انتخابات الجمعيات الفكرية...إلى أين؟
تاريخ النشر: 27th, February 2024 GMT
علي بن سالم كفيتان
آمنت قبل مدة من الزمن بأن أكون عضوًا في إحدى الجمعيات الفكرية (الكتاب والأدباء أو الصحفيين)، وهنا أطلقتُ عليهما الجمعيات الفكرية؛ كونهما يشتغلان على الفكر ويخاطبان المجتمع من خلال الوعاء الثقافي، وعاهدت نفسي ألا أرشِّح نفسي لمجلس إدارة أي جمعية أنتسب لها أو حتى مكاتبها الفرعية، ليس ترفُّعاً ولا تشككاً في الأهداف والغايات النبيلة التي دَفَعت الحكومة الرشيدة لإجازتها وإشهارها، وإنما من باب: "رحم الله أمرأ عرف قدر نفسه"، فأنا كما عهدت نفسي لا أجيد مهارات الحشد ولا أفضِّل العلاقات الممتدة، وإن شئتم سموها المتجذرة، تربطني بالناس فقط لحظات عمل أو لقاء عابر أو مجاملة اجتماعية خفيفة في حالات الفرح والحزن، أمقُت استخدام المنابر للدعاية الشخصية، ففيها الكثير من حرق ذوات الآخرين في الذات الواحدة، وطريقها لا بد له من سلالم متعرِّجة وحبال طرزانية تقذف بصاحبها في الهواء ليجد نفسه على القمة النامية من وريقات خضراء، كانت نتيجة لآخر القطرات التي صبها آخرون على كومة التراب في الأسفل قبل سويعات من موعد الاستحقاق الانتخابي.
تنمو هذه الأجساد النائمة فجأة لتبلغ رشدها في أسبوع، وتموت كحشرة كُتب لها العيش فقط للتزاوج ووضع البيض، وبعدها تصبح قوتاً لكتائب النمل التي لا تهدأ على جذوع الأشجار وشقوق الأرض العميقة، أتدرون قرَّائي لَمْ أتخيَّل يوماً أننا نملك هذا الكم الهائل من الكُتَّاب والصحفيين المحتشدين في القاعات والمنادين بتجديد البطاقات والداعمين للقدرات الخارقة لقوائمهم، فأنا لم أرَ كثيرًا من هؤلاء منذ أعوام في أي محفل أدبي أو صحفي، إنهم ينبتون كالفطر بعد المطر، ولا بد من رعد هادر لموسم رخاء يُغاث فيه الناس ويعصرون بكل المقاييس النتيجة محسومة، وهي نفسها منذ عدة دورات مع إزاحة بعض الوجوه ودخول أخرى لتجديد الوضوء ليس إلا.
نعتقدُ أنَّ الضعفَ المهنيَّ الذي يخيم على هذه الجمعيات منذ إشهارها يأخذ عدة جوانب؛ أبرزها النظرة المجتمعية لدورها، فهي في نظر العامة أجساد تم إنشاؤها لتكتمل الصورة بوجود جمعيات مهنية غير حكومية كنوع من الأكسسوارات الواجب ارتداؤها في مرحلة من الزمن، وهذا الانطباع ولَّد نفورَ المحترفين وانزواءهم بعيدا عن المشهد، وتُرِكَت الساحة على مصراعيها للهُواة الذين يجيدون السباحة في البرك الرسمية، ويستطيعون حشد الدعم المالي من القطاع الخاص، ليتم استنفاذه لاحقاً في أمور بعيدة كل البعد عن تطوير الفكر وخلق رأي عام مسؤول وحرية تعبير تُسهم في تجويد الأداء ورسم السياسات التي تُسَاعِد الحكومة على المضي قدما في نهج التجديد، وللأسف فإنَّ الجهات الراعية -سواء التي تشرف على أنشطة هذه الجمعيات، أو المنوط بها المتابعة المهنية- لا تغير ساكناً وكأنها تفِّضل السيناريو الحالي وترغب في استمراره، رغم أن هذا لا يخدم المشهد الفكري في البلاد.
وهنا.. لا بد من تحميل المثقف والكاتب والصحفي المهني كذلك المسؤولية؛ فالهروب ليس هو الوسيلة الناجحة للتغيير، بل الإقدام على تبنِّي نهج التنافس والقبول بالنتائج، فقد لا تتوفق قائمة معينة هذه الدورة، ولكنها دفعت بوجود بديل، ويجب البناء للدورات القادمة والدخول لمعترك استقطاب الوجوه الجديدة التي يتم تأطيرها لبلوغ الغايات، فعددٌ لا يُستهان به من مُنتسبي تلك الجمعيات مجرد أسماء عبرت طريق الانتساب بسهولة دون عناء، وفي المعظم لا يوجد نتاج أدبي أو نشاط صحفي يكاد يُذكر لهؤلاء، لكنهم باتوا مخزون جيد لحسم نتائج الانتخابات.
طَوَت جمعية الصحفيين العُمانيين صفحتها قبل أيام بمشهد مُكرَّر لدورات سابقة، وينتظر ذات المشهد جمعية الكُتاب والأدباء في السادس من مارس المقبل، رغم وجود قوائم تحمل أسماءً بارزة لها مكانتها المهنية والأدبية في الفضاء الوطني والإقليمي، وحتى الدولي، لكن رُبما قلة الخبرة في التعامل مع مشهدنا الثقافي المتلوِّن هو ما يجلب الخسارة لمثل تلك القوائم المرصعة بالأسماء الفاعلة التي تحظى باحترام الشارع العُماني، لكنها لا تمتلك ذات الدعم من المنتسبين الجدد لتلك الجمعيات؛ فحملات التجديد للعضوية على قدم وساق، والدعوة لنيل التفويض لا تكاد تهدأ لمن حالفهم الحظ بالتجديد قبل الإغلاق، في ظل عدم وجود دعاية انتخابية أو برامج أو خطط للمشهد الأدبي أو الصحفي لتلك القوائم التي تشحذ الهمم لليوم الموعود... حفظ الله بلادي!!!
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
حسام أبو صفية.. الطبيب والشهيد الحي
ظهر ماردا بين الأنقاض بردائه الأبيض، يحمل مبضعه وشرفه أمام دبابات المحتل غير آبه لقذيفةٍ قد تمزق جسده، خرج من عرينه المدمر وألسنة النار لا زالت تلتهم أسرّة المرضى والتجهيزات وما تبقى من مواد ودواء، كان آخر الخارجين وليس أولهم بعدما رفض مرارا وتكرارا أوامر جيش الإحتلال بالإخلاء، خرج رافع الراس متحديا، ومعه شجاعة وجرأة شعب صمد لأكثر من 15 شهرا.. خرج الطبيب الجريح العنيد الصلب ابن الشعب الأسطورة والملحمة التاريخية الفريدة، والتي ستُسجّل في سجل غينيس للأرقام القياسية تحت اسم 365 كيلومترا مربعا ونحو 450 يوما من الصمود بمواجهة الاحتلال والعدوان والخذلان.
ظهر الطبيب ملاكا واثق الخطى أمام شياطين القتل والدمار والإرهاب، وكان يعلم أن مصيرا مجهولا ينتظره، ولكنه يعلم أيضا أنه ترك إرثا استثنائيا ستتحدث عنه الأجيال مطولا، وستتصدر صورته أيضا صفحات الجرائد والمجلات، وسيتحدث عنه الكبار والصغار، وستتناقل أخباره شاشات التلفزة ووكالات الأنباء، ولربما تتحدث عن فظاعة جرائم الإبادة التي ارتكبتها قوات الاحتلال أثناء حصارها وقصفها وإحراقها واقتحامها لمشفى كمال عدوان، ولربما تتحدث عن أهوال جرائم حرب ارتكبت بحق المرضى من أطفال ونساء وكبار السن، وعن إعداماتٍ للطواقم الطبية هناك.
ظهر الطبيب ملاكا واثق الخطى أمام شياطين القتل والدمار والإرهاب، وكان يعلم أن مصيرا مجهولا ينتظره، ولكنه يعلم أيضا أنه ترك إرثا استثنائيا ستتحدث عنه الأجيال مطولا، وستتصدر صورته أيضا صفحات الجرائد والمجلات، وسيتحدث عنه الكبار والصغار، وستتناقل أخباره شاشات التلفزة ووكالات الأنباء، ولربما تتحدث عن فظاعة جرائم الإبادة التي ارتكبتها قوات الاحتلال أثناء حصارها وقصفها وإحراقها واقتحامها لمشفى كمال عدوان
كان الملاك الأبيض يتحرك بخطى ثابتة وسط الصمت المريب والخذلان الذي تجاوز كل الحدود والمسميات، تحرك نحو المشهد الذي يخافه الجبناء، ولا يليق إلا بالنبلاء الأبطال، تحرك نحو آلات القتل والتدمير ولم يثنه الموت المنتظر أو الاعتقال أو التنكيل القادم لا محالة.. خرج الطبيب من بين الأنقاض وأكوام الركام والجثث الملقاة أمام المشفى الشاهد والشهيد، خرج من الجغرافيا الصغيرة ولكنه لم يخرج من التاريخ، خرج من المشهد ولكنه ليس من المشهد الأخير الذي ينتظره دعاة الحقوق والإنسانية تاركا وصمة عارٍ، بل وصمات عارٍ على جبين الشقيق والصديق القريب والبعيد، بصمات عارٍ على جباه جميع المتفرجين على مأساة المشفى المحاصر وعلى أولئك الصامتين المشاركين باغتيالها، ترك بصمات عارٍ ولطخات ذل على وجوه كل المستنكرين والمنددين.
ولم ينس أن يدمغ بصمات عارٍ على ما تبقى من وجه للسلطة ورجالها الأمنيين الحريصين على أمن وسلامة الصهاينة المستوطنين، بصمات عارٍ لأولئك الذين يحاصرون بل يقصفون جنين ويعتقلون ويقتلون المقاومين.
خرج الحسام ماردا، وفي فمه الكثير مما يقال، ووصية قبل المشهد الأخير أن قاوموا حتى الرمق الأخير، إن التاريخ يقف عندكم وصفحاته مفتوحة لكم؛ لتؤرخوا هذه الأحداث وهذا الصمت والخيانات، صفحاته مفتوحة لكم لكي لا تساوموا قتلة الأطفال ودعاة بناء الهيكل، لا تساوموا قتلة النساء والجرحى، والمنكلين بجثث الشهداء. رابطوا حتى ولو وراء أجسادكم النحيلة التي أضناها الجوع والعطش والمرض والبرد، رابطوا واجعلوا من كل جسد لكم متراسا ولا تنتظروا أحدا، فلن يأتوا لأن تصاريحهم مرهونة لدى العم سام. لا تكونوا كمن انتظر "غودو"، ولما يأتِ أبدا. لقد أعيانا نداء: وا معتصماه، وا عمراه، وا حمزاه، وا علياه، وا عرباه، وا إسلاماه، وا عيساه.. الكل أدار ظهره إلى الحائط، إلى حائطٍ بعيدٍ حتى لا يُرى، الكل أصمّ آذانه، وجعل لها قفلا من فولاذٍ وحديد، الكل أغشى عينيه وكبّل يديه وقيّد ساقيه، وأعلن ثباته في أرض الخنوع والهوان.
بقي الحسام طبيبا وشهيدا حيا، وربما شاهدا وحيدا.. كم كنت كريما عزيز النفس! وبقيت وظهرت عزيزا وستبقى تاريخا وتأريخا للذاكرة والأجيال
لقد استيقظت قريش على ندائنا ولم يشعر عرب اليوم بنا، وأبى أبو جهلٍ إلا أن يُنجدنا، ولكن الموت قد عاجله، وانتفض الجاهليون، وأطراف حرب الردّة، والمتقاتلون في داحس والغبراء ولم يستجب أحدٌ من العرب، ولم يأتِ الأكسجين ولا الدواء ولا الوقود فسقطت كل المشافي من قبل أيها الطبيب. وها و مشفاك "كمال عدوان" آخر قلاع الإنسانية يسقط مضرجا بدماء جرحاه وطواقمه ومرضاه، وشهدائه، سقط شهيدا وتم اغتياله، لكن مع سقوطه سقطوا معه جميعا سقوطا مخزيا مدويا، سقطت مع أولئك المتفرجين أقنعتهم الزائفة وورقة التوت التي غطّت عوراتهم، وبقيت رائحتهم العفنة وصورهم المشوهة وكلماتهم الكاذبة على الجدران المحترقة للمشفى، بقيت صور خذلانهم معلقة في ضمائر ووجدان الإنسانية العاجزة، وبقيت لعنتهم على أكفان الشهداء النازفة التي لم يتمكن أحد من دفنهم دفنا كريما يليق بصمودهم. انهار الضمير والوجدان الإنساني، انهارت منظومة القيم والمبادئ العالمية حتى مات الأطفال الرضّع بردا؛ تجمدت قلوبهم والدماء في عروقهم، وتبلدت أحاسيس ومشاعر العالم حتى قُطعتْ أجهزة التنفس عن المرضى بأيدي الجلادين الصهاينة "دفاعا عن النفس".
هناك توقفت الحياة وانتهى المشهد الهوليودي المثير، وبقي الحسام طبيبا وشهيدا حيا، وربما شاهدا وحيدا.. كم كنت كريما عزيز النفس! وبقيت وظهرت عزيزا وستبقى تاريخا وتأريخا للذاكرة والأجيال.
[email protected]