حرب أهلية ستنتهي، ويبقى لبنان ويبقى طوائفه، وهذا ما لا نريده على الإطلاق، وأنتم جزء مركزي من ضمانة هذا البلد وحمايته، وفخامتكم تعلم أن لبنان قوة وقدراته السيادية أكبر مما يُرسَم على الخرائط، واللحظة لكم فخامة الرئيس، وأنت إبن المؤسسة العسكرية وابن الجنوب المصقول بأقدس تضحيات وطنية تاريخية نادرة، ومنذ عقود ودماء الجيش والمقاومة والشعب تختلط ببعضها لتزيد من عظمة القيمة الوطنية السيادية لهذا البلد الذي لم تتركه أساطيل العالم بمنأى عن سياساتها الإستنزافية والتدميرية، وأنتم  ليس حكماً فقط بل قدرة دستورية تعيد توظيف قوة لبنان الداخلية والخارجية بالسلم الأهلي والعائلة الوطنية وخلق مناخ يساعد المشروع الوطني على تطوير نفسه وتوسيع قدرات صموده وثباته وتضامنه الشامل، وهذا يمر بتأكيد أُبوّة الدولة لشعبها بعيداً عن لعبة الندية معه، أو الإصرار على خيارات تتعارض بشدة مع التضحيات الوطنية التي تشهد لها الملاحم الأسطورية في كل من الجنوب والضاحية والبقاع وكل لبنان، وهي التي هزمت الجيش الأسطورة على تخوم الخيام، وما تحملته المقاومة وما تتحمله الآن لا تستطيع دول كثيرة القيام به، والمطلوب من فخامتكم التعامل مع هذه التضحيات بصفة أبوية، وموقع رئيس الجمهورية جدير بذلك، واللحظة للتاريخ، لأن ما يحدث غريب للغاية، وبعض المواقف الحكومية تحتاج إلى تفسير مقنع ولا أعتقد أنها تصبّ بالصالح الإستراتيجي لهذا البلد، خاصة أن أشلاء قرابين هذا البلد السيادي ما زالت تحت الأنقاض، والتعزية الحكومية لأبناء وطنها التضحويين لا تكون بهذه الطريقة، والإعتقاد بأن الجنوب والضاحية والبقاع أراضٍ لبنانية لا يكون بهذه المواقف النديّة مع شعبها وناسها، والأكيد بالنسبة لكم أنّ الجنوب أقرب للحكومة من واشنطن، لذا فإنّ بعض المواقف الحكومية والتي تتعارض مع صرخة الدماء السيادية تضعنا بقلب كارثة، ومعكم الرئيس نبيه بري وهو ركن وطني وثيق وذاكرة تاريخية وضامن استراتيجي وسيادي لواقع هذا البلد، وتصميم الإستراتيجيات لا بدّ أن يمرّ به كقوة سيادية ووطنية ومؤسسة دستورية لانتشال هذا البلد من أزماته التي تعيد اجترار كوارث العالم، ولذلك الحكومة مطالبة بتأكيد ميزانها الوطني ومصالح شعبها".

وتابع: "الحل باعتماد خيارات وطنية تحمل دماء هذا الوطن وتعين على رفع أنقاضه وأوجاعه، وأنتم فخامة الرئيس تملكون القدرة على ذلك، ولا نريد من لبنان الرسمي مواجهة العالم بل أن يقوم بواجبه بحفظ لبنان وشعبه وسيادته من خناجر العالم، وإبن المؤسسة العسكرية والجنوب يملك من القدرة الوطنية والشجاعة السيادية ما يضمن ذلك، وشعب لبنان توّاق للمحبة والإلفة ونبذ الإنقسام الوطني وتأكيد الروح الجماعية لإنقاذ هذا البلد، وهذا يمرّ بتأكيد الإلفة الوطنية وميثاقيته السيادية وواقع تضحياته التاريخية، وما نريده لهذا البلد تأكيد وحدته وسلمه الأهلي وأبوّته الوطنية وقدراته على إدارة مصالحه بعيداً عن إملاءات العالم، وبعبدا بوجودكم قادرة على إدارة سياسة استباقية ميثاقية تسحب فتيل أزمات هذا البلد وتحمي لبنان من مشاريع التمزيق والتحريق والفتن والفوضى والفلتان، وهذا يفترض وضع مؤسسات الدولة بخدمة إنسانها وليس بوجه من بقيت أشلاء قرابينهم السيادية تحت الأنقاض، وضمير لبنان وأشلاء قرابينه الأكابر بين أيديكم، ولحظة التاريخ تنتظركم، وما أعتقده أنّ أولوية لبنان بوحدته الوطنية وسلمه الأهلي وقدرته السيادية رمز القضايا التي تتشكّل في الفترة الأولى من قيادتكم للبنان. اللهم فاشهد فقد بلغت".

مقالات مشابهة

  • سعر الذهب اليوم الإثنين في مصر.. وهذا سعر الجنيه الآن
  • تحليل CNN.. قلق أوروبي بسبب رجال ترامب ومفاوضات أوكرانيا في السعودية
  • يايسله: تجاوزنا خسارة النصر وتركيزنا الآن على مواجهة الغرافة
  • قبلان لرئيس الجمهورية: أسوأ ما يمكن أن تضعنا فيه واشنطن مع حلفها هو حرب أهلية ستنتهي ويبقى لبنان
  • انخفاض إنتاج البن في البرازيل يؤدي إلى ارتفاع أسعاره في جميع أنحاء العالم
  • في جلسة حوارية بميونخ حول الطبيعة والأمن.. الجبير يوضح أن التحديات البيئية والتغير المناخي تؤثر على جميع نواحي الحياة بما فيها الأمن والاستقرار العالمي
  • الكشف عن الوحدة السرية الجديدة التي ستقود حرب الظل الروسية ضد الغرب
  • وزير الخارجية الصيني: القوة والعقوبات لن تحل المشاكل وهذا ينطبق أيضا على أوكرانيا
  • «طالع نازل».. مفاجأة في سعر الذهب اليوم السبت 15 فبراير 2025 وهذا سعر عيار 21 الآن
  • مفتاح: الشعب اليمني يعود إلى الساحات وهو أكثر حماساً