٢٦ سبتمبر نت:
2025-04-24@16:14:00 GMT

الجغرافيا ... خطاب القوة في السلم والحرب !.

تاريخ النشر: 27th, February 2024 GMT

الجغرافيا ... خطاب القوة في السلم والحرب !.

فيما اكد المفكر الصيني سون تسي قبل نحو 2500سنة في كتابه ( فن الحرب ) ( إن أولئك الذين لا يعرفون أحوال الجبال والغابات والأودية الخطرة والسبخات والمستنقعات لا يمكنهم قيادة جيش ) , وهذا خير دليل على الدور الذي من الممكن أن تمثله الجغرافيا للحرب .

-الاستراتيجية الكبرى
لقد سيطرت الجغرافيا على الفكر العسكري للغرب طوال القرن الثامن عشر والتاسع عشر وحتي منتصف القرن العشرين , وكانت تشكل عامل مشترك للفكر الاستراتيجي العسكري للقوى الكبرى في العالم .


ولأجل أن تؤدي الجغرافيا دورها فقد قامت المدارس والكليات العسكرية الكبرى بتدريس الجغرافيا الحربية وأصولها وقواعدها وهذا الأمر يعكس أهمية العلوم الجغرافيا للأغراض العسكرية .
وخلال الفترة الأخيرة من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين, ظهرت الجغرافيا العسكرية تحت اسم ( الاستراتيجية الكبرى ) حيث تم تطبيقها على الأهداف الوطنية .
وبرزت أول حاجة رسمية ملحة للجغرافيا العسكرية في الولايات المتحدة الأمريكية خلال الحرب العالمية الأولى , واستخدمت في تعليم القادة والجنود المهارات الأساسية لتحليل التضاريس .
وعندما دخلت الولايات المتحدة الأمريكية الحرب العالمية الثانية , قدم الجغرافيون الأمريكيون من جديد دعما كبيرا لجهود الحرب .
ففي عام 1943م . كان هناك نحو 300 جغرافي يعملون في واشنطن في مكتب الخدمات الاستراتيجية ووزارة الحرب وشعبة الاستخبارات وفي قسم خرائط الجيش .
- أقوى الحلفاء روسيا
حتى يومنا هذا لا تزال تمثل قوة برية غير آمنة ومترامية الاطراف والتي كانت ضحية لغزوات منذ ما قبل تلك التي شنتها جحافل المغول في القرن الثالث عشر الميلادي والتي لا تمتلك من الحلفاء سوى الزمن وبُعد المسافة والطقس , كما تتوق إلى وصول أكثر إلى البحر .
وبسبب عدم وجود عوائق جغرافية خطيرة بين أوروبا ومنطقة الأورال فإن أوروبا الشرقية وعل الرغم من انهيار الحدود المصطنعة المتمثلة في جدار برلين , لا تزال تتعرض للتهديد من قبل روسيا كما كانت كذلك منذ قرون - وهذا ما لعبت عليه امريكا بتوسع حلف الناتو فيها - .
وايضا أن القلق على الحدود الألمانية كان يمثل مصدر إزعاج لفرنسا كما كان ذلك في زمن لويس الرابع عشر وحتي نهاية الحرب العالمية الثانية .
في الواقع ان الجغرافيا تمثل مقدمة لمسار الأحداث الإنسانية ذاتها وليس من قبيل المصادفة أن الحضارة الأوروبية لها جذور مهمة في جزيرة كريت وجزر كيكلادس اليونانية وبسبب وضعها كجزر محمية طوال قرون ضد ويلات الغزاة مما سمح لها بالازدهار .
فأكثر ما تمثله الجغرافيا من حقيقة محورية للتاريخ الاوروبي من كون ألمانيا قوة قارية وبريطانيا العظمي جزيرة .
ألمانيا تواجه كلا من الشرق والغرب في غياب سلاسل جبلية تحميها مما يصيبها بعديد من العلل من السياسة العسكرية إلى النزعة الناشئة إلى السلم من أجل أن تتكيف مع موقعها الخطير .
اما بريطانيا من الناحية الأخرى فلكونها مؤمنة ضمن حدودها فقد تمكنت من تطوير نظام ديمقراطي قبل جيرانها وإقامة علاقة خاصة عبر الأطلسي مع الولايات المتحدة .
ومن جهة أخرى عندما ننظر إلى سيناريوهات تقسيم البلدان في القرن العشرين مثل ألمانيا وفيتنام واليمن وكوريا يتضح أنه مهما طال التقسيم فإن قوى الوحدة الوطنية ستنتصر في نهاية المطاف بطريقة غير مخطط لها وأحيانا عميقة ومتسارعة الخطى .
لتسود قوى الثقافة والجغرافيا فالحدود التي يصنعها البشر والتي لا توافق مع منطقة من الحدود الطبيعية تكون غير حصينة .
-خطاب القوة
في عام 1942م وخلال الحرب العالمية الثانية كتب الاستاذ بجامعة ييل نيكولاس سبيكمان وهو منظر استراتيجي أمريكي - هولندي بارز من حقبة أوائل الحرب العالمية الثانية أن ( الجغرافيا لا تجادل .... و هي العامل الأكثر أهمية في السياسة الخارجية للدول , لأنها أكثر ديمومة , يأتي الوزراء ويذهبون , وحتى الطغاة يموتون , لكن السلاسل الجبلية تظل راسخة في مكانها .
إن جورج واشنطن الذي دافع عن ثلاثة عشرة ولاية بجيش غير نظامي , قد خلفة فرانكلين روزفلت الذي كانت تحت تصرفه موارد قارة بأسرها , لكن المحيط الأطلسي استمر في فصل أوروبا عن الولايات المتحدة , كما أن موانئ نهر سانت لورنس مازالت تغلق بسبب الجليد في فصل الشتاء) .
وعلى الرغم من احداث الحادي عشر من سبتمبر فلا يزال المحيط الأطلسي مهما وفي الواقع ان المحيط الأطلسي هو ما يعلن سياسة خارجية وعسكرية مختلفة للولايات المتحدة الامريكية .
ولماذا اكتسبت الصين أهمية أكبر من البرازيل ؟ بسبب الموقع الجغرافي فحتى لو افترضنا أنها تحظى بالمستوى نفسة من النمو الاقتصادي مثل الصين وأن سكانها متساوون في العدد , فإن البرازيل لا تمتلك خطوط الاتصال البحرية الرئيسية التي تربط القارات والمحيطات مثلما تفعل الصين التي تطل على غرب المحيط الهادي وتمتلك عمقا بريا يصل إلى آسيا الوسطى الغنية بالنفط والغاز الطبيعي انا البرازيل فتمتلك افضلية نسبية أقل فهي نقع معزولة في امريكا الجنوبية منبوذة جغرافيا غن مساحات اليابسة الأخرى .
ولماذا ظلت افريقيا بمثل هذا الفقر على الرغم من ان افريقيا هي ثاني اكبر قارة من حيث الحجم حيث تبلغ مساحتها خمسة اضعاف مساحة اوروبا , فإن طول سواحلها الواقعة جنوبي الصحراء الكبرى يزيد قليلا على ربع طول السواحل الاوروبية إلى ذلك يفتقر هذا الساحل إلى وجود عديد من الموانئ الطبيعية الجيدة باستثناء موانئ شرق أفريقيا التي تشهد حركة تجارية قوية مع بلدان الجزيرة العربية والهند .
-هيمنة امريكا
فيما وضح المؤرخ جون كيغان ( إن أمريكا وبريطانيا لا يمكنهما امتلاك زمام الريادة في مجال الحريات سوى لأن البحر حماهما ) , إن النزعة العسكرية والبراغماتية لأوروبا القارية خلال منتصف القرن العشرين والتي طالما شعر الأمريكان بتفوقهم عليها كانت نتيجة للجغرافيا . فقد ظلت الدول والإمبراطوريات المتنافسة ملاصقة بعضها لبعض ضمن قارة مزدحمة .
ولم يكن في وسع الدول الأوروبية مطلقا أن تنسحب إلى ما وراء البحار في حالة وقوع خطأ في حساباتها العسكرية .

وبالتالي فلم يكن من الممكن أن ترتكز سياستها الخارجية على الأخلاقيات الأممية , كما أنها ظلت مسلحة بشكل جيد في مواجهة بعضها البعض حتى سقطت فريسة للهيمنة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية .

فالمحيطين منحا أمريكا وصولا مباشرا إلى اثنين من الشرايين الرئيسية للسياسة والتجارة في العالم : أوروبا عبر المحيط الأطلسي وشرق آسيا عبر المحيط الهادي .

ومع ذلك فالمحيطان نفسيهما عن طريق عزل امريكا عن القارات الأخرى بآلاف الأميال خاصة في الصراعات والحروب العالمية . وحينما بدأ غزو العراق يظهر باعتبار قضية في تسعينيات القرن العشرين عندما كان ينُظر إلى الجيش الأمريكي باعتباره لا يُقهر في مقابل قوى التاريخ والجغرافيا -ضحية للجغرافيا كتب عالم جامعة جونز هوبكنز (ياكوب غريجل ) أن الجغرافيا قد ( نُسيت لكنها لم تُهزم ).

اما كولن غراي الذي عمل لفترة طويلة كمستشار للحكومتين البريطانية والأمريكية عن الاستراتيجية العسكرية فكتب قائلا : ( إن إلغاء التكنولوجيا للجغرافيا يتضمن ما يكفي تماما لأن يُطلق عليه اسم مغالطة معقولة , ولا يقتصر الأمر على ذلك فحسب , فكما رأينا في العراق وأفغانستان يتطلب ممارسة النفوذ أو السيطرة المستمرة .... فالوجود المادي لأفراد مسلحين في المنطقة ) , بمعني أن أي شخص يعتقد حقا أن الجغرافيا قد تضاءلت أهميتها بصورة محورية هو شديد الجهل بالخدمات اللوجستية العسكرية .

وفي تحليل مستبصر على نحو لافت للنظر , والذي نشر في عام 1999م كتب المؤرخ العسكري الامريكي ( وليامسون موراي) إن القرن الجديد الذي يوشك على البدء من شأنه أن يجعل الولايات المتحدة تواجه مرة أخرى ( الواقع الجغرافي القاسي) المفروض من قبل المحيطين , مما يقيد ويزيد على نحو مذهل من تكلفة نشر قواتنا البرية في أماكن بعيدة .

وفي حين يمكن إنهاء بعض الحروب ومهام الإنقاذ بسرعة عن طريق الإغارة المحمولة جوا , فحتى في تلك العمليات تتسم التضاريس بأهميتها . تُحدد التضاريس وتيرة وطريقة القتال .

ونشبت حرب الفوكلاند في العام 1982م ببطء بسبب البيئة البحرية , في حين عملت الصحارى المسطحة للكويت والعراق في حرب الخليج في العام 1991م على تضخم تأثير القوة الجوية , على الرغم من أن السيطرة على مساحة شاسعة وعالية الكثافة السكانية في العراق إبان حرب الخليج الثانية أظهرت حدود القوة الجوية , وبالتالي جعلت القوات الأمريكية ضحية للجغرافيا.

-حسم المعارك

يمكن للطائرات أن تقوم بالقصف , لكنها لا تستطيع نقل البضائع بكميات كبيرة ولا ممارسة السيطرة على الأرض) . وفي كثير من الحالات تتطلب الطائرات وجود قواعد قريبة بشكل معقول . وحتي في عصر الصواريخ البالستية العابرة للقارات والقنابل النووية , لا تزال الجغرافيا مهمة .

كما أشار لذلك (هانز مورغنثاو) مدرس في قسم العلوم السياسية بجامعة شيكاغو ليس في وسع الدول الصغيرة والمتوسطة الحجم مثل إسرائيل وبريطانيا وفرنسا وإيران أن تتحمل نفس المستوى من العقاب الذي تتحمله الدول القارية الحجم مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين , وبالتالي فهي تفتقر إلى المصداقية المطلوبة في تهديداتها النووية .

وهذا يعني أنه يتعين على دول صغيرة تقع وسط خصوم لها , مثل إسرائيل أن تكون سلبية بصفة خاصة , أو عدوانية على وجه الخصوص , من أجل أن تظل على قيد الحياة . وذلك في المقام الأول هو مسألة تتعلق بالجغرافيا ) .

فيما اكد ( كارل هاوتز هوفر 1869- 1946م) على ضرورة أن تبدأ الدول الصغيرة المساحة بشن الحرب الهجومية لا الدفاعية , وحذرا من فتح جبهتي قتال والاكتفاء على جبهة واحدة وذلك لمنع تشتيت الجهد العسكري , ومحاصرة المدن عوضا عن الهجوم عليها .

ورغم أهمية التدريب الجيد والقيادة الناجحة وتفوق الأسلحة والمذهب العسكري في كسب المعارك , إلا أن الجغرافيا لها تأثير كبير على النتيجة الحاسمة للحرب .

المصدر: ٢٦ سبتمبر نت

كلمات دلالية: الحرب العالمیة الثانیة الولایات المتحدة المحیط الأطلسی القرن العشرین الرغم من

إقرأ أيضاً:

مخاطر الحرب الاقتصادية العالمية الثالثة

مع شرارة الحرب تتكثف الأدوات، وتتغير الجبهات، ويصبح الفيروس جنرالا، والميناء خندقا، والميدان سوقا للأموال، والدولار مدفعا، والعملة الرقمية بندقية، والتكنولوجيا مؤسسات عسكرية بكافة تشكيلتها، والعالم مجلس حرب، وفلسطين كاملة وغزة خاصة تسطر ملحمة صمود وصعود، تصبح الحرب مختلفة عن سابقتها، ليست كما عهدناها، فهي حرب لا تُخاض بالبارود، بل بالبيانات والمعلومات وسلاسل الإمداد، بالأسواق والنقد، بالغذاء والتقنية، فهي حرب لا عنفية في شكلها، لكن شرسة في أثرها.

وما نعيشه اليوم هو لحظة مفصلية في إعادة هندسة العالم.. بمخاطر لا تهدد ميزانيات الدول فحسب، بل تهدد وجودها السيادي ذاته، وربما وجهودها الجغرافي..

استهلال استراتيجي: حين صار الفيروس جنرالا.. والعالم مجلس حرب

البداية بتوقيت الحرب، نهاية 2019، حيث لم يكن فيروس كورونا مجرد وباء صحي، بل إعلانا صامتا عن تغيير قواعد الاشتباك الدولي، فتوقّف مصنع واحد في الصين كان كافيا لإحداث شلل في سلاسل الإمداد العالمية، وما تبعه من انخفاض لسعر النفط بنسبة 65 في المئة خلال ثلاثة أشهر، وتعطيل كامل لسلاسل الإمداد والنقل البحري والبري والجوي..

النقل البحري: اختناق الشرايين العالمية

• تعطيل الموانئ الكبرى: أُغلقت موانئ رئيسة مثل ميناء شنغهاي، ولوس أنجلوس، وسنغافورة لفترات متكررة بسبب تفشي الفيروس بين العمال، مما أدى إلى تراكم السفن وتأخر الحاويات، ثم تعطل ما يزيد عن 48 في المئة من حركة التجارة البحرية.

• تضاعف أسعار الشحن: ارتفع سعر شحن الحاوية من الصين إلى أوروبا من حوالي 1,500 دولار إلى أكثر من 12,000 دولار في ذروة الأزمة (زيادة تفوق 700 في المئة).

• نقص الحاويات: اختلت التوازنات بين الصادرات والواردات، مما أدى إلى نقص حاد في الحاويات الفارغة في آسيا، وركودها في أوروبا وأمريكا.

• زمن التسليم: تضاعف وقت الوصول إلى بعض الموانئ من 30 إلى 60 يوما في المتوسط.

النتيجة: تحوّل النقل البحري من شبكة فعالة منخفضة التكلفة إلى عنق زجاجة يكبّل الاقتصاد العالمي.

النقل البري: تجزئة سلاسل الإمداد وخنق الحدود

• إغلاق المعابر والحدود البرية بين الدول، خاصة في أوروبا وآسيا، أدى إلى تكدّس آلاف الشاحنات عند نقاط التفتيش.

• نقص في السائقين: بسبب الإصابات والإجراءات الصحية الصارمة، انخفض عدد سائقي الشاحنات بنسبة تقارب 30 في المئة في بعض الدول.

• ارتفاع التكاليف اللوجستية: نتيجة طول أوقات الرحلة، وزيادة الإنفاق على الوقود والتأمين، وأسعار تأجير الشاحنات.

• تباطؤ الإمدادات الداخلية: أُغلقت بعض المناطق داخل الدول، مما أعاق نقل السلع من وإلى المصانع والمزارع.

النتيجة: تفككت سلاسل الإمداد الداخلية، وتراجعت كفاءة النقل البري، خاصة في الدول النامية.

النقل الجوي: توقف مفاجئ ثم اضطراب لاحقة

• توقف شبه كلي للرحلات: أكثر من 90 في المئة من الرحلات الجوية التجارية أُلغيت خلال الربع الثاني من 2020.

• نقص طاقة الشحن الجوي: أكثر من 50 في المئة من الشحن الجوي يعتمد على الطائرات التجارية، ومع توقفها اختفى جزء كبير من طاقة الشحن.

• ارتفاع أسعار الشحن الجوي: تضاعفت الأسعار 3 إلى 5 مرات لنقل نفس الكمية بسبب ندرة الرحلات.

• أزمة في نقل المستلزمات الطبية واللقاحات: تأثرت بشدة عمليات نقل اللقاحات والأدوية التي تحتاج إلى ظروف تبريد دقيقة وسرعة في التوصيل.

النتيجة: تعطّل النقل الجوي عرقل استيراد التكنولوجيا الفائقة والسلع الحساسة، وعمّق أزمة سلاسل الإمداد الدقيقة.

استراتيجيا: كانت لحظات انكشاف عالمي.. فكورونا لم تكن مجرد جائحة صحية، بل اختبارا لمرونة الاقتصاد العالمي وانطلاقة حرب دون إعلان أو بيان عسكري: في لحظة واحدة، تعطّلت أكثر من 65 في المئة من سلاسل الإمداد الدولية، وفُقدت القدرة على التنبؤ بالأسواق، وتحوّلت "العولمة السلسة" إلى "اختناق استراتيجي".

ومن هنا، بدأ التحول نحو إعادة توطين الإنتاج، وتقريب سلاسل الإمداد، وظهور مفهوم سيادة النقل والتوريد كعنصر أمن قومي، حيث انهارت المنظومات الصحية والاقتصادية، في أقل من 90 يوما (ولا علاقة بين هذه المدة والمهلة التي منحتها الولايات المتحدة للعالم بتأجيل تطبيق الزيادة في التعرفة الجمركية 90 يوما)، ثم تجاوزت خسائر الناتج العالمي 12 تريليون دولار، وظهرت أسئلة لم تكن مطروحة سابقا: هل نملك غذاءنا؟ هل نملك دواءنا؟ هل نملك قرارنا النقدي؟ وهل يمكن لرقم على شاشة أن يُسقط اقتصادا؟ أو يسقط دولة، كما أسقط حكومة؟.. لقد كان ذلك استطلاع وانطلاق حرب تكنوبيولوجية صامتة.. بلا إعلان رسمي، ودون زحف أو إنزال أو احتلال ميداني عسكري.

استدلال.. مخاطر الحرب الاقتصادية العالمية الثالثة..

تمثل هذه الحرب انفجارا في طبيعة المخاطر وامتدادها، ويمكن تصنيفها إلى خمسة مستويات مركبة:

1- مخاطر الغذاء والسيادة الزراعية

• أكثر من 70 دولة تعتمد على واردات القمح لتأمين غذاءها اليومي.

• تكلفة استيراد الغذاء عالميا ارتفعت بنسبة 41 في المئة خلال 24 شهرا فقط.

• الدول غير المنتجة للأغذية تواجه اليوم خطر نفاد المخزون الاستراتيجي خلال أقل من 90 يوما في المتوسط.

2- المخاطر النقدية وأسواق العملات

• فقدت عشرات العملات المحلية أكثر من 60 في المئة من قيمتها خلال ثلاث سنوات، أبرزها في الاقتصادات الهشة.

• بلغت نسب الفائدة العالمية ذروتها منذ 22 عاما، مما أدّى إلى خروج جماعي لرؤوس الأموال من الأسواق الناشئة.

• الديون السيادية تجاوزت 100 في المئة من الناتج المحلي في أكثر من 45 دولة، ما يهدد بانفجار أزمات إفلاس متسلسلة.

3- مخاطر سلاسل الإمداد والنقل الدولي

• 12 في المئة من التجارة البحرية تمر عبر قناة السويس، ومع ذلك تعطّلت في حادث واحد لمدة 6 أيام، فخسرت السوق 10 مليارات دولار يوميا.

• تكلفة شحن الحاوية الواحدة من آسيا إلى أوروبا تضاعفت أربع مرات خلال عامين، وتستمر في التصاعد.

•  37 في المئة من الشركات الصناعية الكبرى أعلنت عن تعطّل جزئي أو كلي في خطوط إنتاجها بسبب نقص المكونات.

4- المخاطر الرقمية والسيبرانية

• سجلت شبكات البنوك والبنية التحتية أكثر من 1.5 مليون محاولة اختراق خلال 2023 وحدها.

• ارتفعت تكلفة تأمين البيانات بنسبة 220 في المئة خلال ثلاث سنوات فقط، مع ازدياد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في عمليات التشغيل.

•  68 في المئة من الاقتصادات لا تملك بنية رقمية وطنية مستقلة لإدارة بياناتها الحيوية.

5- مخاطر العقار والموارد الاستراتيجية

• ارتفعت أسعار الأراضي الزراعية عالميا بنسبة 35 في المئة خلال سنتين، كمؤشر على سباق الدول نحو سيادة الغذاء.

• أكثر من 22 دولة غيّرت قوانين تملك الأجانب للأراضي خلال العامين الماضيين.

• أصبحت المياه، والقمح، والليثيوم، والمعادن النادرة، أدوات تفاوض سياسي لا تقل عن النفط والغاز.

الحالة المصرية: نموذج حي في مرمى الحرب دون غطاء اقتصادي

في قلب هذه الحرب الاقتصادية تظهر مصر كواحدة من الدول الأكثر عرضة لانعكاسات الخلل البنيوي في النظام العالمي الاقتصادي المرتقب، وإن ظهرت في عضوية البريكس إلا أنها:

• الغذاء: أكثر من 62 في المئة من احتياجات المصريين من الغذاء يتم استيرادها من الخارج.

• الدواء: تعتمد مصر على استيراد ما يزيد عن 80 في المئة من المواد الخام الدوائية.

• النقد: الجنيه المصري فقد أكثر من 70 في المئة من قيمته خلال ثلاث سنوات فقط.

• الديون: تجاوز الدين الخارجي 165 مليار دولار، بما يفوق 95 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

• التضخم: بلغ ذروته في بعض الأشهر بنسبة قاربت 40 في المئة، ما أنهك القوة الشرائية للمواطن.

• العجز التجاري: يتجاوز 45 مليار دولار سنويا، ما يضع الدولة تحت ضغط استيرادي مزمن.

بدأ نموذج الانهيار المصري مع السقوط في الانقلاب العسكري، وما صاحبه من تحويل الدولة من منتجة إلى مستهلكة، ومن قرارات وطنية إلى إملاءات خارجية، ومن سيادة القرار إلى التبعية الاقتصادية، تارة بالاقتراض وأخرى بالودائع والاستثمارات دون دراسات، وأخرى ببيع الأرض وتبديد الثروات، وما سبق كل ذلك من اعتقال رجال أعمال واقتصاد، وخبراء وعلماء ومفكرين، واقتصاديين محترفين ومحللين، ورجال دولة من اختيار شعب وثورة.

استشراف المستقبل الاقتصادي للحرب.. من القرار في الـ90 يوما القادمة، إلى تصاعد حرب في الـ900 يوما المقبلة، والتي ستُعيد صياغة العالم اقتصاديا وسياسيا.. ستكون الأكثر حسما في التاريخ الاقتصادي الحديث، وأراها ضمن منظور استراتيجي تحمل سيناريوهين رئيسيين:

السيناريو الأول: بناء دولة منتجة ومكتفية ذاتيا

• تنويع مصادر الغذاء المحلي.

• توطين الصناعات الحيوية.

• إعادة هيكلة القرار النقدي تحت سيادة البنك المركزي.

• تحرير الإرادة السياسية والاقتصادية من التبعية.

السيناريو الثاني: الغرق في الانكشاف والتبعية

• اضطراب الاستيراد والغذاء.

• فقدان السيطرة على التضخم والدين.

• انهيار الثقة في العملة المحلية.

• تحوّل الدولة إلى ساحة لتجارب الخارج وقراراته.

الختام: من لا يُدير مخاطره.. تديره مخاطره ويُعاد تشكيله من الخارج

إنها معركة ساسة على سيادة، تشتعل بسلاسل الإمداد، ومخازن الغذاء، وشبكات البيانات، ومراكز القرار، وتستعر في أسواق الطاقة والنفط والغاز، وتزود بالتكنولوجيا، وتمول بأسواق المال والعملات، وفيها من لا يملك غذاءه ودواءه وسلاحه وقراره، لن يكون طرفا فاعلا، بل هدفا خاضعا.

في كلمات.. ومن لا يُخطط للـ900 يوم القادمة، سيتحول إلى ضحية في معركة لا ترحم، يرسم فيها خرائط العالم من يصنع التاريخ الاقتصادي الحديث، ويقاوم التبعية والتقييد، كونها لحظات فاصلة بين دول تقود ودول تُقاد، لا بجيش مدجج بأسلحة لدولة المنشأ القدرة على توجيهها وصيانتها وتقادمها وتجديدها، بل باستراتيجيات وسيناريوهات تكتواقتصادية، تصنع الفارق بين أمم تُخطط.. وأخرى تُستنزف، ومن لا يبدأ الآن.. لن يكون حاضرا حين يُكتب التاريخ.. فالأيام دول!

مقالات مشابهة

  • فاجنكنيشت: يجب دعوة الروس للمشاركة في إحياء الذكرى الـ80 لنهاية الحرب العالمية الثانية
  • محاضرة «الجغرافيا الثقافية للإسلام في روسيا» بمكتبة الإسكندرية
  • الرئاسي: اللافي بحث مع “زوبي والحداد” آخر المستجدات على الساحة العسكرية
  • أمريكا والحرب البرية على اليمن
  • علمتني الحرب وهي لا تدري !!..
  • ولاية ترامب الثانية.. 100 يوم من الصدمة
  • رسائل قوية من السيسي لخريجي الدورة الثانية لتأهيل أئمة الأوقاف من الأكاديمية العسكرية
  • السيسي يشارك في حفل تخرج الدورة الثانية لتأهيل أئمة الأوقاف بالأكاديمية العسكرية المصرية
  • محللون إسرائيليون: نتنياهو اعترف بالفشل وأكد استعداده للتضحية بالأسرى
  • مخاطر الحرب الاقتصادية العالمية الثالثة