في روايته الصادرة في طبعتها الأولى عام 1978 يحدثُنا يوسفُ القعيدُ عن حادثةٍ فريدةٍ لحرب أكتوبر عام 1973، إذ يَصدر حكمٌ قضائيٌّ باستعادة عُمدة إحدى القُرى في ريف مصر أرضَه (100 فدان) التي صادرَها الإصلاح الزراعي الذي أسسَه نظامُ ثورة يوليو، وفي ليل اليومِ نفسِه ترِد إشارةٌ بضرورة أن يسلِّم ابنُه الأصغرُ نفسَه للتجنيد في الجيش المصري.

وحيثُ إنّ هذا الابنَ وحيدُ أمِّه التي هي آخر زوجات العُمدة وأصغرُهن، ولأنها الوحيدة المطّلعة على سِرّ معاناة زوجِها العُمدة في العلاقة الحميمة بعد خضوعِه لعملية استئصال الـبروستاتا، فهو يخشى أن يفجعها بتسليم الشابّ إلى التجنيد رغم اقتناعِه بأنّ الجيش هو السبيل الوحيدة لإصلاح حال الابن المُترَف المتسيِّب الخائب في التعليم النظامي.

هكذا يستمع العمدة إلى مشورة كاتبِه ويذهب معه إلى شخصٍ مشهورٍ بتخطيط العمليات المخالفة للقانون وتنفيذِها، يسمونَه (المتعهِّد). ويتفتق ذهن هذا الأخير عن خُطّةٍ مُفادُها أن يفتديَ العمدة ابنَه بشابٍّ آخر من القرية مولودٍ معه في اليوم نفسِه، يسلِّم نفسَه إلى التجنيد بصفتِه ابنَ العُمدة، على أن يختفي ابنُ العمدة الحقيقي عن الأنظار حتى يمُرَّ الأمرُ بسلام. ويقع الاختيارُ على (مصري) ابن الخفير الذي أُحيلَ حديثًا إلى الاستيداع، وهو شابٌّ وحيدٌ له خمسُ أخَواتٍ، ومن ثَمّ فهو مُعفَىً قانونًا من التجنيد، إلا أنه قد فكّرَ مِن قبلُ في أن يتطوّع في الجيش ليخففَ عن كاهلِ أبيه مشقّةَ كفالتِه. المهمُّ أنّ الصفقةَ الغريبةَ غيرَ المشروعةِ تنعقِد بين العمدة وخفيرِه على أن يُجنَّدَ (مصري) باسمِ ابنِ العُمدةِ وبدلًا منه، مقابلَ أن يَترُكَ العمدة للخفيرِ الأفدنةَ الثلاثةَ التي في حوزتِه والتي له الحقُّ في استردادِها بالقوّة، فضلًا عن تعيينِه خفيرًا شخصيًّا له رغمَ بُلوغِه سنَّ التقاعُد، براتبٍ لا بأسَ به.

تتطور الأحداثُ ونَشهدُ مصاعبَ تأقلُم (مصري) مع هُويّتِه المزيَّفة في الجيش، فهو لا يرُدُّ بسهولةٍ إذا ما نُوديَ باسمِ ابن العُمدة. تحينُ لحظةُ الصِّفر ويَعبر الجيش المصري قناةَ السويس ويُستشهَد (مصريٌّ) أثناء قيامِه بواجبِه في سلاح الخدمات الطبّيّة، وهنا يشعُر صديقُه الوحيدُ الذي أطلعَه على سرِّه في الجيشِ بضرورة أن يتلقى مصريٌّ وأهلُه الحقيقيون التكريمَ اللائقَ باسمِ الشهيد، فيُصرُّ على مرافقة عربة الجيش التي تنقلُ جثمانَ (مصري) إلى قريتِه، ليواجهَ ومعه الضابطُ ورطةَ الهويّتَين. ولأنّ العُمدةَ (مسنود) من شخصيات مهمّة في البلد، يُجبَر المحقِّقُ ذو الضمير اليقظ على إغلاق ملفّ التحقيق في هذه الواقعة، وتنتهي الروايةُ بموت الحقيقة وكمَد الأب الخفير الذي أسلمَ ابنَه للموتِ بدلًا من ابن العُمدة.


نظراتٌ في أسلوب الرواية ومضمونِها:
قسمَ أديبُنا (القعيدُ) الرواية إلى ستة فصول تروي كلًّا منها إحدى الشخصيات بلسانِها، فلدينا (العمدة، والمتعهد، والخفير، والصديق، والضابط، والمحقِّق). أنطقَهم جميعًا بفصحى موحَّدَةٍ متحررةٍ من زخارف البَيان تحررًّا يكادُ يكونُ كاملًا، واغترفَ من الأمثال العامية الشائعة والأقوال المأثورةِ في ريفِ مصر ما شاء، مفصِّحًا إيّاها بحيثُ يبدو النسيجُ اللغويُّ متجانسًا تماما. ولا نكادُ نجدُ فوارقَ مهمّةً في أسلوب حديث أيٍّ من الرُّواة الستة. وهو خلالَ ذلك بالغَ في الاستتار خلفَ هويّاتِهم، فنجدُ منهم مَن يقولُ إنّ هذه الروايةَ بلا مؤلِّفٍ ليَضبط أقوالَه ويراجعَها، وهم جميعًا مدركون أنهم يقصُّون علينا فصولًا من الرواية، فنحن إذَن أمامَ أدبٍ أرادَ كاتبُه أن يُظهِرَه واعيًا بذاتِه.

ولا يَخفى أنّ أسماءَ معظم الشخصيات الرئيسة مُجهَّلةٌ عَمدًا، فالعمدة وابنُه والخفير والمتعهد والصديق والضابط والمحقق بلا أسماء، وكذلك القرية التي تدور فيها الأحداث، وإن كان أديبُنا يّذكرُ (إيتاي البارود) بوصفِها المركزَ الذي يذهب إليه مع كاتبِه للقاء المتعهِّد، ما يَشي بأنّه ربما جعلَ قريةَ (الضهرية) التابعة لمركز إيتاي البارود – وهي مَسقطُ رأسِه – النموذجَ الذي يتمثّلُه والذي يقبع في خلفية ذهنِه أثناء كتابة الرواية.

وأرى أنّ هذا التجهيلَ للشخصيات يضطلِع بعِدّة أدوار، فهو أوّلًا يَلفتنا إلى وقوف هذه الشخصيات رموزًا على طبقاتٍ اجتماعيةٍ معيَّنةٍ، فالعمدةُ رمزٌ لكلِّ صاحب سُلطةٍ جائرٍ في مصر، والخفيرُ كلُّ موظَّفٍ حكوميٍّ مغلوبٍ على أمرِه لم يَعُد أمامَه إلا أن يقضيَ اليومَ الذي يعيشُه محاولًا أن يسُدَّ رمقَه وأرماقَ عيالِه بأية وسيلةٍ، والمتعهِّد هو كلُّ مَن انحرفَ بالصُّدفة عن جادّة القانون ثمّ استمرأَت نفسُه هذا الانحرافَ فاعتمدَ في كَسبِ قُوتِه على النفاذ من ثقوب القوانين، والضابطُ كلُّ شابٍّ مصريٍّ لا مُبالٍ مُنتَمٍ إلى الطبقة الوُسطى في المدينة، يحاولُ التخلُّص من الوقت الثقيل الذي فُرِض عليه قضاؤه في التجنيد بأقلِّ الخسائر الممكنة، وهكذا. والدور الثاني الذي يَقوم به هذا التجهيلُ هو التأكيدُ على إدانة الكاتبِ للمجتمَع، فليس ثَمّ من هو مذكورٌ باسمِه إلا (مصريٌّ)، وهو يقِف باسمِه المشحون بالعاطفةِ عَلَمًا على مَن يعتبرُهم كاتبُنا المصريين الحقيقيين الذين تحمّلوا وحدَهم عبءَ الدفاع عن أرض الوطن وبذلوا أرواحَهم في سبيلِها دون أن يحصلوا مقابلَ ذلك على أيِّ تكريم.

ومن اللافت في الرواية هذا الحَشدُ من الأوراق الرسمية التي يذكرُها المتعهِّد والضابط والصديق والمحقِّق، وكلُّها يمُتُّ بصِلةٍ إلى عملية تزييف الهُويّة أو استكشافِ هذه العملية، فضلًا عن كثرةِ النِّقاط المرتَّبة في أرقامٍ، والتي تعبِّر عن خُططٍ بعينِها، لتسليم جُثّة الشهيد إلى أهله كما في حالة الضابط، أو لإنجاز موضوع التزييف كما في حالة المتعهِّد. وفي تقديري أنّ هذا الحَشدَ من الأوراق والنِّقاط يُوحي إلى القارئ من طرفٍ خفيٍّ بهشاشة الإنسانية وضعفِها تحت وطأة عجلَة التحديثِ والضبط الحكوميِّ اللذَين حوّلا المُواطنَ إلى كومةٍ من الأوراق تتابعُ سيرورتَه من الميلاد إلى الوفاة، فكأنّ حقيقةَ الإنسان قد اختُزِلَت في تتابُع هذه الأوراق، ولا شيء وراءَها إلا العدَم. وإذَن فكاتبُنا يقدِّم لنا قسوةَ هذه العجَلة الحكومية وبرودتَها في التعامُل مع الإنسان، خاصّةً إذا ما زادَ الطينَ بَلّةً أنّ مَن بأيديهم الحَلُّ والعَقدُ أساؤوا استخدامَها وسيَّروها في مساراتٍ لا تَخدمُ إلا مصالحَهم.


عن النص السينمائي:
ظهر فِلم "المواطن مصري" عام 1991 من سيناريو محسن زايد وإخراج صلاح أبو سيف، وبطولة عمر الشريف في دور العمدة وعزت العلايلي في دور الخفير وعبد الله محمود في دور (مصري) وصفية العِمَري في دور زوجة العمدة المقرَّبة وإنعام سالوسة في دور أم مصري وأشرف عبد الباقي في دور الصديق وخالد النبوي في دور ابن العُمدة.

وأول ما يلفت الانتباه في النص السينمائي هو ظهور أسماءٍ للشخصيات المُجهَّلة، فالعمدة اكتسب اسمًا "عبد الرازق الشرشابي" والقرية "الشرشابية" والخفير "عبد الموجود المصري" والمتعهد "حمدان الويشي" والصديق "حسن" وابن العمدة "توفيق". هذا، فضلًا عن ظهور شخصياتٍ ثانويةٍ لعبَت أدوارًا متباينةَ الأهمية، فأصبح لدينا "نور أفندي" كاتب الجمعية الزراعية الذي جسَّدَه رشدي المهدي، وابنتُه "هنادي" التي جسّدَتها حنان شوقي، والتي هام بها (مصريٌّ) حُبًّا وكتبَ لها الرسائلَ أثناء تجنيدِه. بهذا الاختيار آثرَ أستاذنا محسن زايد أن يقدِّم نصًّا صديقًا للذائقة السائدة، فالمتوقَّع ألا يتجاوبَ الجمهور بسهولةٍ مع شخصيّاتٍ مُجهَّلةٍ تَفرض بتجهيلِها مسافةً بينها وبين المتلقّي. تلك المسافةُ الموجودةُ فعلًا في الرواية تُجبر القارئ على تأمُّل النصّ فكريًّا بقَدر ما تحولُ دون تورُّطِه الكامل عاطفيًّا، بعكس ما يَحدث أساسًا في الفِلم.

وثاني الملاحَظات بخصوص الفِلم أنّ تيار السرد فيه متّصِلٌ مسترسلٌ تقدمُه العدسةُ من موقع الراوي العليم، بمعنى أننا لا نُستغرَق في الأحداث من وجهة نظر العُمدة أوّلًا، ثم تتغير وِجهةُ النظر بتغيُّر الراوي، وهو ما يَحدثُ في الرواية. وقد كان هذا إجراءً يَهدفُ إلى مُصادقة الذائقة السائدة هو الآخَر.

وفي رأيي أنّ الفِلم لو كان قد التزمَ باختيارات يوسف القعيد لكان له شأنٌ آخَر. فلنتخيّل الفِلم يقدِّم لنا أحداثَه أولًا بعينَي العمدة، ثم يتخلى عن العمدة تمامًا ليتبنى منظور المتعهِّد، وهكذا. ولنتخيّل أنه قدَّم لنا شخصيّاتِه مُغفَلةً من الأسماء كما أرادَها القعيد. لا شكَّ عندي في أنّ مِثل هذين الاختيارَين كانا سيقرّبان الفِلم من تصنيف السينما التجريبية ويقللان جماهيريّتَه وقتَ عَرضِه الأول، إلا أنهما كانا سيفتحان له مجالَ ريادةٍ سينمائيةٍ مصريةٍ وعربيةٍ، لاسيّما في مستقبَل تلَقّيه، وإن كان لنا أن نتفهّم إحجامَ محسن زايد وصلاح أبو سيف عن مِثل هذه المغامرة رغم أستاذيّتِهما، فقد تكون ضغوط الإنتاج وراءَ اختياراتِهما، وقد تكونُ مسألةَ قَناعةٍ بأنّ السينما لا تكون إلا هكذا.

رغم ذلك لابُدّ من الإشادة بأداء معظم ممثلي الفِلم، خاصّةً عزت العلايلي وعمر الشريف وعبد الله محمود رحمة الله عليهم جميعًا، وذلك رغم بعض السقَطات في اصطناع لهجة البُقعة المقصودة من ريف مصر. كذلك جاء أداء المرحومَين حسن حسني والمنتصر بالله في دورَي المتعهد وكاتب العُمدة مناسبًا تمامًا لدورَيهما، فضلًا عن انضمام دور كلٍّ منهما إلى تاريخ صاحبِه الأدائيّ، فقد تخصصَ المنتصر بالله في أداء دور المنافق ماسح الجوخ، كما قدّم حسن حسني دورَ المتحذلِق الذي يَعرف ثغرات القوانين مرّاتٍ كثيرة. وإن كنتُ آخذُ على تجسيدِه هنا أنّ الحديثَ الطويلَ الذي تحدثَ به المتعهد في الرواية (في فصل المحقِّق) مُدافعًا عن شرعية قيام أحد المواطِنين بتسديد (ضريبة الدم) بدلًا من مُواطنٍ آخر، هذا الحديثَ حُذِف تمامًا من النص السينمائي، وكان جديرًا لو قُدِّم بشكلٍ جادٍّ أن يجعل الفِلم يذكِّرُنا بالمآسي الإغريقية بما تَحفِل به من إثارةٍ لأسئلةٍ جِذريّةٍ يُدافعُ المختصِمون حولها عن وِجهات نظرِهم بطُرُقٍ لا تخلو من سفسطةٍ أخّاذةٍ كسفسطة (المتعهِّد) في الرواية!


ولا ننسى موسيقى ياسر عبد الرحمن التي قدَّمَت معادلًا لحنيًّا للمأساة الرهيبة التي تفوقُ قُدرةَ البشَر على استيعابِ حكمتِها، فقد قدَّمَ لنا لحن المقدمة – وصاغَ منه أجزاء كثيرةً من الموسيقى التصويرية – في مقام صَبا زمزمة، وهو مَقامٌ رهيبُ الحُضور إذا جاز التعبير، فلا هو مُعادلٌ للّوعة الشعبيّة كما تتجلّى في مقام الصَّبا، ولا هو حزنٌ متماسكٌ كمقام الحجاز، ولا هو تأمُّلٌ محضٌ كما في النهاوند، وإنما هو أقربُ إلى الصرخة الداخلية التي لا يكادُ صارخُها يجرؤ على إطلاقِها، فهي لا تَني تتردّد بين جوانحِه في ملحميّةٍ رهيبة. هل نكونُ مُبالِغين بهذا الوصف إذا علِمنا أنّ اسمَ "صَبا زمزمة" بالفارسية يعني صدى الصوت؟ وهو اسمٌ له ما يبرره على المستوى التشريحيِّ للمَقام الذي يبدأ تقليديًّا مرتكزًا على درجة (ري)، ومنها إلى مي بيمول، فا، صول بيمول، لا، سي بيمول، دو، ري. أي أنه يكرر مسافة نصف النغمة (نصف تون) ثلاثَ مرّاتٍ متتاليةٍ بين كلّ زوجَين من هذه النغمات (ري-مي بيمول/ فا-صول بيمول/ لا-سي بيمول). ولعلّ أشهرَ سابقةٍ في استخدامِه للتعبير عن مِثل هذه الأفكار والمَشاعر في تتر مسلسل "الوسيّة" الشهير الذي يسبق إنتاجَ هذا الفِلم بعامٍ واحد.

والعجيبُ أنّ هذه القراءةَ لاختيار ياسر عبد الرحمن تتوافق مع الجُملة التي صدَّرَ بها (القعيدُ) روايتَه، وهي اقتباسٌ من هيرودوت لم أُفلِح في الاهتداء إلى أصلِه: "وفي مصر شاهدتُ أشياءَ كثيرةً ولكنّي لم أنطِق"! هكذا أراد القعيدُ – والتقطَ خيطَه ياسر عبد الرحمن- أن يثيرَ فينا تلك الصرخةَ المتبرّمةَ بغياب العدل الاجتماعيّ في "بَرِّ مصر"، رغم أنّ نبرةَ هذا التبرُّم كانت جِدَّ عاليةٍ في ثنايا الرواية، فنرى الشخصياتِ المقهورةَ تُظهر استنكارَها لتصاريف القدَر وتُعلِن سخطَها على الإرادة الإلهية، ما جعل كثيرًا من المتلقّين يرَون في هذا مُروقًا صارخًا من الدِّين. ولكنا في النهاية نقول إنّ مِثل هذا السُّخط نراه ونلمِسُه في المقهورين كثيرًا ولو كانوا من المتديِّنين، فهو ليس مُروقًا من الدين بقَدر ما هو التزامٌ من (القعيد) بقضية العدالة الاجتماعية التي تَشغلُ الحيّز الأكبر من تفكيرِه بحُكم قَناعاتِه، وبحُكم ناصريّتِه بالتحديد.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي تقارير مصر المواطن مصري مصر أدب حرب أكتوبر المواطن مصري سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی الروایة فی الجیش فضل ا عن ابن الع الف لم الذی ی فی دور التی ت

إقرأ أيضاً:

الغازي ومرسي.. جبهة إعلامية صلبة في ملاعب أوروبا تواجه الرواية الإسرائيلية

منذ بدء حرب الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، شهدت مواقع التواصل الاجتماعي حملات عديدة للتنديد بجرائم الاحتلال، والتضامن مع الفلسطينيين المنكوبين في القطاع.

وشارك عشرات اللاعبين العرب والمسلمين وآخرون رافضون لما يجري في قطاع غزة، في حملات تدعو إلى وقف العدوان، وفتح المعابر، وتمكين نحو مليوني فلسطيني في القطاع من الحصول على حق الطعام، والعلاج، والسفر.

إلا أن حجم التفاعل مع واحدة من أبشع الحروب التي تُرتكب في العصر الحديث، كان متفاوتاً بين اللاعبين العرب في الملاعب الأوروبية.

وتصدّر النجم المصري محمد صلاح، هدّاف ليفربول الإنجليزي، قائمة المحترفين لكن من الناحية السلبية، حيث كانت مواقفه تجاه العدوان على غزة خجولة، وظهر في فيديو واحد بعد صمت طويل، لكنه لم يصطف صراحة إلى جانب الفلسطينيين الذين فقدوا أكثر من 50 ألف شهيد، وتحدث بعموميات أثارت انتقادات واسعة ضده.

وشارك جلّ اللاعبِين والمشاهير في حملات جماعية مثل "كل العيون على رفح"، ونشروا آيات قرآنية، وأعلام فلسطين، وصوراً لأطفال غزة الجرحى والشهداء، ولكنهم توقفوا تدريجياً عن النشر المتعلق بالحرب على قطاع غزة، لا سيما أن "إنستغرام" و"فيسبوك" حاربا المحتوى الداعم لفلسطين، وقيّدا الوصول إلى الحسابات التي تبنّت القضية.

لكن على الطرف الآخر، برز صوتان جريئان بشكل غير معهود ضد المسلّمات المعمول بها في ملاعب كرة القدم الأوروبية، ورفضا بشكل قاطع تجميل الواقع، وتحدثا صراحة عن إيمانهما بحق الفلسطينيين في كل فلسطين، واعتبرا إسرائيل كياناً محتلاً يقتل المدنيين.

واللاعبان هما أنور الغازي، لاعب منتخب هولندا السابق، والذي ينشط حالياً في صفوف كارديف سيتي الإنجليزي، إضافة إلى النجم المصري سام مرسي، قائد فريق إيبسويتش تاون الإنجليزي.

"لغة الشجاعة"
ولد أنور الغازي في مدينة باريندريخت غربي هولندا لأبوين مغربيين مهاجرين، فيما وُلد سام مرسي (سامي مرسي) لأب مصري وأم إنجليزية في وولفرهامبتون بإنجلترا. اللاعبان الاثنان لا يتحدثان اللغة العربية على الإطلاق.

وبرغم ذلك، شكّل الغازي ومرسي جبهة إعلامية قوية ضد الرواية الإسرائيلية والسردية التي يتبناها الإعلام الغربي، إذ لم يقتصر نشاطهما على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث قاما بتنظيم مباراة خيرية لدعم أطفال غزة، استطاعا خلالها جلب عدد من كبار نجوم كرة القدم.

ففي مطلع حزيران/ يونيو من العام الماضي، نظم النجمان الغازي ومرسي مباراة خيرية بالتعاون مع جمعية "نجوم سبورتس" المعنية بالاهتمام النفسي باللاعبين المسلمين في بريطانيا.

وأعرب الغازي عن فخره بتنظيم هذا الحدث، مؤكداً التزامه بالدفاع عن حقوق الفلسطينيين، بينما أشاد سام مرسي بالروح الإنسانية للمبادرة، مشدداً على أهمية التضامن مع أطفال غزة.
As the world watches on ???????????? https://t.co/ANwVaNuDb3 — Sam Morsy (@sammorsy08) October 14, 2024
وقال ناشطون إن الغازي ومرسي، اللذين وُلدا وترعرعا بعيداً عن الشرق الأوسط والمنطقة العربية، أثبتا أن التمسك بالمبادئ غير مرتبط بالضرورة بمكان النشأة أو الظروف المحيطة.


معركة طويلة
دوّن أنور الغازي اسمه في سجلات التاريخ الرياضي، بسبب تمسكه بمبادئه، وخوضه معركة قانونية طويلة ضد فريقه السابق ماينز الألماني.

الغازي، الذي سخّر حسابه للحديث عن الجرائم الإسرائيلية في القطاع، واجه حرباً معلنة ضده من قبل إدارة ناديه السابق ماينز الذي كان يلعب في صفوفه عند بدء العدوان على غزة.

وأطلق الغازي عبارته الشهيرة بعد أيام من العدوان قائلاً: "من النهر إلى البحر، ستتحرر فلسطين"، وهو ما دفع النادي الألماني إلى مطالبته بالتراجع عن العبارة والاعتذار.

زعم النادي لاحقاً أنه طوى الخلاف بعد اعتذار داخلي قدّمه الغازي، إلا أن المفاجأة كانت بتكذيب النجم صاحب الـ30 عاماً لمسؤولي النادي، وإصراره على تبني السردية الفلسطينية، وهو ما دفع "ماينز" إلى فسخ عقده.

نقل الغازي معركته مع "ماينز" من الإعلام إلى القضاء، ونجح في استصدار حكم لصالحه من محكمة العمل الألمانية، التي اعتبرت أن فسخ عقده غير قانوني.

وحكمت المحكمة على ماينز بدفع 1.7 مليون يورو كحقوق متأخرة للغازي، الذي استثمر القرار وأعلن عن تبرعه بنصف مليون يورو لصالح أطفال غزة.

وقال الغازي في بيان تاريخي: "شكراً لنادي ماينز لأنني قررت التبرع بـنصف مليون يورو لأطفال غزة. شكراً لنادي ماينز على محاولتكم إسكاتي، لأنه بسبب ذلك أصبح صوتي أعلى لنصرة المظلومين في غزة".

وانضم الغازي لاحقاً إلى نادي كارديف سيتي الإنجليزي، المملوك لرجل الأعمال الماليزي فنسنت تان، والذي يضم في صفوفه عدداً من اللاعبين المسلمين، حيث قال الغازي لمجلة "ذا أثلتيك" إنه اختار النادي لأنه شعر بالترحيب، ولأنه يستطيع التعبير عما بداخله بأريحية.
View this post on Instagram A post shared by Anwar El Ghazi (@elghazi21)



"المبادئ تُحترم"
لم يكتفِ النجم المصري سام مرسي بالتصريح بموقفه الصارم تجاه حرب الإبادة في غزة، إذ أظهر موقفاً مماثلاً تجاه رفض ارتداء شارة "المثليين" في الدوري الإنجليزي "راينبو ليسز".

وفي الجولة المخصصة لدعم المثليين في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، رفض مرسي ارتداء شارة ألوان قوس قزح، ليكون الوحيد بين 20 قائداً لأفرقة الدوري لا يرتدي الشارة.

واللافت أن نادي إيبسويتش تاون احترم قرار مرسي ومبادئه، وقال في بيان إنه يدعم "المساواة"، لكنه "يحترم قرار القائد سام مرسي الذي اختار عدم ارتداء شارة القيادة الملونة بسبب معتقداته الدينية".



مواقف جريئة
شارك بعض اللاعبين منشورات جريئة كلّفت بعضهم ثمناً باهظاً، إذ انتقد النجم المغربي حكيم زياش حكومة بلده بشكل علني بسبب تطبيعها مع الاحتلال الإسرائيلي.

وكان موقف زياش متقدماً عن جلّ اللاعبين العرب في أوروبا، ونشر عن انتهاكات وجرائم جيش الاحتلال في الضفة الغربية أيضاً.

كما تصدر النجم المصري أحمد حسن "كوكا" وسائل التواصل الاجتماعي بنشر فيديوهات وتصريحات تدين العدوان على غزة، وهاجم الإعلام الغربي الذي فبرك الحقائق، وتغاضى عن جرائم الاحتلال، قائلا إنه يعيش في أوروبا منذ 11 عاما، معتبرا الغرب يريد إنكار أن الإرهابيين الحقيقيين هم جيش الاحتلال الإسرائيلي.


أما اللاعب الذي دفع الثمن الأكبر بسبب موقفه من الحرب على غزة، فهو النجم الجزائري يوسف عطال، لاعب نادي نيس الفرنسي سابقاً.

وبسبب مشاركته فيديو للداعية الفلسطيني محمود الحسنات تضمّن "دعاءً على اليهود"، طُرد عطال من ناديه ومن فرنسا بالكامل، وحُكم عليه بالسجن لمدة ثمانية أشهر مع وقف التنفيذ، وغرامة قدرها 45 ألف يورو.

ورغم اعتذار عطال وحذفه الفيديو، إلا أن القضاء الفرنسي ثبّت الحكم ضده، علماً أن ناديه الحالي السد القطري أعلن تضامنه التام معه.

لا يزال اللاعب الدولي الجزائري يوسف عطال يواجه تداعيات منشوره التضامني مع القضية الفلسطـ ـينية بعد أحداث السابع من أكتوبر، حيث إنه يواجه خطر السجن النافذ في #فرنسا ، في انتظار النطق بالحكم النهائي نهاية شهر أبريل الجاري.

تعود وقائع القضية إلى 12 أكتوبر 2023، حينما قام عطال، الذي… pic.twitter.com/R3nmIzSUW5 — عربي21 (@Arabi21News) April 3, 2025
ومن أبرز اللاعبين المتضامنين مع قطاع غزة، النجم المصري محمد النني، الذي يضع علم فلسطين كصورة شخصية لحسابه، وشاعت أنباء عن دخوله في مواجهة مع زميله السابق في أرسنال الإنجليزي، اللاعب الأوكراني ألكسندر زينتشنكو الداعم للاحتلال، قبل انتقاله إلى الجزيرة الإماراتي الصيف الماضي.

وكان النجم المغربي نصير مزراوي قد تعرّض لضغوطات كبيرة من قبل إدارة ناديه السابق بايرن ميونيخ، بسبب نشره آيات قرآنية تم تفسيرها على أنها تؤيد المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي.

وتعرّض مزراوي لتحقيق داخلي من إدارة النادي التي لم تجد حرجاً في التعبير عن دعمها المطلق لإسرائيل، وهو ما أدى إلى توتر العلاقة بينه وبين النادي، الذي باعه لاحقاً إلى مانشستر يونايتد الإنجليزي.

ونشر نجوم كرة القدم الجزائريون رياض محرز، وإسماعيل بن ناصر، وآخرون مثل الألماني التركي مسعود أوزيل، والفرنسيين كريم بنزيما، وبول بوغبا، صوراً تعبّر عن تضامنهم مع قطاع غزة بشكل متقطع طيلة شهور الحرب الماضية.


ماكلين وفرض الواقع
عند النظر إلى مواقف سام مرسي وأنور الغازي، وإجبار أنديتهما وجماهير الكرة الأوروبية على احترام مبادئهما، تعود الذاكرة إلى قصة اللاعب الإيرلندي الشمالي جيمس ماكلين، الذي لعب لسنوات طويلة في الملاعب الإنجليزية.

ماكلين، الذي نشأ في منطقة كريجان، التي كانت مركزاً للتوترات الطائفية والصراع بين الكاثوليك (الساعين لتوحيد إيرلندا) والبروتستانت (المؤيدين للبقاء ضمن بريطانيا)، كان يرفض بشكل قاطع ارتداء "زهرة الخشخاش"، قائلاً إن الخشخاش لا يرمز فقط لضحايا الحربين العالميتين، بل يشمل جميع الصراعات التي شاركت فيها بريطانيا، بما في ذلك "الاضطرابات" في إيرلندا الشمالية.

ويقول ماكلين إنه يعتقد أن ارتداء "زهرة الخشخاش" سيكون بمثابة "عدم احترام" للمدنيين الأبرياء الذين قُتلوا على يد الجيش البريطاني، خاصة في مذبحة الأحد الدامي عام 1972، عندما أطلق جنود بريطانيون النار على متظاهرين مدنيين في ديري، مما أسفر عن مقتل 13 شخصاً.

وخلال تنقله بين أندية سندرلاند، وويغان أتلتيك، وويست بروميتش ألبيون، وستوك سيتي، وريكسهام، رفض ماكلين ارتداء "زهرة الخشخاش"، والتي يضعها اللاعبون في تشرين الثاني/ نوفمبر من كل عام.

وبعد تعرضه لانتقادات لاذعة من قبل روابط جماهير الأندية البريطانية التي لعب بها، قال ماكلين في رسالة تاريخية: "لدي احترام كامل لمن قاتلوا وماتوا في الحربين العالميتين، لكن الخشخاش يُستخدم لتذكّر ضحايا صراعات أخرى منذ عام 1945، وهنا تبدأ المشكلة بالنسبة لي. بالنسبة لأشخاص من إيرلندا الشمالية مثلي، وخاصة من ديري، مسرح مذبحة الأحد الدامي عام 1972، فإن الخشخاش يعني شيئاً مختلفاً تماماً. ارتداؤه سيكون بمثابة عدم احترام للأبرياء الذين فقدوا حياتهم في الاضطرابات، وخاصة في الأحد الدامي".

واللافت أن ماكلين يرفض أيضاً الوقوف دقيقة صمت على أرواح جنود الجيش البريطاني في مناسبات تأبينهم، وبرغم ذلك لم تصدر أي عقوبة ضده.

وعلى غرار مرسي والغازي، قال ماكلين في تصريح سابق إن العديد من زملائه الإيرلنديين يؤيدون ما يقوم به، لكنهم لا يجرؤون على فعل ذلك خوفاً من ردات الفعل.
 

Massive respect for James McClean … a man who has the courage of his convictions and who refuses to be bullied by the “poppy police”. ???????????????? pic.twitter.com/IIetC7Kp59

— Séamus.1798????????‍☠️ (@1057Seamus) November 9, 2024

James McClean is known for his principled stance on not wearing the poppy on his football kit during the annual Remembrance Day period in the UK. McClean, from Derry, Ireland, cites his reasons as being rooted in the history of the Bloody Sunday massacre in 1972, where British… pic.twitter.com/VtjWu22mHi

— The Extreme Football Enthusiast (@ExtremeFootbal4) June 19, 2024

مقالات مشابهة

  • البابا فرنسيس.. الكاردينال الذي باع ثروته واشترى قلوب الفقراء
  • الغازي ومرسي.. جبهة إعلامية صلبة في ملاعب أوروبا تواجه الرواية الإسرائيلية
  • العمدة صلاح كوري .. الرجل الذي قاتل الجنجويد ب (القش) وثلاثة بنادق
  • يجب منح الجهاز صلاحيات جديدة تتناسب مع حالة الحرب وتتلاءم مع طبيعة المهددات الأمنية التي تهدد السودان
  • ‏الأردن يرحب بالتوافق الذي توصّلت إليه واشنطن وطهران خلال الجولة الثانية من المباحثات التي عُقِدَت في العاصمة الإيطالية روما
  • الرواية الخليجية.. في مرايا السرد والتحولات
  • ما حدث في زمزم مأساة حقيقية. أشياء لا يمكن وصفها، لم تحدث من قبل في تاريخ الإنسانية
  • برلماني: زيارة ماكرون لها اعتبارات كثيرة خاصة في جذب الاستثمارات لمصر
  • الطريقة التي سارت بها الحرب في السودان كانت خادعة لحلفاء المليشيا وداعميها
  • أشياء لا تصدق عن السودان !!!