يؤكد استمرار المعارض الدولية السنوية للكتاب، ومنها معرض مسقط الدولي للكتاب الذي انطلق في العاصمة العُمانية الأسبوع الماضي، أن مستقبل وسيلة نقل وتبادل المعرفة والمشاعر والمعلومات والمهارات الأولي في تاريخ البشرية ما زال آمنا حتى في عصر انتشار المنصات الرقمية، وأن الكتاب كمنتج ثقافي ما زال قادرا على البقاء لفترات تاريخية أطول حتى في ظل تغير اهتمامات الأجيال الجديدة، خاصة أبناء الجيل الرقمي الذين يميلون أكثر لشغل أوقات فراغهم أمام شاشات هواتفهم الذكية وأجهزة الحاسب الآلي وشبكات التواصل الاجتماعي.

ويقف معرض مسقط الدولي للكتاب ومثيله من المعارض المهمة شاهدا على بقاء الثقافة الورقية التي تنبأ البعض منذ سنوات بنهايتها بعد أن يتحول الناس إلى الشاشات الوامضة ويتخلون عن المنصات الورقية. وتمثل تلك المعارض، التي يطالب البعض بتوقفها واستبدالها بمعارض رقمية تفاعلية، عاملا مهما من عوامل استمرار وازدهار صناعة الكتاب في العالم، إلى جانب عوامل أخرى مثل التوسع في التعليم الجامعي وقبل الجامعي، وبالتالي استمرار وتزايد الحاجة البشرية إلى مزيد من الكتب لأغراض التعليم والتدريس، والطابع التجاري لشركات النشر وسعيها إلى تحقيق أرباح وبالتالي تطويرها أنواعا عديدة من الكتب وملاحقة التطورات التكنولوجية في الإنتاج، ورخص أسعار مستلزمات إنتاج الكتاب من ورق وأحبار وطباعة نتيجة التطور الصناعي والتجاري في العالم، بالإضافة إلي استمرار تدخل الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني مثل جمعيات واتحادات ونقابات الكتاب والأدباء لدعم صناعة الكتاب في غالبية دول العالم، لإدراكها أهمية الكتب كنوافذ تطل من خلالها الشعوب على العالم وعلى الماضي والحاضر والمستقبل.

ورغم المنافسة الشديدة التي لقيها ويلقاها الكتاب الورقي من نظيره الرقمي الذي يمكن قراءته على شاشات قارئات الكتب وأجهزة الكمبيوتر والآيباد والهواتف الذكية، وكذلك من وسائل الإعلام الأكثر جماهيرية مثل التليفزيون والصحف والمجلات والراديو ومواقع الويب وشبكات التواصل الاجتماعي، فإنه لا زال يمثل للكثيرين الوسيلة الأكثر احتراما نظرا لطبيعته الخاصة كأداة ثقافية، ووسيلة للإعلام ونقل المعارف والتعليم والتسلية. ويتميز الكتاب بأنه يخاطب النخبة المثقفة والمؤثرة في المجتمع. ولذلك يقال «إن تأثير الكتاب يتخطى حدود حجم توزيعه الفعلي لأنه يؤثر في النخبة التي تتولى صنع القرار». ويلعب الكتاب دورا مؤثرا ومتميزا في نقل التراث الحضاري والثقافي بين الأجيال، ويساهم في التغيير الاجتماعي. ورغم أن كل وسائل الإعلام تؤدي الوظائف الثقافية بدرجات متفاوتة، فإن الكتب تمثل قوة ثقافية كبيرة، كونها تمثل مرايا للثقافة الوطنية، ومحركا من محركات التغير الثقافي والاجتماعي، ومستودعات ثقافية مهمة، ووسائل ممتعة للتسلية والهروب.

وقد نجحت شركات نشر الكتب في العالم وفي الدول العربية إلى حد ما في الاستفادة من الثورة الرقمية وتطويعها لخدمة صناعة الكتاب، وأصبحت تنتج نسخا رقمية متعددة من الكتاب الواحد، إلى جانب النسخ الورقية، وإتاحتها للبيع الفوري عبر تطبيقات خدمات بيع الكتب أو على مواقعها على شبكة الويب، حيث يستطيع المشتري تحديد النسخة التي يرغب في الحصول عليها؛ ورقية كانت أم رقمية.

ولعل ما يجعل للدورات الجديدة من معرض مسقط الدولي للكتاب أهمية أكبر، التطورات الإيجابية التي تشهدها صناعة الكتاب في عُمان، والتي نتج عنها زيادة كبيرة في عدد الكتب المنتجة سنويا داخل السلطنة، إذ أشارت إحصاءات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات إلى نمو عدد الكتب المنشورة خلال عام 2020 بنسبة 115 بالمائة ليصل إلى 1049 كتابا، مقارنة بأرقام العام 2016، وأرقام منظمة اليونسكو التي قدرت عدد الكتب المنشورة بسبعة كتب فقط في عام 2011. والواقع أن هذه الزيادة الكبيرة في عدد الكتب في عُمان، بالإضافة إلى الزيادة الملموسة في عدد دور النشر، تعود في جزء منها إلى استمرار وتطور معرض مسقط الدولي للكتاب، الذي يمثل عاملا مشجعا لأطراف صناعة الكتاب من مؤلفين وكتاب وشركات نشر وشركات توزيع على إنتاج المزيد من الكتب للاستفادة من السوق الجيد للكتاب في السلطنة من جانب، وزيادة القدرة الشرائية الكافية لاقتناء الكتب والاحتفاظ بها، والتوسع في التعليم، وافتتاح المزيد من المدارس وجامعات والكليات الجديدة.

ورغم شكوى أطراف صناعة واستهلاك الكتاب الورقي في معرض مسقط الدولي للكتاب، فإن حرصهم جميعا على التواجد في المعرض وإقبالهم عليه، يؤكد أن هذه الشكاوى لم تحل دون نجاح المعرض الذي بلغ عدد زواره العام الماضي نحو 358 ألف شخص، وهو عدد كبير نسبة إلى عدد سكان عُمان. صحيح أن رواد المعرض يشتكون من ارتفاع أسعار الكتب، ومع ذلك لم يتوقفوا عن الذهاب للمعرض وشراء الكتب، وصحيح أيضا أن الناشرين يشتكون من انخفاض عائدات البيع، وانصراف الناس والمؤسسات عن شراء الكتب، ومع ذلك فإنهم يحرصون في كل عام على التواجد في المعرض، وهو ما يؤكد أنهم يحققون أرباحا كبيرة منه. والواقع أن دور شركات النشر في صناعة الكتاب لا يقل أهمية عن دور المؤلفين. فالناشر يتحمل المخاطرة باستثمار أمواله في تحويل النص المؤلف إلى كتاب وتوزيعه جماهيريا، وتحقيق أرباح له وللمؤلف وجميع المشاركين في الإنتاج والتوزيع. وبسبب هذه المخاطرة يحجم الناشرون عن نشر الكتب التي لا يعتقدون أنها ستحقق ربحا. ولذلك تتدخل الحكومات في مختلف بلدان العالم في سوق إنتاج ونشر وتوزيع الكتب من خلال وزارات الثقافة ووزارات الإعلام والإدارات الحكومية المعنية، تشجيعا لنشر المعارف من ناحية والتحكم فيما تقرأه الشعوب من ناحية أخرى. ويعتمد الناشرون في توزيع الكتب على معارضهم الخاصة وعلى محال بيع الكتب ومعارض الكتب.

أما المؤلفون والكتاب الذين يشتكون من عدم حصولهم على حقوقهم المادية من الناشرين، فانهم لا يتوقفون عن الإبداع والتأليف، والتعامل ربما مع نفس الناشرين الذين يجأرون بالشكوى منهم.

هكذا إذن تبدو الصورة في كل عام في معرض مسقط الدولي للكتاب، الذي يشهد نقلات تنظيمية مهمة وناجحة في السنوات الأخيرة، وفي كل معرض من معارض الكتب التي تحرص الدول على إقامتها لإظهار اهتمامها بالثقافة والآداب والفنون والعلوم، والتي أصبحت علامة من علامات السيادة الوطنية والخصوصية الثقافية التي تتباهى بها الدول، حتى وإن كانت لا تدر عائدات مباشرة وعلى المدى القصير. وكشاهد من أهلها يمكن أن أزعم أن معرض مسقط الدولي للكتاب الذي دخل عامه الثامن والعشرين بهوية جديدة ويستمر حتى الثاني من مارس القادم، سوف يبقي دليلا على حرص سلطنة عُمان على تعزيز الثقافة الوطنية ودعم نشر المعارف والعلوم بين أبنائها والمقيمين على أرضها، في ظل الاهتمام السامي من حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق- حفظه الله ورعاه- بالثقافة والآداب والفنون والعلوم، ذلك الاهتمام الكبير الذي عززه قرار إنشاء مجمع عمان الثقافي، والذي من المنتظر أن يضم ثلاثة صروح ثقافية رئيسية وهي؛ المسرح الوطني، والمكتبة الوطنية، وهيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، بالإضافة إلى ثماني مرافق إضافية.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: معرض مسقط الدولی للکتاب صناعة الکتاب عدد الکتب

إقرأ أيضاً:

معرض فيصل الـ13 للكتاب يشهد فعاليات ثقافية وفنية متميزة وإقبالًا جماهيريًا كبيرًا

تحت رعاية الدكتور أحمد فؤاد هنو، وزير الثقافة، يواصل معرض فيصل الثالث عشر للكتاب، الذي تنظمه الهيئة المصرية العامة للكتاب برئاسة الدكتور أحمد بهي الدين، فعالياته الثقافية والفنية، حيث شهد المعرض في ثالث أيامه العديد من العروض والأنشطة التي لاقت تفاعلًا واسعًا من الجمهور.

وتضمن اليوم الثالث من المعرض عروضًا فنية متميزة، كان من أبرزها عرض لفرقة الرابطة المصرية للإنشاد الديني، التابعة للهيئة العامة لقصور الثقافة، حيث قدمت الفرقة مجموعة من الأناشيد والابتهالات الدينية التي أضفت أجواءً روحانية على الفعاليات، ولاقت استحسان الحضور.

كما شاركت الهيئة العامة لقصور الثقافة، والمركز القومي لثقافة الطفل، ومكتبة مصر العامة في تقديم عدد من الورش التفاعلية والأنشطة الثقافية، التي استهدفت مختلف الفئات العمرية، خاصة الأطفال، وذلك في إطار جهود وزارة الثقافة لتشجيع الأجيال الجديدة على القراءة والإبداع.

وشهدت أروقة المعرض إقبالًا جماهيريًا كبيرًا من الزوار، الذين حرصوا على حضور الفعاليات الفنية والمشاركة في الأنشطة المختلفة، إلى جانب اقتناء الكتب من مختلف دور النشر المشاركة، والتي تعرض مجموعة واسعة من الإصدارات في شتى مجالات المعرفة.

ويستمر معرض فيصل للكتاب في تقديم برامجه الثقافية والفنية المتنوعة، سعيًا لتعزيز دور الكتاب في نشر المعرفة، وإتاحة الفرصة للجمهور للاستمتاع بتجربة ثقافية ثرية تجمع بين الفنون والآداب في أجواء رمضانية مميزة.

مقالات مشابهة

  • عادات وتقاليد الاحتفال برمضان.. ضمن فعاليات معرض فيصل الثالث عشر للكتاب
  • معرض فيصل الثالث عشر للكتاب يناقش فضل الدعاء في رمضان.. صور
  • بين الماضي والحاضر.. غادة عبد الرزق تروج لـ مسلسل شباب امرأة
  • معرض فيصل الـ13 للكتاب يشهد فعاليات ثقافية وفنية متميزة وإقبالًا جماهيريًا كبيرًا
  • معرض فيصل للكتاب يناقش فضل الدعاء في رمضان
  • أستاذ العمارة: مباني وسط البلد «لغة» تربط بين الماضي والحاضر
  • إقبال جماهيري على معرض فيصل الثالث عشر للكتاب
  • «عادات وتقاليد الاحتفال برمضان».. في معرض فيصل للكتاب غدا
  • اليوم العالمي للمرأة .. احتفالية فى معرض فيصل للكتاب
  • معرض فيصل للكتاب يحتفي باليوم العالمي للمرأة.. الليلة