فى إحدى الحفلات جلست امرأة بجوار الكاتب الشهير «برنارد شو»، فهمس فى أذنها: هل تقبلين قضاء ليلة معى مقابل مليون جنيه؟.. ابتسمت وقالت: طبعًا بكل سرور.
عاد وسألها: هل من الممكن أن نُخفِّض المبلغ إلى عشرة جنيهات؟.. غضبت المرأة وصرخت فى وجهه: من تظننى أكون؟!.. قال: سيدتى نحن نعرف من تكونين.. نحن فقط اختلفنا على الأجر.
كم منا طرح هذا السؤال على نفسه: من أنا؟.. ومن أكون؟
كثيرون يخشون سقوط الأقنعة البرَّاقة التى تغطى وجوههم، ويتخفون وراءها..
الازدواجية العربية داء عضال احتار الأطباء فى معالجته، نبطن شيئًا ونظهر شيئًا آخر.. نظهر ورعًا وتقوى، ونخفى عهرًا وفجورًا.. إننى لا أصدر أحكامًا عامة ومطلقة، من المؤكد أن هناك استثناءات يتصف أصحابها بالصدق والنزاهة.. غير أن خطورة الحديث عن وجود استثناءات تكمن فى أن مثل هذا الحديث يُفْسِّد الغرض من كتابة هذا المقال، إذ سوف يسارع كل من يقرأ هذا المقال بإدراج نفسه ضمن هذه الفئة المستثناة، وبالتالى لن يكلف نفسه عناء البحث عن حقيقة ذاته: هل هو حقًا صادق وأمين وشريف؟ أم أنه ينسب هذه الفضائل إلى نفسه ادعاءً؛ معتقدًا إنه من أهل التقوى والورع فى الظاهر والباطن؟
يحلو للمرء دومًا توجيه سهام النقد إلى غيره من البشر، مستثنيًا ذاته من الملامة، ينتبه إلى عيوب الآخرين غافلًا عن أخطائه وخطاياه، وذلك ما أشارت إليه إحدى آيات الكتاب المقدس (العهد الجديد: إنجيل لوقا الإصحاح السادس ٤٢، وإنجيل متى الإصحاح السابع ٦)؛ جاء فى تلك الآية: «لِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِى فِى عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِى فِى عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟». والقذى: هو الوسخ الذى يوجد فى ركن العين، والذى يميل لونه إلى الاصفرار أو الاخضرار، والمقصود به الأشياء الضئيلة التى لا تكاد تُدْرَك، يراها الإنسان ويفتح عينيه محملقًا فيها؛ ما دامت فى عين أخيه. ويغفل عن الخشبة المغروزة فى عينه هو!! ترسم الآية صورة تنطوى على قدر كبير من المبالغة؛ لكنها مبالغة تستهدف إيضاح كيف أن المرء لا يفطن إلى عيوبه، وإن فطن إليها فإنه يحرص على تجاهلها، ويُشيح بوجهه عنها؛ كأنها غير موجودة. لا يشغل باله بالبحث عن عيوبه وفحصها ومحاولة إصلاحها، فى حين يدقق فى البحث وفحص سلوك الغير، ويتحرى عن أخطاء الآخرين وخطاياهم بغية إدراك عيوبهم مهما صغر قدرها!!
لا يكف المواطن العربي، ليل نهار، عن توجيه سهام النقد لكافة الأوضاع السائدة فى بلاده، وخلال هذا النقد يستثنى نفسه من اللوم، يُلْقِى مسئولية كل قصور على كاهل غيره، حتى بدا المشهد فى نهاية الأمر وكأن قوى خفية هى التى ارتكبت كل الأخطاء والخطايا، وتسببت فى حالة التردى التى نحن عليها.
إذا تحدثنا عن انحطاط القيم الأخلاقية، فإن الواحد منا يأسف على تفشى النفاق والكذب وعدم الوفاء بالعهد وغيرها من رذائل. إذا نظرت إلى حماس هذا الشخص أو ذاك وهو يدافع عن القيم والمثل، ويحزن لغيابها؛ حتى تنتابك الحيرة، وتجد نفسك مضطرًا لطرح السؤال الآتي: إذا كان كل واحد منا يتحدث بوصفه مصلحًا، فمن يا ترى المسئول الحقيقى عن هذه الحالة من التردى التى تعيشها مجتمعاتنا؟
إن الإنسان الفرد لا يرى نفسه بوضوح. فأنا الآن لا أرى نفسى وأنا منهمك الآن فى كتابة هذه المقالة، وأنت الآن لا ترى نفسك وأنت تقرأ هذه المقالة.. لن تتمكن من رؤية نفسك إلا إذا كنت جالسًا أمام مرآة.. غيرك يراك، وأنت ترى غيرك.. ننتبه إلى الغير وما يرتكبه من أفعال، ونغفل عن رؤية أنفسنا.. غياب الوعى الذاتى وتغييبه مسئول عن كثير من المظاهر السلبية السائدة فى مجتمعاتنا، ترى بوضوح غيرك متلبسًا فى حالة نفاق فج ومدح سقيم لرئيسه فى العمل، ولا تنتبه إلى ما ترتكبه أنت من تملق مخزٍ لرئيسك فى العمل..
إن حالة التردى التى تعانى منها مجتمعاتنا العربية تتمثل فى السلبية وعدم الجسارة على توجيه أصبع الاتهام لكل من يرتكب خطأ أو جرمًا فى حق الناس والمجتمع. الواحد منا يؤثر السلامة مادامت مصلحته؛ أو على الأقل الحد الأدنى منها قد تحقق، فلا داعى للمجازفة والمخاطرة بأمنه واستقراره. عليه أن يبلع لسانه فى حلقه ويلوذ بالصمت فى مواجهة حالات الظلم.. وما أكثرها!!
هل سألت نفسك: من أنا.. ومن أكون؟.. نحن نعرف جيدًا من تكون.. نحن فقط نختلف حول المصلحة التى تريد تحقيقها!!
د. حسين علي: أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: المواطن العربي د حسين علي
إقرأ أيضاً:
لا عدالة مطلقة
يخطئ كثير من الناس عندما يعتقدون أنه يمكن تحقيق عدالة مطلقة فـي أمر ما، حتى لو تحقق لذلك الأمر الكثير من معززات العدالة، كالقوانين والنظم الإدارية، والقيم الضابطة الأخرى، التي تحكم العلاقة بين طرفي المعادلة، ولذلك تأتي مجموعة من القيم التي يؤمن الناس بأهميتها فـي تسيير حياتهم اليومية، لتوجد نوعا من التوافق بين الأطراف - التوفـيق والمصالحة - لليقين الضمني أن لا عدالة مطلقة بين البشر، ففـي تطبيق الأحكام أيا كان نوعها (شرعي/ قانوني) لا بد أن يختزن النفوس شيئا من عدم الرضا، فالهاجس يذهب إلى أن هناك مطلبا نفسيا، وهو أن لهذه النفس حقًا لم يكتمل استرداده، مهما بذلت العدالة الكثير من التمحيص، والتأكد، وتفنيد الاستدلالات القانونية والشرعية، فهذه فطرة متأصلة فـي النفس فـ«رضا الناس غاية لا تدرك» ومن جوانب هذه الفطرة، أنها لا تقر بخطأ مرتكب، حتى ولو كان من غير قصد، ولا تقر بتقصير ما، وأثر ذلك على عدم الحصول على الحق الكامل، فـي تقدير كل نفس، ولذلك كنا نعيش هذه الانفعالات النفسية عندنا وعند غيرنا لما كنا فـي الوظيفة، وخاصة فـي مناسبة التقييم السنوي للموظف، والمكافأة المترتبة على ذلك بعد الحصول على النتائج، فالكل يرى أنه الأحق من الآخر، والكل يرى أنه أدى ما عليه من دور، والكل يرى أن مستويات التقييم التي أجريت غير منصفة، ولذلك كان الكل يتذمر، حتى ولو أعطي الموظف حرية تقييم نفسه بنفسه، فسيصل فـي نهاية الأمر أنه لم ينصف نفسه، لأنه أوقع نفسه بين طرفـين، أحدهما: صعوبة تقييم نفسه، والثاني: أن مسؤوله الأعلى حمله مسؤولية نفسه، حتى ينفذ المسؤول من مسؤوليته تجاه هذا الموظف أو ذاك، وسيظل فـي كلا الأمرين عتب ضمني، وهو عدم الرضا، وإن لم يصرح به الموظف. وفـي محيط الأسرة الواحدة تكون المعركة محتدمة بين مختلف الأطراف (الأب، الأم، مجموع الأخوة والأخوات) حيث يعيش الوالدان امتحانا قاسيا، طوال اليوم، فجدلية العلاقة بين الأخوة والأخوات لن تنتهي، وكل فرد يصدر اتهامه إلى أحد قطبي الأسرة (الأب/ الأم) بأنه فضل فلان على فلانة، أو العكس، أو ظلم فلان وأنصف فلان، أو حابى فلانة، وتجاوز فلان/ فلانة، وتظل المعركة حامية الوطيس إلى أن يصل فلان وفلانة سنا مقدرا من النضج، يدركان من خلاله، أن مجموعة الاتهامات التي يصدرانها بصورة يومية إلى الأم والأب، فـي زمن ولَّى، فـيها الكثير من التجني، والتسرع، وعدم إدراك الكثير من الاعتبارات التي يأخذ بهما هذان المغلوب على أمرهما، وأقول المغلوب على أمرهما لمواقفهما المرتجلة طوال اليوم، لكي يقنعان هذا/هذه، ويلاطفان هذا/ هذه، فـي صورة محتدمة لا تتوقف إلا عندما تغلق مصابيح الإنارة، ويأوي كل فـي فراشة، حالما بيوم قادم، ربما، يكون أقل ضراوة واحتدام مما سبقه. قد تكون هذه الصورة المحتدمة من التفاعلات النفسية بين مختلف الأطراف، أقل حدة فـي أحضان المجتمع، وأكثر هدوءا، ليس لقلة المتشاكسين فـيها، إطلاقا، ولكن، لاتساع دوائر العلاقات، بين مختلف الأطراف، ولعدم قدرة الحاضنة المركزية على تقصي مثالب مختلف الأطراف، لأن المجتمع عبارة عن دوائر محدودة بعدد أفرادها، وفوق ذلك أنها مغلقة، هي تتفاعل داخل محيطها وبقوة، ولكن خروج تفاعلها على اتساع رقعة ميدان المجتمع تكون فـي حالات نادرة، واستثنائية، وهنا تتصدى لها مؤسسات معنية: مراكز شرطة، ادعاء عام، محاكم، وقبل ذلك لجان التوفـيق والمصالحة، ومع وجود هذه المؤسسات التي قد تمتص من حالات التصادم بين أفراد المجتمع، إلا أن المحصلة النهائية، لا تزال الأنفس تشعر بأنها لم تستوف حقها الذي تأمله. |