البوابة نيوز:
2025-04-25@10:12:47 GMT

وجوه.. وأقنعة

تاريخ النشر: 27th, February 2024 GMT

فى إحدى الحفلات جلست امرأة بجوار الكاتب الشهير «برنارد شو»، فهمس فى أذنها: هل تقبلين قضاء ليلة معى مقابل مليون جنيه؟.. ابتسمت وقالت: طبعًا بكل سرور. 
عاد وسألها: هل من الممكن أن نُخفِّض المبلغ إلى عشرة جنيهات؟.. غضبت المرأة وصرخت فى وجهه: من تظننى أكون؟!.. قال: سيدتى نحن نعرف من تكونين.. نحن فقط اختلفنا على الأجر.

 
كم منا طرح هذا السؤال على نفسه: من أنا؟.. ومن أكون؟ 
كثيرون يخشون سقوط الأقنعة البرَّاقة التى تغطى وجوههم، ويتخفون وراءها.. 
الازدواجية العربية داء عضال احتار الأطباء فى معالجته، نبطن شيئًا ونظهر شيئًا آخر.. نظهر ورعًا وتقوى، ونخفى عهرًا وفجورًا.. إننى لا أصدر أحكامًا عامة ومطلقة، من المؤكد أن هناك استثناءات يتصف أصحابها بالصدق والنزاهة.. غير أن خطورة الحديث عن وجود استثناءات تكمن فى أن مثل هذا الحديث يُفْسِّد الغرض من كتابة هذا المقال، إذ سوف يسارع كل من يقرأ هذا المقال بإدراج نفسه ضمن هذه الفئة المستثناة، وبالتالى لن يكلف نفسه عناء البحث عن حقيقة ذاته: هل هو حقًا صادق وأمين وشريف؟ أم أنه ينسب هذه الفضائل إلى نفسه ادعاءً؛ معتقدًا إنه من أهل التقوى والورع فى الظاهر والباطن؟ 
يحلو للمرء دومًا توجيه سهام النقد إلى غيره من البشر، مستثنيًا ذاته من الملامة، ينتبه إلى عيوب الآخرين غافلًا عن أخطائه وخطاياه، وذلك ما أشارت إليه إحدى آيات الكتاب المقدس (العهد الجديد: إنجيل لوقا الإصحاح السادس ٤٢، وإنجيل متى الإصحاح السابع ٦)؛ جاء فى تلك الآية: «لِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِى فِى عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِى فِى عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟». والقذى: هو الوسخ الذى يوجد فى ركن العين، والذى يميل لونه إلى الاصفرار أو الاخضرار، والمقصود به الأشياء الضئيلة التى لا تكاد تُدْرَك، يراها الإنسان ويفتح عينيه محملقًا فيها؛ ما دامت فى عين أخيه. ويغفل عن الخشبة المغروزة فى عينه هو!! ترسم الآية صورة تنطوى على قدر كبير من المبالغة؛ لكنها مبالغة تستهدف إيضاح كيف أن المرء لا يفطن إلى عيوبه، وإن فطن إليها فإنه يحرص على تجاهلها، ويُشيح بوجهه عنها؛ كأنها غير موجودة. لا يشغل باله بالبحث عن عيوبه وفحصها ومحاولة إصلاحها، فى حين يدقق فى البحث وفحص سلوك الغير، ويتحرى عن أخطاء الآخرين وخطاياهم بغية إدراك عيوبهم مهما صغر قدرها!! 
لا يكف المواطن العربي، ليل نهار، عن توجيه سهام النقد لكافة الأوضاع السائدة فى بلاده، وخلال هذا النقد يستثنى نفسه من اللوم، يُلْقِى مسئولية كل قصور على كاهل غيره، حتى بدا المشهد فى نهاية الأمر وكأن قوى خفية هى التى ارتكبت كل الأخطاء والخطايا، وتسببت فى حالة التردى التى نحن عليها. 
إذا تحدثنا عن انحطاط القيم الأخلاقية، فإن الواحد منا يأسف على تفشى النفاق والكذب وعدم الوفاء بالعهد وغيرها من رذائل. إذا نظرت إلى حماس هذا الشخص أو ذاك وهو يدافع عن القيم والمثل، ويحزن لغيابها؛ حتى تنتابك الحيرة، وتجد نفسك مضطرًا لطرح السؤال الآتي: إذا كان كل واحد منا يتحدث بوصفه مصلحًا، فمن يا ترى المسئول الحقيقى عن هذه الحالة من التردى التى تعيشها مجتمعاتنا؟ 
إن الإنسان الفرد لا يرى نفسه بوضوح. فأنا الآن لا أرى نفسى وأنا منهمك الآن فى كتابة هذه المقالة، وأنت الآن لا ترى نفسك وأنت تقرأ هذه المقالة.. لن تتمكن من رؤية نفسك إلا إذا كنت جالسًا أمام مرآة.. غيرك يراك، وأنت ترى غيرك.. ننتبه إلى الغير وما يرتكبه من أفعال، ونغفل عن رؤية أنفسنا.. غياب الوعى الذاتى وتغييبه مسئول عن كثير من المظاهر السلبية السائدة فى مجتمعاتنا، ترى بوضوح غيرك متلبسًا فى حالة نفاق فج ومدح سقيم لرئيسه فى العمل، ولا تنتبه إلى ما ترتكبه أنت من تملق مخزٍ لرئيسك فى العمل.. 
إن حالة التردى التى تعانى منها مجتمعاتنا العربية تتمثل فى السلبية وعدم الجسارة على توجيه أصبع الاتهام لكل من يرتكب خطأ أو جرمًا فى حق الناس والمجتمع. الواحد منا يؤثر السلامة مادامت مصلحته؛ أو على الأقل الحد الأدنى منها قد تحقق، فلا داعى للمجازفة والمخاطرة بأمنه واستقراره. عليه أن يبلع لسانه فى حلقه ويلوذ بالصمت فى مواجهة حالات الظلم.. وما أكثرها!! 
هل سألت نفسك: من أنا.. ومن أكون؟.. نحن نعرف جيدًا من تكون.. نحن فقط نختلف حول المصلحة التى تريد تحقيقها!!

د. حسين علي:  أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس
 

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: المواطن العربي د حسين علي

إقرأ أيضاً:

يساعدك في اتخاذ القرار.. كيف يغيّر الذكاء الاصطناعي صورة الإنسان عن نفسه؟

يشهد العالم المعاصر تحوّلًا غير مسبوق في تاريخ الوجود البشري، تقوده التكنولوجيا بصفتها القوة الأكثر تأثيرًا في تشكيل ملامح الحياة الحديثة.

لم تعد التكنولوجيا مجرد أدوات أو منصات مساعدة، بل أصبحت بحد ذاتها بيئةً كلية نعيش فيها، وعاملًا حيويًا يُعيد صياغة مفاهيم الإنسان عن ذاته، وعن العالم، وعن الآخرين من حوله. وفي قلب هذا التحول تقف الأجيال الجديدة لا كمتلقٍّ سلبي، بل كنتاجٍ حيّ لهذا العصر الرقمي بكل تعقيداته وتناقضاته.

نتحدث هنا تحديدًا عن جيل Z (المولود بين 1997 و2012)، وجيل ألفا (المولود بعد 2013)، وهما جيلان نشآ في ظل تحوّل تكنولوجي عميق بدأ مع الثورة الرقمية في نهاية القرن العشرين، وتفاقم مع دخول الذكاء الاصطناعي والواقع المعزز والميتافيرس والبيانات الضخمة إلى صلب الحياة اليومية.

جيل Z يمثل الجسر بين عالمين: عالم ما قبل الثورة الرقمية، وعالم أصبحت فيه الخوارزميات هي "العقل الجمعي" الجديد.

لقد عاش هذا الجيل مراحل الانتقال الكبرى: من الكتب الورقية إلى الشاشات، من الاتصالات الهاتفية إلى الرسائل الفورية، من الصفوف المدرسية إلى التعليم عن بُعد. أما جيل ألفا، فهو الجيل الذي لم يعرف سوى الرقمية منذ لحظة الميلاد، إذ تفتحت حواسه الأولى على شاشة، وتكوّنت مهاراته اللغوية من خلال مساعد صوتي، وتعلّم المفاهيم الأولى عن طريق تطبيقات ذكية وخوارزميات دقيقة تستجيب لسلوك المستخدم لحظيًا.

إعلان

إننا لا نتحدث عن تغيّر في أنماط الحياة فقط، بل عن إعادة تشكيل حقيقية للذات الإنسانية. ففي السابق، كانت الهوية تُبنى عبر التفاعل مع الأسرة، والمدرسة، والثقافة المحلية، وكانت تنشأ ضمن سياق اجتماعي واضح المعالم.

أما اليوم، فالأجيال الرقمية تبني صورها الذاتية في فضاءات افتراضية عالمية، تتخطى الحواجز اللغوية والثقافية والجغرافية. إنها هوية "مُفلترة"، تُنتجها الصور والمنشورات والتفاعلات المرسومة وفق خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي، وتُقاس بكمية "الإعجابات" والمشاهدات، لا بتجربة الذات العميقة.

هذا التحول لا يخلو من مفارقات. فعلى الرغم من الكمّ الهائل من التواصل الرقمي، تشير دراسات عديدة إلى تصاعد مشاعر الوحدة والعزلة، خصوصًا بين المراهقين والشباب.

وقد ربطت تقارير صحية بين الإفراط في استخدام التكنولوجيا وبين ارتفاع معدلات القلق، واضطرابات النوم، وضعف التركيز، وتراجع المهارات الاجتماعية.

جيل Z، برغم إتقانه المذهل للتكنولوجيا، يواجه صعوبة متزايدة في بناء علاقات واقعية مستقرة. أما جيل ألفا، فيُظهر مبكرًا قدرة رقمية خارقة، لكنها تقترن أحيانًا بضعف في التطور اللغوي والعاطفي، وكأن المهارات الإنسانية الكلاسيكية باتت تُستبدل تدريجيًا بكفاءات رقمية جديدة.

هذا لا يعني أن الأجيال الرقمية "أقل إنسانية"، بل إنها مختلفة في تركيبها المعرفي والعاطفي والاجتماعي. إنها أجيال تعيش فيما يمكن تسميته "الواقع الموسّع"، حيث تتداخل فيه الذات البيولوجية بالذات الرقمية، ويذوب فيه الخط الفاصل بين ما هو واقعي وما هو افتراضي.

وهذه الحالة تطرح سؤالًا وجوديًا جوهريًا: من أنا في عالم يُعاد فيه تشكيل الذات بواسطة أدوات لا أتحكم بها بالكامل؟ من يوجّهني فعلًا: أنا، أم البرمجية التي تختار لي ما أقرأ وأشاهد وأرغب؟

في هذا السياق، تتزايد الحاجة إلى تفكيك العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا من جديد. فنحن لم نعد فقط نستخدم التكنولوجيا، بل يُعاد تشكيلنا من خلالها، وقد أصبح الذكاء الاصطناعي شريكًا خفيًا في اتخاذ القرارات، وتوجيه السلوك، وحتى في تكوين القيم وتصورات العالم. منصات مثل تيك توك ويوتيوب وإنستغرام لم تعد وسائط ترفيهية فحسب، بل منصات لإنتاج الثقافة والهوية والسلوك الاستهلاكي.

إعلان

ولعل المفارقة الكبرى تكمن في أن هذه التكنولوجيا التي وُعدنا بها كوسيلة لتحرير الإنسان، باتت تخلق أشكالًا جديدة من التبعية. فمن جهة، تسهّل الحياة وتختصر الوقت، لكنها من جهة أخرى تُعيد تشكي إدراكنا بطريقة غير مرئية. إنها "القوة الناعمة" الأشد تأثيرًا في تاريخ البشرية.

في ظل هذا الواقع، لا يكفي أن نُحمّل الأفراد مسؤولية التكيف. المطلوب هو تفكير جماعي لإعادة توجيه العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا. المؤسسات التعليمية مطالبة بأن تراجع مناهجها، لا فقط لتُدخل التقنية، بل لتُعيد التوازن بين ما هو رقمي وما هو إنساني.

الأسرة، بدورها، لم تعد فقط مصدرًا للقيم، بل أصبحت "ساحة مقاومة" للحفاظ على الحميمية في وجه التمدد الرقمي. أما صانعو السياسات، فعليهم مسؤولية أخلاقية وتشريعية للحدّ من تغوّل التكنولوجيا في تفاصيل الحياة اليومية، ووضع ضوابط تحمي الأجيال من فقدان الجوهر الإنساني.

ينبغي ألا يكون السؤال: كيف نُقلل من استخدام التكنولوجيا؟ بل: كيف نستخدمها بطريقة تحافظ على إنسانيتنا؟ كيف نُدرّب أبناءنا على التفكير النقدي، والقدرة على التأمل، والانفتاح العاطفي، لا فقط على البرمجة والتصميم؟

نحن نعيش لحظة مفصلية، لحظة يُعاد فيها تعريف الإنسان، لا بالمعنى البيولوجي، بل بالمعنى الوجودي. وإذا لم نُحسن إدارة هذا التحوّل، فإننا قد نخسر القدرة على أن نكون ذاتًا فاعلة حرة في عالم تتزايد فيه السيطرة غير المرئية للأنظمة الذكية.

المستقبل لا تصنعه الآلات، بل الإنسان الذي يعرف كيف يتعامل معها. ولهذا، فإن المعركة الأهم ليست بين الأجيال والتكنولوجيا، بل بين الإنسان وإنسانيته.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • أذكار المساء كاملة.. حصن نفسك من الشياطين والعين
  • النور حمد (نموذجاً): عندما يتحدث النخبوي عن نفسه بصفة (نحن عملاء)
  • يساعدك في اتخاذ القرار.. كيف يغيّر الذكاء الاصطناعي صورة الإنسان عن نفسه؟
  • ما المقصود بقول الله تعالى كتب على نفسه الرحمة ؟.. علي جمعة بوضح
  • 8 وجوه جديدة تنضم لقائمة المنتخب المصري للجودو استعدادًا للبطولة الأفريقية في كوت ديفوار
  • 8 وجوه جديدة تنضم لقائمة المنتخب المصري للجودو استعدادًا للبطولة الإفريقية
  • 8 وجوه جديدة تنضم لقائمة المنتخب المصري للجودو استعدادا للبطولة الأفريقية
  • أذكار المساء مكتوبة.. احرص على ترديدها واحفظ نفسك من كل سوء
  • كيف تحمي نفسك من الإصابة بالأزمة القلبية المفاجئة؟
  • مع ارتفاع درجات الحرارة.. كيف تحمي نفسك من الإصابة بضربات الشمس؟