الإسلاميون التقدميون في تونس.. أول انشقاق فعلي في جسم الحركة الإسلامية
تاريخ النشر: 27th, February 2024 GMT
كان ظهور "الإسلاميون التقدميون" في المشهد العام في مطلع السبعينات بتونس حدثًا لافتا، لا للإسلاميين فقط بل للساحة الثقافية والإعلامية. فالحركة الإسلامية التي سمّت نفسها ب" الجماعة" ساعتها، في أوجه استقطابها ومدّها. فكان اعلان هذه "المجموعة" عن نفسها هو بمثابة أوّل انشقاق تشهده الحركة الإسلامية و "أوّل خروج عن الإجماع " وأوّل اختبار لها.
ما هي أسباب هذا الخروج؟ هل الاختلاف مع الجماعة كان حركيا تنظيميا أم عقائديا فكريا؟ هل طرحوا أنفسهم بديلا عن جماعة منغلقة تنظيميا ومتعصّبة عقائديا؟ هل هم حركة سياسيّة أم مجرّد فرقة ذات توجّه فكري مغاير؟ هل هم أفراد التقوا على نفس السّمت أم شكلوا تنظيما موازيا؟ ماهي مراجعهم الفكرية وما هي علاقتهم ب"اليسار الإسلامي" الذي ظهر في مصر؟ لماذا اختاروا هذه التسمية؟ هل أصلوا أطروحاتهم في " التراث الزيتوني"؟ كيف كانت علاقتهم بالسلطة السياسية: مهادنة ومسايرة أم اجتنابا وغضّ طرف؟
توجّهنا بكلّ هذه الأسئلة إلى "أب" هذه الجماعة الدكتور احميده النيفر في حوار صريح وشجاع. ولكن قبل هذا نحاول الإحاطة بظاهرة الإسلام التقدمي باعتبارها أحد التنويعات في التيار الإسلامي عموما.
أسباب الظهور ودواعيه
تعود الأسباب المباشرة لظهور ما يسمّى بـ"اليسار الإسلامي" ـ ولا يختلف عنه الاسلاميون التقدميون في شيء إلا في التسمية وسنرى ذلك في الحوارـ إلى الفشل الذريع في تحقيق أهداف الأمة من تقدّم وترقٍّ وتحديث نظرا لقصور المشاريع الوطنية والليبرالية والدينية والاشتراكية عن النّهضة الحقيقية. صار لزاما إذن تجاوز هذه الأطروحات إلى تركيب فكري آخر يجمع بين عناصر التراث والحداثة دون الوقوع في مثالب هذه أو تلك.
بدأت لبنات هذه الأطروحة تتجمّع في مجلّة "المسلم المعاصر" التي ظهر أوّل عدد لها في أبريل من سنة 1975 وشهدت حوارات ساخنة حول هذه المسألة. وممّن شارك في هذه المحاورات الفكرية رضا محرم وفتحي عثمان وسيف الإسلام محمود وخاصّة حسن حنفي. ويمكن ارجاع هذه "اليسارية" إلى ما سمّاه رضا محرّم ب" سيادة الفكر والتنظيم لليسار" وعليه "فإنّ جمع المسلم المعاصر بين صفتي "المسلم" و"اليساري" تصبح ظاهرة طبيعية بل وتصبح ظاهرة لا بدّ منها حتى لا تصيبه حالة فصام حضاري".
زد على هذا القوّة الذاتية والموضوعية لليسار التي " تضمن له النجاح في دنيا الواقع وترتّب له الامتداد في رحم المستقبل". ويضيف حسن حنفي " اليسار الإسلامي نتيجة حتمية لنجاح الثورة الإسلامية الكبرى في ايران" كما أنّه "تطوير للإصلاح الديني". (حسن حنفي :ما هو اليسار الإسلامي؟)
أمّا عن أهداف هذه الحركة الفكريّة فيمكن تلخيصها في: النقد الذاتي للحركة الإسلامية بروح الناقد المخلص لا روح العدوّ ووضع استراتيجية لحركة لا تملك بدائل وتكتفي بما هو أخلاقي فقط واحياء الجوانب الثورية والعناصر التنويرية في التراث واطلاق حوار مع سائر الاتجاهات من ماركسية وقومية وليبرالية لتجاوز التناقضات الظاهرة وأخيرا اقامة مجتمع اسلامي لا "المجتمع الإسلامي" لأنّه حسب رأيهم متعدد ولا يوجد نموذج له أو مثال للاحتذاء.
الخصائص الفكرية لليسار الإسلامي
يمكن أن نقف على الخصائص الأهمّ لهذا الفهم الجديد للإسلام بشكل مختزل وتتمثّل في أربع مسائل أساسيّة:
ـ نظريّة المعرفة وتعني علاقة المثلّث: الوحي/العقل/الواقع وتفاعل عناصره فيما بينها. فالوحي له مهمّة انشاء مجتمع الانسان/الخليفة من خلال امتزاجه بالعقل والواقع لصياغة الشريعة التي هي المقاصد من وراء كلّ وحي يوحى. وهذا يقود حتما لمعاداة "منهج النّص" في الفهم السلفي باعتباره سابقا على الواقع والعقل. فيرون أنّ النّص برهان خارجي والواقع يقين داخلي. فلا يستقيم الأمر عندئذ إلاّ بإعادة ترتيب الأولويات. يقول حسن حنفي في كتابه "التراث والتجديد": "فلا سلطان إلا للعقل ولا سلطة إلا لضرورة الواقع الذي نعيش فيه"( ص 57)
ـ الموقف من التراث: هو موقف نقدي تاريخي وذلك بأخذ مسافة عنه: فلا هو بالمقدّس عندهم ولا أيضا بالمرفوض جملةً. حسبهم منه احياء الجوانب الثوريّة والتقدميّة والتنويريّة. ويجدون في تراث المعتزلة سببا ووتدا لرؤيتهم العقلانيّة. وهذا يجرّ بالضرورة إلى التجديد على مستوى اللغة التي تلبّست بالخطاب اللاّهوتي الديني وشحنها بالعبارات المعاصرة مثل الحداثة والتقدم والجماهير والتحرر... وعلى مستوى الأفكار بالتخلّص من التمركز حول الله إلى التمركز حول الانسان.( ص140)
ـ الفهم المقاصدي للشريعة: ويعنون به أنّ الشرائع بمقاصدها العليا ذات الأولوية تمثّل مبادئ ثابتة. وهي خمسة: الانسانية، العدل الاجتماعي، الحرية، المبدئية، التقدّم. وعلى رأس هذه ما يسمونه "المصلحة " كأداة تشريعية أولى، قالبين بذلك ترتيب علماء أصول الفقه في التشريع.
ـ الانتماء السياسي للمسلم: يرى الإسلاميون التقدميون أنّ المسلمين لم يكونوا يوما فرقة واحدة ولا اتجاها فكريا واحدا فوجب إذن اختيار انتماء مهما كان دون نزع صفة "المسلم" عن صاحبها سواء كان يمينا أو يسارا. ولهذا يرفضون مقولة "الحاكمية لله" التي تصبغ السياسة الدنيوية بالصبغة الدينية المتعالية فلا حرج عندئذ من تبنّي "العلمانية" التي تمثّل "استرداد الانسان لحريته " ( التراث والتجديد ص 71)
إنّ الناظر لهذا الفهم وأهله وبقطع النّظر عن الموقف "الانفعالي" منهم ل "شقّهم صفّ الجماعة" أو ممّن سمّاهم راشد الغنّوشي ب" المتساقطون على الطريق"، فإنّه هو نفسه يقرّ بفضلهم في تأسيس خطّ نقدي داخل الجماعة وإعادة النظر في الأدبيات الإخوانية وتطوير النّظر إلى المختلف والمغاير من بقية السرديات الكبرى.
د. احميده النّيفر:
هو كاتب ومفكر تونسي وأستاذ جامعي متخصص في أصول الدين والفكر الإسلامي المعاصر.حاصل على الدكتوراه في الدراسات الإسلامية من جامعة السوربون بباريس، فرنسا، سنة 1970م، وعلى دكتوراه الدولة في العلوم الإسلامية، جامعة الزيتونة 1990م، تخصص أصول الدين. له مجموعة من الأبحاث والدراسات المنشورة التي تعنى بسؤال التجديد من بينها: "مختصر تفسير المراغي" و"التفاسير القرآنية الحديثة: قراءة في المنهج" و"بين القصر والجامع: إضاءة على المؤسسة الدينية الأندلسية". وهو عضو بالمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون "بيت الحكمة" ورئيس رابطة تونس للثقافة والتعدد. ويُعتبر هو الأب المؤسّس ل"الإسلاميون التقدميون في تونس" من خلال رئاسة تحرير مجلّة "15 ـ 21".
في مكتبته المرتّبة الأنيقة، استقبلنا محتفيا ودار حوار حول أسئلة لا تزال حسب اعتقادي معلّقة. فقد بدأ الحديث من حيث لم نحدّده حول "الأستاذ راشد الغنوشي" الذي اعتبره حداثيا ولم يكن يوما سلفيا في رؤيته. وله قابلية فكرية لتبنّي المنجز الحداثي في المؤسسات والمفاهيم العقلانية. وعن الاختلاف الذي وقع معه ومع الجماعة الإسلامية وبداية ظهور الإسلاميين "الجدد" أجاب سي احميده أنّ الحركة الإسلامية في تونس قد وُلدت ب"ثلاثة رؤوس" وهم: راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو واحميده النيفر. ولئن كان ثلاثتهم متديّنين التقوا في المساجد في سياق "الصّحوة الإسلامية" في السبعينات، فإنّهم كانوا في الحقيقة بتوجّهات مختلفة ووجهات نظر متباينة: كان عبد الفتاح مورو أميل للخطابة والدعوة يرى أنّ مناط الجماعة هو جعل الإسلام شاملا للحياة عامّا وأنّ أهمّ أدوارها هو اقناع الناس بالعودة إلى التديّن وريادة المساجد.
وأمّا راشد الغنّوشي فقد كان منشغلا أكثر ببناء تنظيم ذي مرجعيّة إسلاميّة والمشاركة السياسية القانونية المباشرة في معركة "التأصيل والتغريب" وأنّ الحركة منتدبة لتلك المهمّة، غير أنّ احميده النيفر كان معنيا أكثر بالتكوين الفكري والعقائدي. لهذا حين توجّه باسم التنظيم الجديد إلى مصر تقريبا سنة 1973 بدعوة من الإخوان المسلمين وجد أنّهم "متشنّجون" بعد خروجهم من سجون عبد النّاصر يحملون رؤية منغلقة لمجتمعهم ورافضين لفكرة الحزب السياسي "لأنّ الإسلام أوسع من الأحزاب" ولمّا دُعيَ للبيعة رفض ذلك في الوقت الذي قَبِلها محفوظ النّحناح مؤسّس حركة مجتمع السلم بالجزائر.
وبسؤاله "عمّا حدث" أشار محدّثنا إلى أنّ الاختلاف مع الجماعة قد بدأ يتفاقم خاصّة بعد عرض مجموعة من الأحاديث والمقتطفات من الكتب التي كانت تركّز على "فهم معاصر وحداثي للإسلام" لترويجها داخل الحركة فوجّهها رئيس التنظيم لعبد المجيد النّجار الذي رفضها دفعة واحدة. وبدا له أنّ التوجّه التّراثي قد غلب على الجماعة وضاق عليه تنظيم شمولي شبيه بالأحزاب الحديدية. فكان الخروج عنه هو الخيار الوحيد الممكن. سألناه عن محاولات رأب الصدع والتوسّط في الخلاف فأجاب :" حرص البعضُ على الوساطة ورأب الصدع لمدة أشهر عبر لقاءات حوارية متعثرة. ما تحقق من هذه المحاولات هو اتساع الخرق على الراقع لِما كشفته تلك اللقاءات من تعذر التوصل إلى قدر من التوافق يسمح بالعودة إلى عمل جامع."
فيما يتعلّق بمرجعيّات هذا الفهم الجديد، أكّد سي احميده أنّ متابعته لحوارات مجلّة "المسلم المعاصر" وبعد هذا، ظهور كتب توسّع من هذا الفهم الحداثي للإسلام خصوصا كتب حسن حنفي : من العقيدة إلى الثورة والتراث والتجديد وغيرهما، رأينا أنّنا على طريقة واحدة. وكان علينا بعد ذلك أن نلتفت إلى "مراجعنا الزيتونيّة" فوجدنا في كتب محمد الطاهر بن عاشور مثل مقاصد الشريعة الإسلامية وأصول النظام الاجتماعي في الإسلام ما يؤكّد توجّهنا وفهمنا. "ولكنّكم آثرتم تسميّة (الإسلاميون التقدميون) على اليسار الإسلامي" فأجاب أنّ هذا ما يميّزهم عن المشارقة: فلئن كانوا يتبنّون مقولات اليسار الإسلامي إلاّ أنهم جعلوا صفة الإسلام أسبق على التقدّم واليساريّة لأنّهم يرون أنّ الأصل هو الإسلام بدلالته الدينيّة والحضاريّة وما سواه مُستمدٌ من مبدإ الاستخلاف المستحضِر لمداه التاريخي الانساني.
وعن امكانيّة تكوين حزب سياسي قال: "موضوع تكوين حزب سياسي كان غير مطروح بالمرّة لأن اهتمامنا كان بالأساس هو إنشاء تيار فكري كان يعمل على تقديم إجابات عن قضايا عقدية وتاريخية وفقهية موقوفة أو مسكوت عنها. عندما وقع الانفصال عن الجماعة كان الهدف تخطّي عناصر السردية السائدة التي صرنا نراها سببا لعجز الحركة عن المعاصرة والتقدم."
سألناه عمّا أضافت مجلّة 15 ـ 21 أجاب: "بمجلة 15 ـ 21 أمكننا القيام بجملة اختبارات لفرضية الرهان على انخراط فكري حضاري واع للمسلم في قضايا العصر الحديث ومعارفه. السؤال المطروح الذي سيصاحب المجلة ويدفع القُرّاء لحمل قلقنا الحضاري والوجودي والمتعلق بالآخر وبالذات: الآخر المختلف، كيف يمكن عدُّه، من الداخل الثقافي، مدخلا نموذجيا للوعي الذّاتيّ؟ وللذات بتفاعلها مع الآخر المختلف كيف تصبح أقدر على الإضافة الفكرية والثقافية والاجتماعية والقيمية محليا وإنسانيا؟ في كلمة، المجلة عملت على بناء سمتٍ ثقافي جديد للإسلام في تونس وفي المجال العربي شعاره: أنت لن تكون أنت حتى تكون الآخر".
وفي الأخير كان لابدّ من سؤال يقيّم من خلاله حركته الأمّ فكان جوابه :"تواجه حركة النهضة تحديا مصيريا يتطلب منها مراجعات فكرية وعقدية عميقة مع ضرورة تقييم لمسيرتها الممتدة خاصة منها ما خاضته في العشرية التي تلت ثورة 2011. أعقد ما في هذه المراجعات وأوكدها هو بناء وعي جديد مدرك أن عموم الحراك الإسلامي الاحتجاجي والسياسي مُنتَج غربي لم يَسْتَبْقِ من إسلام الثقافة والحضارة ومكوناته الرمزية والاعتقادية والأخلاقية والإنسانية والتي تتشكّل باختلاف الأزمنة والنظم الإنتاجية والسياسية إلا العنوان واللبوس والطقوس."
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير حوار الاسلاميون تاريخي تونسي تونس تاريخ حوار اسلاميون أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الحرکة الإسلامیة هذا الفهم فی تونس
إقرأ أيضاً:
اختراق الإخوان للحركة الطلابية.. تاريخ من استغلال قضية فلسطين واللعب على المشاعر الدينية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
نظرت جماعة الإخوان الإرهابية بحقد شديد للكتلة الطلابية فى الجامعة المصرية، وتربصت بها فى وقت مبكر، لما لهؤلاء الطلاب من أهمية كبيرة، فهم وقود الثورات، والمحزون النشط لأي حزب سياسي قوي، والرقم الأصعب فى أى معادلة سياسية.
وبحسب وصف الراحل فكرى أباظة فإن التنظيمات الطلابية كانت جيش الوفد، لذا أرادت الجماعة الوليدة آنذاك أن تدخل عالم الجامعة وتخترق صفوف الطلبة وتسحبهم إلى عالمها لينقضوا على حزب الوفد، الحزب الشعبى الأقوى أمام الملك وضد الإنجليز.
فكرى أباظةوحول ظروف نشأة جماعة الإخوان، رأى المفكر الراحل طلعت رضوان، أن الجماعة تمثل بامتياز نموذجا للوعي الزائف والحل السحري لعودة المحتل الأجنبي، ويعتقد "رضوان" أن نمو الوعي القومي في أعقاب ثورة المصريين 1919 شكلَّ خطرًا كبيرا على الوجود الإنجليزي في مصر، ما دفع المحتل للبحث عن حلول سحرية لمواجهة مثل هذا الوعي بوعي بديل زائف يمكن تغذيته لضمان وجودهم وشعورهم بالأمان، فكان الحل في دعم جماعة الإخوان لتمكين شعارات الانتماء للدين بدلا من الانتماء للوطن الذي يسهل معه الجمع بين كل طوائف الشعب في هدف واحد.
طلعت رضوانكرست جماعة الإخوان الإرهابية بمساعدة بقية التيارات المتطرفة دورها فى اختراق الجامعات وإفراغ الحركة الطلابية من دورها الوطنى، واستغلت التجمعات الطلابية لبث أفكارها، وتجنيد الطلاب الذين جاءوا للجامعة من مناطق بعيدة، لضمان انتشار أفكارهم لكل مكان في ربوع الوطن، خاصة وأن هؤلاء الطلبة هم الذين يتولون الوظائف والمناصب في الدولة.
وفى الوقت الذى نادى فيه طلاب حزب الوفد مثلا بالعودة لدستور ١٩٢٣ ورفض دستور ١٩٣٠، فإن أعضاء الجماعة يتظاهرون أنه لا دستور إلا القرآن، وهى محاولة لضرب الحركة الوطنية التى تحرز مكتسبات وترفض التفريط فيها، لصالح نقل المعركة إلى ساحة أخرى وأن تكون المعركة حول القرآن فتضيع المكتسبات، وتخطو الحركة الوطنية مع الجماعة آلاف الخطوات إلى الوراء.
وفى اللحظة التى يهتف فيها الطلبة للوفد أو للحياة النيابية بتنوعها نلاحظ طلاب الإخوان يرفعون شعار حسن البنا المؤسس والمرشد الأول للجماعة وهو «لا للحزبية»، وهو شعار يروجه لضرب الحياة الحزبية وقطع الطريق أمام أى مكتسبات ديمقراطية لتكون فى صالح الحزب الواحد.
والملاحظ لتاريخ الجماعة، فإن مرشدها الأول نادى بحل الأحزاب، وهي المتنفس الصحي للمشاركة في الحياة السياسية في الأنظمة الديمقراطية، إنما نادى بحلها لصالح الحزب الواحد، والملاحظ أيضا حاليا أن الجماعة انقلبت على أفكار مؤسسها، وأصبح للجماعة حزب أو أكثر في كل دولة، وهو المنطق النفعي الذي تعمل به الجماعة الإرهابية دائما.
استغلال القضية الفلسطينية
ويستطيع المراقب لنشاط وتاريخ الجماعة أن يلمس انتهازيتها ببساطة وطريقها لتخريب الجامعات وتفريغها من دورها العلمى والوطنى وإبطال مفعولها وتحويل طلابها لكتائب غاضبة وحاقدة مستعدة للمشاركة فى المظاهرات وتنفيذ مطالب الجماعة لاستغلالهم فى الصفقات السياسية، وللمزيد من الأضواء حول طريق جماعة الإخوان فى اللعب بمشاعر الطلبة وتحويل قضاياهم لقضايا شكلية، ومن معركة حول تحرير الوطن والنهوض به إلى معركة حول استعادة الخلافة ونصرة الإسلام، والتكريس فى ذهن الجموع باستمرار أن هناك قوى تتربص باستمرار بالإسلام لتقضى عليه مما تجعله مستعدا ومتحمسا للمشاركة فى الجهاد والدفاع عن الإسلام ونصرته، فى تجاهل تام للأوطان التى تسقط سريعا بمثل هذه الأفكار فى يد هذه الجماعات المتطرفة والعميلة.
فى كتابه «الإخوان أحداث صنعت التاريخ»، يعترف مؤرخ جماعة الإخوان محمود عبد الحليم أن تأثيرهم فى طلاب الجامعة كان محدودا للغاية وغير مقنع، فالطلبة لم يستجيبوا للشعارات الكاذبة التى أطلقتها الجماعة حول ما أسموه بـ«الفكرة الإسلامية» وهو مصطلح يحبذون استخدامه للتعبير عن مجمل أفكار ومشروع الجماعات الإسلاموية.
يحكى عبدالحليم، أنه بمشاركة آخرين توجهوا لإدارة كلية الزراعة وكان طالبا بها، للمطالبة بتجديد فرش المُصلى للطلبة لما بها من حصير متهالك.
كما طالبوا بإنشاء مساجد فى الكليات وأولها كلية الآداب، وغير المطالبة بالمساجد تمسك الإخوان بالحديث باستمرار عن القضية الفلسطينية فوجدوا التفاتا شديدا من الطلبة وغير مسبوق مما دفعهم إلى الإطالة والتمسك بموضوع فلسطين لما وجدوه فيها من حيلة وخدعة تنطلى على الطلبة، وهو ما يلفت إليه مؤرخ الإخوان محمود عبدالحليم بقوله إن الإخوان اختصروا كثيرا من الوقت لمجرد أن رددوا هتافات من أجل فلسطين، ولم تختصر فى رأيه الزمن لانتشار الإخوان داخل الجامعة فحسب بل وفرت عليهم الكثير من الخطب والمحاضرات التعريفية.
وقال: «لو ١٠٠ خطيب راح يشرح معانى الفكرة الإسلامية والإخاء والجهاد للناس لما كان له تأثير مثل خطب الجمعة عن بيع فلسطين وواجب إنقاذها وجمع التبرعات لها».
وقفزا إلى الأمام، تاركين مرحلة التأسيس مع حسن البنا وطلاب الجامعة فى مرحلة مبكرة، لنلاحظ بعض الأمور التى استقرت وتكرست بشدة فى ذهن أعضاء الجماعة وهى سحب بساط الطلبة من تحت أقدام أى فكر وطنى أو قومى لصالح فكر يبحث عن القضايا التى لا طائل منها، وهى حماسية وتلعب على المشاعر وليست حقيقية أبدا، فلقد عملت على المطالبة بإنشاء أماكن للصلاة وهتفت فى قضية فلسطين لأنها اكتشفت أن مثل هذه الأمور تزيد من التفاف الطلاب حولها وتختصر لها الوقت اختصارا.
استغلال الطلبة في الصراعات والمؤامرات
حاولت جماعة الإخوان أن تحرج الرئيس جمال عبدالناصر بإطلاق الشائعات وبثها بين الطلبة وبين الفئات الشعبية المحبة للزعيم ناصر، فقالت إنه جعل الإنجليز يحتفظون بقاعدة عسكرية في السويس لضمان عودتهم، ووقفوا يبثون الشائعات ضده أثناء المفاوضات مع الإنجليز، فكانوا ضد الجلاء، وادعوا أنهم يفضلون الكفاح المسلح.
ثورة 30 يونيو ساهمت في تخليص مصر من اختراق الإرهابية للجامعات
ووسط الصراع الدائر بين الجماعة من ناحية وبين الضباط الأحرار من ناحية، جرى تجنيد واستغلال الطلبة ضد المشروع الناصري آنذاك، ولم يشغلهم أن يطلقوا المزيد من الأكاذيب والشائعات لضمان إحراج ناصر أو الوصول إلى السلطة.
شرح علي عشماوي، قائد التنظيم الخاص والمنشق عن الجماعة لاحقا، في كتابه "التاريخ السري لجماعة الإخوان المسلمين" كيفية استغلال الجماعة لمفاوضات الجلاء من أجل إحراج ناصر، قائلا: "الواقع أن اختلاف الإخوان في هذا الأمر (يقصد الجلاء) كان نابعًا من إحساسهم بخروج عبدالناصر ومن معه على قيادتهم، وقد تم اختيار هذا الموضوع ليكون سببا للصدام لما له من ثقل وطني في حس الناس، مما يعطي للإخوان تأييدًا شعبيًا في صدامهم مع رجال الثورة".
وأضاف: "بدأت المنشورات توزع على الإخوان في الشُعب وفي أماكن تجمعهم تشرح الخلاف من وجهة نظر الإخوان، فقد كانوا يرون أن احتفاظ الإنجليز بقاعدة قناة السويس هو بيع للقضية وأن الإخوان يفضلون الكفاح المسلح".
في مذكرات عشماوي، يلاحظ القارئ الشائعات التي أطلقتها الجماعة بعد مظاهرات عابدين فبراير 1954، منها أن الحكومة تنوي اغتيال المرشد العام، فوضعت الجماعة حراسة له.
المفكر طلعت رضوان: الجماعة نموذج للوعي الزائف والحل السحري لعودة المحتل الأجنبي
تحدث عشماوي تفصيليا عن خطة الصدام ومؤامرة الإخوان لتنفيذ انقلاب دموي يطيح بمجلس القيادة يتمثل في: أولا، تأمين الجيش عن طريق بعض الإخوان الذين كانوا في الخدمة ولا يعلم بهم عبدالناصر، وكان على هؤلاء واجب تحييد الجيش فقط والتأكد من عدم تحرك وحدات أخرى لقمع الحركة الشعبية المخططة. ثانيا، القبض على بعض الشخصيات المهمة والتي لها ثقل عند الصدام، وإذا لم يتمكن من القبض عليهم هناك خطة بديلة لاغتيالهم. ثالثا، قيام جميع الإخوان على مستوى الجمهورية بالاستيلاء على أقسام البوليس والمباني المهمة كلٌ في حدوده مستعينا بأقل عدد من الإخوان المدربين. رابعا، تقوم المجموعات الوافدة إلى القاهرة بالانضمام إلى إخوان القاهرة في عملية الاستيلاء على المباني الحكومية ذات التأثير مثل مبنى الإذاعة، أقسام البوليس، قطع الطرق المؤدية من ثكنات الجيش إلى داخل القاهرة، قطع الطرق الداخلة إلى القاهرة من جهة الإسماعيلية. خامسًا، حصار الطلبة بعد مظاهرات مسلحة للقصر الجمهوري والاستيلاء عليه.
وفي النقطة الأخيرة تجدر الإشارة لانتفاخ الجماعة بعد المظاهرات التي وقفت أمام قصر عابدين ولم تهدأ إلا بعد استعانة الرئيس محمد نجيب بعبدالقادر عودة، أحد قيادات الجماعة، الذي لمحه في الصفوف يلوح بقميص ملوث بالدماء، هذه الحادثة أشاعت وسط الإخوان أن هذه اللحظة كانت فرصة للانقضاض على القصر وإلقاء القبض على مجلس قيادة الثورة، ومن ثم الانفراد بالسلطة، ما سيجعلهم يفكرون بجدية في استعادة هذه الفرصة مجددا.
توحش طلبة الإخوان
وبالقفز إلى مرحلة السبعينيات نلاحظ فى كتاب «عبد المنعم أبو الفتوح شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية فى مصر» لمؤلفه حسام تمام، فإن أبو الفتوح يحقد لكون الجامعة فى هذه الفترة كانت مليئة بالتيارات القومية والناصرية واليسارية، هى التى تسيطر على الجامعات واتحادات الطلاب فيها وكانت أفكار هذه التيارات خاصة اليسارية بمثابة الصدمة لى ولأمثالى من الشباب البسيط المتدين.
ويروج أبو الفتوح فى شهادته لهذه الصدمة، ويزعم أن هذه التيارات كانت تتعمد العداء للإسلام والسخرية منه وسبه ومثل هذه التهم التى هى من عادة جماعة الإخوان أن تلصقها بأى تيار مخالف لها مهما كان موقفه من الدين، فيقول إن "مجلات الحائط التى يعلقها اتحاد الطلاب تنتقد الإسلام وتخوض فيه بجرأة". وهذا الزعم أيضا يؤيد فكرة تجييش الشباب لما يسمونه بنصرة الإسلام وما هو إلا هجوم على أحزاب مخالفة أو عقد صفقات سياسية.
ويعترف أبو الفتوح أن اللقاء بين تيار الإسلاميين فى الجامعة وشباب التيارات الأخرى ينتهى بفوز الشباب، فيوضح: «كان أن تصادمنا مع اليساريين والشيوعيين فى حوارات كنا الذين ننال الهزيمة فيها غالبا نظرا لثقافتنا القليلة السطحية وعدم خبرتنا بالحوار والجدل النظرى فلم تكن لدينا القدرة على الرد أمام القضايا التى يثيرها هؤلاء الطلاب المثقفون المدربون جيدا على مثل هذه المناقشات».
من ضمن اعترافات أبو الفتوح، ما قاله عن اللجنة الفنية: «هدفنا من الترشح للجنة الفنية والفوز بها هو إيقاف المنكر والانحلال الذى تبثه بين الطلاب ومن ثم عطلنا عملها بمجرد أن فزنا بها، ولا أتذكر لها نشاطا يذكر لسنوات حتى بدأنا وقتها بالأناشيد الثورية والجهادية».
وهكذا فقد كرست جماعة الإخوان الإرهابية بمساعدة بقية التيارات المتطرفة دورها فى اختراق الجامعات وإفراغ الحركة الطلابية من دورها الوطنى والعلمى لصالح الجماعة التى انطلقت لتمكين مشروعها التدميرى لا فى الجامعة فحسب، بل فى الوطن ككل وفى كامل المنطقة، وهو ما استطاعت مصر أن تتخلص منه مع ثورة الثلاثين من يونيو فى العام ٢٠١٣، كى تستعيد عافيتها مجددا بعيدا عن فصيل متواطئ لا يرضى بغير الخراب والتدمير.