لا نتكلم بلغة الوجوب على أحد فلم نؤت الحكمة، ولكننا نرى الفكر العربي محتاجا إلى صعود ربوة النهضة الفكرية من جديد، وعسى أن لا يكون صعودا مثل صعود سيزيف. لقد أشرنا في ورقة سابقة إلى أهمية الخروج من تحت رؤية الغرب للعالم، والقائمة بالأساس على عدم الاعتراف بالمختلف والعمل على تذويبه في الذات الغربية المتسامية، وذلك خاصة في مستوى المقررات التعليمية والعالية منها بالتحديد.
تحالف المال والأكاديميا
حتى الذين لم يتخصصوا في الدراسات الخلدونية يحفظون لابن خلدون حكمته البالغة في علم النفس الاجتماعي: "المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب"، وقد يقن كثيرون من مثقفي العرب أنهم في وضع المغلوب المقتدي بمن غلبه. ولسنا أول من تفطّن أو نبّه، ولكن الخروج من وضع الهزيمة تأخر كثيرا والسبب البيّن أن وضع الهيمنة قد خلق طبقة مستفيدة من الهزيمة، وهي طبقة المناولين الاقتصاديين مع الشركات الغربية. فثروات هؤلاء التي بنوها بالمناولة مهددة بأية مراجعة للسياسات الاقتصادية، وخاصة ما يتعلق منها باتخاذ خطوات استقلالية كتغيير التحالفات الاقتصادية والأسواق سواء تصديرا أو استيرادا.
الخروج من وضع الهزيمة تأخر كثيرا والسبب البيّن أن وضع الهيمنة قد خلق طبقة مستفيدة من الهزيمة، وهي طبقة المناولين الاقتصاديين مع الشركات الغربية. فثروات هؤلاء التي بنوها بالمناولة مهددة بأية مراجعة للسياسات الاقتصادية، وخاصة ما يتعلق منها باتخاذ خطوات استقلالية كتغيير التحالفات الاقتصادية والأسواق سواء تصديرا أو استيرادا
هذا الطبقة تحكم الأقطار العربية مرة بواسطة ديمقراطية هشة وبالأحرى مزيفة، وأخرى بقوة البوط العسكري. وهي ترفض كل تغيير في الوضع، ولذلك وجدناها تحارب احتمالات الحرية والاستقلال التي جاء بها الربيع العربي، فارتدت بالناس إلى أزمان دكتاتورية أبشع من التي ثاروا عليها وحكمت مصالحها بالسلطة وأبَّدت وضع المغلوبين الأذلِّاء.
هنا حصل نوع من التحالف الصامت بين نخبة مغلوبة تفلح في القص واللصق لمقرراتها ودروسها، وغاية مناها الكتابة بلغة المحتل (إنجليزي أو فرنسي) والفوز بنشر مقال أو كتاب لدى دور النشر الغربية، وبين نخبة المال والأعمال التي تحكم مباشرة أو من وراء ستار وتمنع كل نقاش حقيقي في المراجعات الأكاديمية التي يمكن أن تؤدي إلى نشأة نخبة مستقلة ومتحررة من المثال الغربي.
هذا التحالف انتهى بالجامعات العربية إلى مدارس تخريج موظفين حدود إدراكهم برمجيات التجارة والتسويق، والبارع منهم يصل مرحلة التلاعب في البورصة بأموال ليست له، لكنه يسعى جاهدا في إثبات قدراته بتنمية رأس مال من يوظفه. لذلك لم نستغرب أن نسمع في أول حرب الطوفان من يسألنا منهم: لماذا يتعاركون مع إسرائيل؟ لقد لحست المقررات المدرسية عقول جيل كامل نسي حتى موقع فلسطين على الخارطة، وبرمج عقله على أن الغرب هو المثال المحتذى وهو الصواب المطلق.
وجب إسقاط المثال
لن يكون الأمر بسهولة الحديث عنه لكنه عمل ضروري، فالغالب ليس مثالا خيّرا أو قدوة كما أنه نموذج فاشل اقتصاديا إذ يستهدف الربح ويهمل الإنسان، والحيرة الآن قائمة في مستوى المدخل أو الخطوة الأولى؛ أين تكون ومن يخطوها ليفتح الطريق؟ هل يكون عمل النخب الأكاديمية سابقا أم النخب الاقتصادية والسياسية؟ أم تتضافر الجهود في وقت واحد فيقوم مشروع نهضة جديد مستقل ومتحرر بالخصوص من المثال الغربي المزيف؟
ونجد أن هذا السؤال نفسه ناتج عن فوضى التجارب النهضوية السابقة، فكأن المطلوب أن يتوقف التاريخ حتى نجد نقطة بداية ونشرع في العمل. إن التاريخ ليس قطارا يتوقف في محطات معينة، لذلك فإن هناك نقاط بداية متعددة في كل تخصص، وعلى كل من أسقط المثال الغربي من خياله أن يشرع في عمله بعقل متحرر. فالذي يصنع آلة بجهده ويروجها محليا وهو يعلم أن استيراد مثيل جاهز لها يدر عليه ربحا أكبر؛ يعتبر فردا متحررا ويعمل على المستقبل. إن جوهر حركة تحرر وطني طبقا لدروس غزة هو أولا التحرر من المثال الفاسد بالاعتماد على الذات.
مع ملاحظة مهمة يمكننا أن نستخرج من كتابات النهضة الأولى ومنذ نهاية القرن التاسع عشر كلاما مماثلا لهذا، لكن لماذا لم يتحول الكلام إلى مشروع نهضة حقيقي؟ لقد توفرت الإجابة؛ من يمنع غزة من النصر في حرب التحرير الآن هو من منع الكلام السليم أن يتحول إلى مشروع نهضة، أي أنها معركة تحرر مفتوحة أغفل الأولون بعض شروطها فظنوا أنهم مانعتهم دولهم من التبعية؛ فإذا دولهم التي فرحوا بها هي من تقودهم إلى هاوية وقد أذن موعد التحرير الشامل، فحرب الطوفان هي معركة تحرير شامل ومن لم يلتقط لحظتها لن يظفر بلحظة مماثلة زمنا طويلا. غزة أسقطت المثال الغربي المزيف، وعلى كل عربي يعي لحظة غزة أن يسقطه من عقله ويستأنف شروط النهضة.
ما أسهل التنظير
نعم من وراء حاسوب صغير نبني دولا كبيرة لكن الفعل غير ذلك، ويكفي أن نستحضر طول الأنفاق التي حفرتها المقاومة تحت غزة وعمقها وتشعبها؛ ونحسبها ضربات بالفأس والرفش ليلا ونهارا لنعرف الثمن الواجب دفعه في مشروع تحرر، هذا فضلا عن تصنيع سلاح من بارود في أماكن مغلقة لو انفجر منها إصبع ديناميت لفضحت عمل المقاوم كله.
إسقاط هذه المشاريع المزيفة للنهضة خطوة ضرورية لمسح الطاولة طبقا لفعل غزة ثم البناء على أرض نظيفة، إنها عملية إعادة إعمار فكري بإبعاد ركام تنظيرات فاشلة بعضها قومي وبعضها يساري وبعضها إسلامي غير حمساوي
بمثل هذا الجهد في كل مربع يمكن إطلاق معركة تحرير أفضل من معركة التحرر من الاستعمار المباشر في منتصف القرن العشرين. نقول أفضل لأن هذه المعركة تكون تسلحت الآن بمعرفة عظيمة، وهي أن الالتفاف على المعركة الأولى قد كان بقوى داخلية بلا مشروع وبلا وطنية وبلا أخلاق، وهي ما تزال تعيش بيننا وتعرض خدماتها على العدو لتحكم أبدا.
لقد قرأنا في العقود الماضية مشاريع نهوض عجيبة كتبت من وراء زجاج، وتشبّه أصحابها بالأنبياء لفرط يقينهم لكنها سقطت بموت كتابها أو بانفضاح ولائهم للسلطة التي يعارضونها أو يودون المزايدة عليها. وما كان أسهل شراء ذممهم وتمييع مشاريعهم براتب جيد، لقد شاركوا في احتلال بلدانهم بقطع النظر عن نواياهم المعلنة.
إن إسقاط هذه المشاريع المزيفة للنهضة خطوة ضرورية لمسح الطاولة طبقا لفعل غزة ثم البناء على أرض نظيفة، إنها عملية إعادة إعمار فكري بإبعاد ركام تنظيرات فاشلة بعضها قومي وبعضها يساري وبعضها إسلامي غير حمساوي.
لنحفر إذن بصبر ونصنع بصمت أدوات دفاع اقتصادي، ولنحرر الفكر من المثال الأخلاقي المزيف للغرب، ومهما كانت نقطة البداية فإنها روافد تنتهي إلى نهر كبير. ولنبدأ بجملة صغيرة: ما لم نفعل هذا سنندثر مثل كائنات غريبة ولدت في الخرافات وعاشت فيها ثم انتهت بنهاية الخرافة.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه النهضة غزة المراجعات غزة النهضة العالم العربي التغيير مراجعات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد اقتصاد اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة من المثال
إقرأ أيضاً:
عقب حبس مني فاروق.. المحكمة الاقتصادية تصدر بيان تحذر الأسر المصرية
أصدرت المحكمة الاقتصادية بالقاهرة، تنبيها هاما ومناشدة للأسرة المصرية في أعقاب حكمها على الفنانة منى فاروق بالحبس 3 سنوات مع الشغل بسبب مقطع فيديو مدته 16 دقيقة، تضمن محتوى خادشا للحياء بحماية أبنائها من المحتوى المشين في تطبيقات التواصل الاجتماعي.
عقب حبس مني فاروق.. المحكمة الاقتصادية تصدر بيان تحذر الأسر المصريةالمحكمةُ تودُّ أن تُنُوه وتُهيبَ بالمُجتمع المصري الحفاظُ عَلى القيمِ والمبادئِ الأُسريةِ التي تُعدُّ حجرَ الزاويةِ في بناءِ مُجتمعٍ مُتماسكٍ وقويًّ، إن القيمَ والمبادئَ الأُسريةَ ليستْ مُجردَ قواعدَ اجتماعيةٍ نتوارثُها جيلاً بعد جيلٍ، بل هيَ ركيزة أساسية لحفظِ تماسُك المُجتمعِ المصرِي وهُويته، كما أن الأُسرةَ هي اللبنةُ الأولى لبناءِ المُجتمعاتِ إن صحَّت صح المُجتمع كُلهُ وإن فسَدَت فسدَ المُجتمع كُلهُ، والأسرةُ المصريةُ التي كانت على مدارِ التاريخِ نموذجًا يُحتذى به في التماسكِ والعطاءِ، يجبُ أن تبقى منارة تُرشد الأجيال القادمة إلى طريق الخيرِ والصلاحِ.
لقد شهدتْ تلك الجُنحةُ وقائع تُمثل إساءةً بالغةً للقيمِ والأخلاقِ المُجتمعية من قِبَلِ المُتهمةِ، واعتداءً واضحًا على الضوابطِ التي تحكُمُ الأُسرة المصرية ،وإن استخدامَ وسائلِ التواصُلِ الاجتماعيَّ، كموقع"تيك توك"، في خدشِ حياءِ الأسرة والإضرارِ بالمبادئِ الـمُجتمعية يُعد أمرًا خطيرًا يُهدد استقرار الـمُجتمع وأخلاقه، كما أن هذه المُمارسات لا تنالُ فقط من هيبةِ الأسرةِ المصريةِ، بل تعرض الأجيال الشابةَ إلى مخاطرَ حقيقيةٍ، تـُضعفُ من وعيهم وتُبعدُهُم عن أهدافهم البناءةِ.
والمحكمةِ وإنْ كانت ترى كونَ حُريةِ الرأي مكفولة، ولكُل إنسان الحقُّ في التعبيرِ عن رأيهِ ونشرهِ بالقولِ أو بالكتابةِ أو التصويرِ أو غير ذلك مِن وسائلِ التعبيرِ في حُدُود القانون والنقدِ المُباح والنقدِ البناءُ ضمان لسلامة البناءِ الوطني، ولئن كان الدستوُرُ قد كفلَ بهذا النص حُرية التعبيرِ عن الرأيِ بمدلولهِ الذي جاء عاما مُطلقًا ليشمل الرأي في مُختلفِ المجالاتِ السياسيةِ والاقتصاديةِ والاجتماعيةِ والعلميةِ.
وترتيبـًا على ذلك تستخلصُ المحكمةُ أن ما قامتْ بهِ وأدلتْ بهِ المُتهمةُ من عباراتٍ بالمقطع المرئي محل الواقعةِ كان سياقُهُ خارجًا عن النقدِ الذاتي وحُرية الرأيِ إنما يُعدُّ اعتداءً على المبادئِ والقيمِ الأسرية في المجتمعِ المصرِي، وأسفَتْ المحكمةُ على أن تصدُر تلك العباراتُ من المُتهمة لمُتابعيهَا من أفرادِ الأسرةِ المصريةِ، وتدعُو المحكمةُ كُل أُسرةٍ مصريةٍ إلى أن تضطلع بدورها المحوري في حمايةِ أطفالهَا من الإفراطِ في استخدامِ وسائلِ التواصلِ الاجتماعِي، لا سيما التطبيقاتُ التي قد تحملُ مـُحتوًى يتنافَى مع القيمِ والمبادئِ الأخلاقيةِ، وعلى الآباءِ والأمهاتِ مُراقبةُ استخدام أبنائهمْ لتلك الوسائلِ، مع توجيههمْ نحوَ المحتوى الهادفِ والبنّاءِ الذي يُثري عقولهم ويُعزز قيمهم والحدَّ من مُشاهدتهمْ للبثِ المباشرِ والمقاطع المرئيةُ التي تحوي على هدمِ القيَم والمبادئِ الأسريةِ والتي تقُومُ في أساسهَا على عددِ المُشاهداتِ، والتي تزدادُ كُلما زاد الإقبالُ عليها
وأشارت المحكمة إلى أن قِلة مُشاهدتها ستُسهمُ بشكلٍ كبيـرٍ في تلاشي هذهِ الظواهرِ التي لا تهدفُ إلا إلى تحقيقِ مكاسبَ شخصيةٍ على حسابِ الأخلاقِ واستقرارِ المجتمعِ.
وأكدت المحكمةُ أن رسالتهَا تتَجاوز حُدود العقوبة إلى دعوةٍ لكُل فردٍ في هذا الـمُجتمع لأن يتحملَ مسئوليتهُ تجاهَ الأُسرة والـمُجتمع، وأن احترامَ القيم والمبادئ ليسَ خيارًا، بل واجبًا، وإن إرساء هذه القيم في النفُوس هو الحصنُ المنيعُ الذي يحمِي الأُسرةَ والمجتمعَ من كل مُحاولات الهدْم أو التشويهِ.
لذلكَ، فإنَّ القضاءَ حينَ يتدخلُ في مثلِ هذه القضايا، لا يسعَى فقط لتطبيقِ القانُون، بل لتنبيهِ الجميعِ منْ خُطورة المساس بالأُسُس التي بُني عليها هذا الـمُجتمعُ العظيمُ، وعدَم الانسياقِ وراء الـمُغرياتِ الإلكترونيةِ التي تهدفُ إلى زعزعةِ استقرارِ الأًسرة ونشْر محُتوياتٍ تُسيءُ للأخلاقِ، وأخِيرًا تُهيبُ المحكمة بكل أفرادِ المُجتمع، شبابًا وكبارًا، بمُواجهةِ هذهِ الظاهرة التي تبدأ بتكاتـُفِ الجميع، وأن يجعلُوا منْ استخدام وسائلِ التواصلِ الاجتماعي وسيلةً للبناءِ لا للهدمِ، وأداةً لنشرِ الخيرِ والمعرفةِ، لا للإساءةِ والتخريبِ، ومن جماع ما سلف سردُهُ فالمحكمةُ تأخذ المُتهمةُ بقسطًا من الشدة جراء ما اقترفته من جُرمٍ.
وكانت محكمة جنح القاهرة الاقتصادية، قضت بـ حبس الفنانة منى فاروق 3 سنوات مع الشغل وكفالة قدرها 10 آلاف جنيه لإيقاف تنفيذ عقوبة الحبس مؤقتُا وتغريمها مبلغًا وقدره 100 ألف جنيه وألزمتها المصاريف الجنائية، وذلك في اتهامها ببث مقطع مرئي بث مباشر عبر موقع التواصل الاجتماعي تيك توك مثل اعتداءً على القيم والمبادئ الأسرية في المجتمع المصري، والتهمة مؤثمة بمواد قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات.