الاستعراب السنغالي.. أجنحة الضاد على ضفاف نهر صنهاجة
تاريخ النشر: 27th, February 2024 GMT
ذات مؤتمرٍ لرابطة العالم الإسلامي، أحال رئيس الجلسة الكلام لممثل دولة السنغال الأديب المستعرب الشيخ إبراهيم جوب (رحمه الله)، وقبل أن يمنحه الكلام، تساءل هل توجد ترجمة، فما كان من الشيخ السنغالي إلا أن افتتح كلامه بشطر من رائية الشاعر الجاهلي امرئ القيس "وهل أفنى شبابي غير هِرّ؟"
وتساءل: وكيف أحتاج الترجمة إلى اللغة العربية، وأنا الذي عشت بها وتلقيت تعليمي، وكان معلمي الشيخ الموريتاني يأخذ بلساني حتى أنطق الحاء فصيحا.
ضجت القاعة بالإجلال والتقدير للشيخ الذي ظل لعقود طويلة رئيس رابطة علماء السنغال، وأحد أكثر ألسنتها فصاحة وبهاء رونقا في الحديث والكتابة.
وليس الشيخ جوب إلا مثالا لأجيال من السنغاليين أخذت معارف اللغة العربية طرية عبر المدارس الإسلامية الأصلية التي كانت المصدر التعليمي الأوحد في بلاد "السنغال" قبل دخول المستعمر الفرنسي، الذي أدخل السنغال في ليل من الفرانكفونية أعاد بها تشكيل هويتها "الرسمية" على الأقل.
جمع من رواد اللغة العربية بالسنغال يخلدون يومها في العاصمة دكار (الجزيرة) العربية.. زاد في حقائب التجار المسلمينوصلت اللغة العربية إلى السنغال غضة طرية في قوافل التجار المسلمين الذين كانوا الفاتحين الأوائل للقلوب قبل الأمصار الأفريقية، ثم تعززت بعد ذلك بجوار موريتانيا ذات التاريخ الحافل بخدمة اللغة العربية.
وقد كان "العلماء والتجار" الموريتانيون بشكل خاص أقرب الناس إلى السنغال، وكانت الضاد من أول وأهم ما يعبر ضفتي نهر السنغال جيئة وذهابا، ويتشابه النظامان التعليميان التقليديان إلى حد التماهي بين البلدين، مع اختلاف في المخرجات.
وتعتمد المدارس التقليدية في السنغال تعليما تراكميا يشمل على سبيل المثال:
– دراسة القرآن الكريم وحفظه، ويمتاز السنغاليون بالحرص على كتابة المصحف بخط اليد، ليكون بمثابة الإجازة، في حين يتجه النظام الموريتاني إلى دراسة مجموعة من المتون في الرسم والتجويد إضافة إلى برنامج تمريني في الحفظ والكتابة القرآنية قبل نيل الإجازة المسلسلة في حفظ كتاب الله وتجويده.
– وفي معارف الفقه، يدرس الجميع مختصرات كتب الأخضري، وابن عاشر، ومختصر الشيخ خليل، وتحفة الحكام لابن عاصم، وكتب أخرى في قواعد وأصول الفقه.
– وفي اللغة العربية، يدرس الطرفان كتب ابن مالك في النحو والصرف والمعجم وكتب السيوطي في البلاغة، إضافة إلى الديوان الستي (ديوان الشعراء الجاهليين الستة)، ومقامات الحريري التي تحظى بتقدير خاص لدى مختلف الشعوب المسلمة في غرب أفريقيا، حيث يعتبر حفظها دليلا على الفتوة والتمكن من ناصية الضاد.
المهتمون بنشر اللغة العربية يخلدون يومها في العاصمة دكار (الجزيرة)كما احتلت كتب الشيخ أحمد بمب البكي السنغالي مكانا سميا في التعليم الديني في السنغال، وكان هذا الشيخ من علماء وشعراء بلاده، وإليه تنسب الطرفة الشهيرة عندما سأله أحد تلاميذه "بم توصيني"، وذلك بمد (ما)، فرد عليه الشيخ قائلا: أوصيك أن لا تمد (ما) إذا كان بعدها فعل.
وقد اشتهر من شعراء السنغال عدد كبير، من أهمهم الشيخ الحاج عمر تال، والشيخ أحمدو بمب بن حبيب الله، والترجمان الشهير محمدن ولد ابن المقداد، والشيخ إبراهيم انياس، والشيخ تيرنو حامد آن التلري وقد كان من أجلاء علماء وشعراء السنغال، وامتاز أدبه بقوة السبك وروح الفخر إذ يقول:
أنا شاعر البيضان والسودان.. ترب القصائد فارس الفرسان
وأنا المجـيـد سليقة وجـبلـة.. كاللـيـث عــند تـزاحم الأقـران
وقد كان الشاعر محمدن ولد ابن المقداد ذا مجلس عظيم يفد إليه الشعراء والعلماء الموريتانيون من كل حدب، وتنعقد فيه مجالس الإنشاء واللهو، كما كان قبلة للأمراء والسادة والشخصيات الكبيرة، وكان الشاعر الترجمان يدخل في سجالات بالفصحى واللهجة الحسانية الموريتانية مع نظرائه القادمين من الضفة الشمالية لنهر السنغال (موريتانيا)، حيث كان مبرزا في مختلف معارف وقيم عصره.
وفي السياق ذاته، تحولت قصائد الشيخين أحمدو بمب والشيخ إبراهيم انياس إلى أيقونات أدبية يشدو فيها ملايين المريدين في مختلف أنحاء غرب أفريقيا، حيث حولهما التصوف إلى تراتيل يشدو بها العباد والدراويش في حلقات الذكر ومواسم الصفاء الروحي.
وإذا كان ماضي تراث الاستعراب في السنغال مشرقا، فإن عواصف الاستعمار وأستار الفرانكفونية ضربت بجران راسخ على الإرث العروبي والإسلامي في السنغال، ومع ذلك ظلت المقاومة والاستعصاء الثقافي خصوصا في محاضنه التقليدية مستمرا، وأسس العلماء والمثقفون السنغاليون جمعيات وأندية متعددة من أجل حماية لغة القرآن ومعارفها من طوفان الفرانكفونية الجارف.
ويعود تأسيس بعض تلك المؤسسات إلى السنوات الأولى من قيام الدولة الوطنية، كما هي حال الاتحاد الثقافي الإسلامي: الذي تأسس سنة 1953، والاتحاد الوطني للجمعيات الثقافية الإسلامية في السنغال الذي تأسس هو الآخر سنة 1962، وجمعية المستعربين التي تأسست عام 1965، وكانت جزءا من الحزب الاشتراكي السنغالي الحاكم حينها.
وقبل هذه الجماعات والمؤسسات كانت المدارس الإسلامية التقليدية الركن الأساسي الذي آوت إليه العربية في غربتها تحت العباءة الفرانكفونية، وقد تعزز أداء هذه المدارس بعد أن تحولت إلى معاهد حملت اسم "المعاهد الأزهرية" في طوبى، ومعاهد الشيخ عبد الله انياس في كولخ، وقد كان للأساتذة الموريتانيين دور كبير في إسناد هذه المؤسسات التي خرجت عشرات الآلاف من المستعربين الذين يقودون اليوم نضالا حثيثا من أجل التمكين للغة القرآن.
نضال متواصل من أجل الترسيميذهب وزير التربية السنغالي الأسبق أبادير تام إلى أن 35% على الأقل من الشعب السنغالي يتكلمون اللغة العربية، وهناك من يرفع النسبة لتقارب نصف السكان.
ويمثل هؤلاء وقود النضال من أجل التمكين لهذه اللغة التي ترتبط في الوجدان السنغالي بالدين والقيم والمكانة الاجتماعية الرفيع، ويرتبط هؤلاء أساسا بالمرجعيات الدينية والطرق الصوفية، التي تعتبر المنهل والمورد الأساسي للغة العربية في السنغال.
ويعتبر المستعربون السنغاليون العشرينية المنصرمة سنوات فتح وتمكين للعربية، خصوصا بعد انتهاج سياسة التعليم الفرنسي- العربي الذي تنتمي إليه حتى الآن قرابة 700 مدرسة ابتدائية، و30 مدرسة ثانوية وأكثر من 110 مدارس إعدادية، وفق ما أدلى به رئيس قسم التعليم العربي بوزارة التربية السنغالية عثمان باه، في مقابلة مع الجزيرة نت.
رئيس قسم التعليم العربي بوزارة التربية السنغالية عثمان باه (الجزيرة)وقال عثمان باه إن هذه المدارس تتقاسم التوقيت بين اللغتين العربية والفرنسية، حيث يدرس التلاميذ بالأولى معارف اللغة العربية والشريعة الإسلامية، في حين تدرس المواد العلمية الأخرى باللغة الفرنسية، ومن شأن هذا التعليم إقامة نظام ازدواجي يعزز اللغة العربية مع الزمن، من دون أن يقطع أمام الطالب السنغالي فرص الاندماج في نظام التوظيف السنغالي المفرنس بشكل شبه كامل.
وإضافة إلى ذلك، أقرت السنغال شهادة الثانوية العربية، فضلا عن فتح قسم للعربية في المدرسة الوطنية للإدارة (المسؤولة عن تكوين الموظفين الجدد)، وهو ما سيمكن المستعربين من الولوج إلى السلك الوظيفي، وخصوصا السلك الدبلوماسي حيث ترتبط السنغال بعلاقات وثيقة مع مختلف الدول العربية، ويبدو أن هذه البوابة الدبلوماسية سيكون مفتاحها مع الزمن بيد المستعربين.
ومع هذه الآفاق لا يزال المستعربون يشكون من ضعف تمثيلهم في التعليم العالي، فوفق السيد عثمان باه فإن عدم وجود جامعة حكومية باللغة العربية ما زال عائقا أمام مئات الآلاف من الشباب المستعرب، ليكون قسم اللغة العربية بجامعة الشيخ آنتا ديوب (كبرى الجامعات السنغالية)، وقسم اللغات الحية بجامعة ولاية تييس، من أهم المنافذ أمام الطلاب السنغاليين غير القادرين أو الراغبين في الهجرة إلى الدول العربية حيث توجد جاليات سنغالية متعددة.
رئيس قسم اللغة العربية بمدرسة تكوين المعلمين في السنغال شيخ صمبو (الجزيرة)ويمثل هؤلاء المستعربون أساسا لقسم اللغة العربية بمدرسة تكوين المعلمين، حيث يتلقون تكوينا تأهيليا قبل اكتتابهم في هذه المدارس، حيث يدرسون تخصصات علمية وأكاديمية تعينهم على الاضطلاع بمسؤولية نشر لغة القرآن بين الأجيال السنغالية
ولا يزال عدد المدرسين محدودا، مقارنة مع الحاجة المتصاعدة، ويقدر رئيس قسم اللغة العربية بمدرسة تكوين المعلمين شيخ صمبو في حديث مع الجزيرة نت، عدد الأساتذة المستعربين بحوالي ألفي أستاذ يتولون تدريس اللغة العربية في المدارس الحكومية، في حين يصل حجم الاكتتاب السنوي إلى ما بين 50-80 مدرسا رسميا، ولكن عدد مدرسي اللغة العربية في المدارس الخاصة يقدر بالآلاف.
ويتفق مع رأي الأستاذ عثمان باه الدكتور يعقوب بجال رئيس فرع دكار من جامعة الشيخ أحمد بمب التي تشرط اللغة العربية للانتماء إلى كليات هذه الجامعة التي تحمل اسم أعظم وأشهر علماء اللغة والشريعة في بلاد السنغال.
رئيس فرع دكار بجامعة الشيخ أحمد بمبا، يعقوب بجال (الجزيرة)ويصل عدد طلاب هذه الجامعة 5 آلاف حتى الآن -حسبما قال بجال للجزيرة نت- من بينهم 2080 وجّهتهم وزارة التربية السنغالية إلى هذه الجامعة الجديدة، ويسعى القائمون عليها إلى فتح بوابات جديدة أمام طلابها تمكنهم من إتقان 3 لغات على الأقل، (العربية، الفرنسية، الإنجليزية) عكس الفرانكفونيين الذين تنتهي مطامحهم عند إتقان لغة موليير أو التحدث بها بطلاقة على الأقل، حسبما يقول يعقوب بجال.
وبين الطموح والآمال والمخاوف والعقبات، تملك اللغة العربية أوراق قوة عديدة، وتجري رياح الزمن بما تشتهيه سفن المستعربين الذين ما زالوا يتنسمون عبق الضاد الذي حملته سفن الفاتحين والتجار المسلمين، راسما واحدة من أعمق العلاقات بين الغرب والشمال الأفريقي.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: قسم اللغة العربیة فی السنغال العربیة فی على الأقل رئیس قسم وقد کان من أجل
إقرأ أيضاً:
إطلاق منصة “زاي” في جامعة زايد لتعزيز بحوث تعليم اللغة العربية وتعلّمها في الدولة والمنطقة
أعلنت جامعة زايد عن إطلاق منصة “زاي”، وهي منصة رقمية جديدة تهدف إلى تطوير تعليم اللغة العربية من خلال توفير أدوات وموارد مبتكرة لدعم المعلمين والطلبة والباحثين. وقد حضر إطلاق المنصة عدد من الشخصيات البارزة، من بينهم معالي عائشة ميران، المدير العام لهيئة المعرفة والتنمية البشرية؛ الدكتور مايكل ألين، مدير جامعة زايد بالإنابة ، و ناديا بهويان نائب مدير جامعة زايد ورئيس الشؤون الأكاديمية وعدد من أعضاء مجلس أمناء جامعة زايد. ويؤكد هذا الحضور الرفيع المستوى على الأهمية الاستراتيجية لهذه المبادرة في تطوير تعليم اللغة العربية على المستويين المحلي والإقليمي.
وتعزز المنصة قدرة المعلمين على تحسين النتائج التعليمية عبر أدوات تشخيصية ذكية ومحتوى تدريبي للمعلّمين ومعلومات بحثية للمهتمين بالبحوث العلمية المنشورة والمتعلّقة بتعليم اللغة العربية، مما يدعم التزام الجامعة بتحسين مستوى الإلمام باللغة العربية وأساليب تدريسها. وتتيح المنصة أدوات تعليمية ذكية مثل “سرد” لتشخيص مستوى القراءة باللغة العربية، والتي تساعد المعلمين في تقييم القراءة المبكّرة لدى الطلبة وتخطيط التدخلات اللازمة. كما تتضمن المنصة معلومات عن مشروع “بارِق”وهو مشروع يموله مركز أبو ظبي للغة العربية ونعمل عليه بالتعاون مع جامعة نيو يورك أبو ظبي حيث الذي يعمل على تصنيف مقروئية النصوص العربية من خلال قاعدة بيانات تشمل 10 ملايين كلمة من مختلف الأجناس الأدبية والعلمية.
وفي هذا السياق، صرّحت معالي شما بنت سهيل المزروعي، وزيرة تنمية المجتمع ورئيسة مجلس أمناء جامعة زايد، قائلة: “نؤمن بأن المستقبل هو امتداد حضاري لهويتنا وثقافتنا، ومنصة ‘زاي’ تعكس التزامنا الراسخ في الارتقاء بالتعليم وتعزيز اللغة العربية، فهي نبض هويتنا الأصيلة. يتمثل دورنا في تمكين المعلمين وإعداد أجيال متجذرة في هويتها العربية، ليتولوا من بعدها مسؤولية بناء مستقبل يليق بطموح دولة الإمارات.”
تم تطوير منصة “زاي” من خلال تعاون مشترك مع مجموعة من الشركاء الاستراتيجيين من مختلف أنحاء دولة الإمارات والعالم، وذلك بهدف تعزيز قدراتها وتوسيع نطاق تأثيرها. وتعد دائرة التعليم والمعرفة -أبوظبي من أبرز المساهمين في إنشاء أول برنامج متكامل للصوتيات باللغة العربية، وهيأول خطوة نوعية في ذلك المجال.
وأضافت الدكتورة هنادا طه ثومور، أستاذة كرسي اللغة العربية بجامعة زايد ومديرة مركز (زاي) لتعليم اللغة العربية: “إن جوهر كل تجربة تعليمية ناجحة يعتمد بشكل كبير على المعلمين المتميزين الذين يسهمون في بناء أجيال قادرة على التفكير والإبداع. ومنصة ‘زاي’ تشكل أداة أساسية لكل معلم يسعى لتعزيز مهارات القراءة لدى الطلبة، وتنمية قدراتهم اللغوية، وإلهامهم لاستكشاف غنى وعمق اللغة العربية. نحن جميعًا نتحمل مسؤولية جماعية في نقل لغتنا وثقافتنا للأجيال القادمة، لضمان استمرار تأثيرها في عالم يشهد تغيرات سريعة.”
وتتماشى جهود منصة “زاي” مع المبادرات الوطنية، بما في ذلك تركيز دولة الإمارات على تعزيز المهارات اللغوية العربية منذ سن مبكرة. وتسهم المنصة في تطوير أدوات وإطارات عمل تتجاوب مع احتياجات المعلمين والمتعلمين المتزايدة، مما يسهم في تحسين تعليم اللغة العربية على الصعيدين المحلي والعالمي.
تمثل هذه المنصة خطوة جديدة نحو تغيير كيفية تدريس وتعلم اللغة العربية، حيث تمكن المعلمين والطلبة من الوصول إلى أدوات تعزز مهاراتهم وترسخ ارتباطهم الدائم باللغة العربية.