(2)
د. قاسم نسيم
بعد أن بيضت مقالتي الأولى في هذه السلسلة، وأن أتهيأ أن أدفع بها إلى الصحيفة، تلقيت دعوةً من منبر أويل للأكاديميين والباحثين، بالتعاون مع صحيفة الموقف، للمشاركة في تدشين هذا الكتاب الذي أتناوله هنا، فقلت في نفسي: كأنهم اطلعوا على مقالتي قبل أن أدفع بها وأنا أنعي على أهل الثقافة أهمالهم الحدث الكبير،  وكان أن حضرت التدشين الذي ضمه فندق بيراميدز، وحضرته ثلة صالحة من مثقي جنوب السودان، فانطفأت موجدتي قليلًا عليهم من تراخيهم في الانتشاء بمولد هذا الكتاب، فقد كان التدشين فخيمًا برواده، ومتحدثيه، ومعقبيه، وسائليه، مفيدًا للكاتب والمناقشين، ممتعًا بحق، ولعل صحيفة الموقف تفرد له مساحة في أعدادها القادمة، فهو حدث قمينٌ بالتغطية.


نعود لما انتهينا إليه في مقالتنا السابقة من استعراض للكتاب، ففي مقدمته العامة، أكد المؤلف على استخدام النخب الفوارق الإثنية من أجل السعي لامتلاك السلطة، في إفريقيا والعالم الثالث بصورة عامة، ويمضي ليقول: إن الجنوبيين يعتقدون أن الظلم الذي وقع عليهم كان تهميشا إثنيا، ولعل قوله هذا لا يحتاج لاستشهاد، حيث تفيض مدونات الثقافة العربية بآلاف الشواهد التي تزري من العرق الأسود، وكنت قد استعرضت بعضًا من شواهد هذا الإزراء في سياقها الثقافي في مقالات لي عديدة، وهذا من تحديات الثقافة العربية التي تستوجب التحديث؛ لتكون تلك الاستعلاءات مجرد تاريخ لا فاعلية حاضرة لها، ولتخطو الثقافة العربية في سلم الإنسانية بوثبات أكبر، ثم استطرد في تعريف حدود بحثه الذي عاد به القهقرى حتى سنة 1922 ليستبصر جذور النزاع، هذا ما كتبه، لكن في الحقيقة هو قد مضى أوغل من ذلك، حتى بدايات وجود الدينكا والرزيقات في هذا الجوار المشترك  في عهد مملكة الفور، كما ينبئُنا الكتاب، ولعل هذا التاريخ الذي وضعه (1922) هو تاريخ أول قوانين وضعتها الإدارة الاستعمارية لتنظيم الإدارة الأهلية، وتلك القوانين هي التي استخدمتها الحكومات السودانية من بعد لاستغلال الولاء القبلي لكسب السلطة السياسية كما يوضح المؤلف، وكان عليها إن كانت عادلة أن تعيِّرها بمعيار القسط قبل أن تعطيها قوة النفاذ. ويستطرد ضيو بقوله: إن امتلاك الأرض حول نهر (كير) (بحر العرب) مسألة تختلف فيها الآراء عند الرزيقات ودينكا ملوال، كل طرف يدعي دعواه، ويرى حدوده خلافًا للأخر، فانتهز السياسيون في الخرطوم هذا الخلاف لممارسة سياسة فرق تسد التي تعين على ترسيخ دعائم حكمهم. ويعود بأسباب تفجر الصراع  في توريت سنة (1955) إلى سنة 1930 حيث أن سياسات التعليم التي فرضتها السلطات الاستعمارية آنذاك أثرت سلبًا على فرص تعليم الجنوبيين، وكانت سببًا في افتقارهم للمؤهلات التي تؤهلهم للمنافسة في السودنة سنة (1954)، فكان نصيبهم منها (6) ستة فرص من (800) ثمانمائة فرصة، ونظرته هذه نظرة بريئة تبعد القائمين بأمر السودنة عن أيِّ سوء نية، لكنه لا يحافظ عليها طويلًا حينما يقول بعد بضعة أسطر: إن فرصةً قد انفرجت لمعالجة الوضع قادها البرلمانيون الجنوبيون، لكن لم تجد آذانا صاغية عند الأحزاب السياسية الشمالية، فواضح هنا أنه يتهم الأحزاب السياسية بالتقصد في إزواء الجنوبيين من الخدمة العامة وإلا لاهتبلوا الفرصة التي أطلقها النواب الجنوبيون.
وفي مدخل كتابه كشف لنا المؤلف عن الحافز الذي توارى خلف اختياره لموضوعه هذا، وهو إنه من تربة تلك المنطقة، وقد عايش أحداثها عياتًا، أو عبر روايات أهله، ولا نغفل أن جده الأكبر (وول ريج) (1802- 1872) كان قد رفع السلاح ضد الرزيقات والمسيرية، ووقعت بعض جداته أسيرة مع بنتيها في يد الرزيقات، ولم يُعلم عنها شيء بعد ذلك، فبحثه عن سلام دائم نابع من صميم معايشته لآلام النزاع، ضف إلى ذلك عمله كمستشار للسلام في القصرر الجمهوري، فمن باب أولى أن يبدأ خطوات سلامه بمنطقته.
الفصل الأول:كل ما سبق لا يعدو أن يكون مقدمات، وبدأ الفصل الأول الذي عنونه ب (دينكا ملوال والرزيقات: الشعب والأرض) فبدأ بدراسة دينكا ملوال: الجيلوجيا والطبغرافيا والتربة، حيث أن التكوين الجغرافي للأرض التي تقطنها قبائل الدينكا والرزيقات؛ كانت مصدرًا للنزاعات، ولتنافس الناس حول الموارد مثل المراعي والمياه، ومصائد الأسماك، فأتم وصف أرضهم ومناخهم، وذكر أن الدينكا والرزيقات يلتقون عند النهر في الصيف من شهر فبراير حتى أبريل من كل سنة.
ثم طفق تحدثًا عن قبيلة الدينكا، مبتدئًا باسمها الذي لا وجود له في لغتهم، بل هو طارئٌ أطلقه آخرون عليهم، وهذه حالة  نجدها عند كثير من قبائل السودان، خاصة المتحدرة من الأرومة الإفريقية، فالنوبة النيمانج مثلا يقولون إن اسمهم (أما) وليس  (نيمانج)كما يطلق عليهم، والنوبة الغلفان اسم قبيلتهم هو (الأنشو) ليس الغلفان، وقبيل الدلنج (واركي) والأمثلة مضطردة، لا تحصى، واعتقد أن افتقار تلك القبائل للكتابة في الماضي كان وراء هذا الاضطراب، ثم نشأ يتحدث عن أقسام الدينكا، ومواقع سكنهم وهجراتهم ومهاجرهم وحروباتهم من أجل الاستيطان في المهاجر الجديدة، وسلطناتهم، وحديثه هنا لا يخلو من تشويق شديد، وينم عن معرفة متجذرة للمؤلف بأهله، ثم تحدث عن المناخ في مناطقهم، والأمطار التي تمتد حوالى ثمانية أشهر، والغطاء النباتي.
ثم عرج على منطقة الرزيقات فوصف أرضهم وذكر مهاجرهم من تشاد وما قبلها، والروايات في ذلك، ومن كان يسكن في أرضهم قبل مهجرهم إليها من قبائل شات، وتتبع نسبهم وأقسامهم ومدنهم، وأقرب أقسامهم إلى دينكا ملوال رحمًا، حيث في أقسامهم قسم تعود أكثر أصوله إلى الدينكا، ثم تناول الجيلوجيا والطبغرافية والتربة والمناخ الذي تمتد فيه الأمطار لخمسة أشهر والغطاء النباتي وتصريف المياه، يتبع

gasim1969@gmail.com
//////////////////////  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

أزمة الحاكم العسكري بمالي ورئيس حكومته.. ما جذورها وتداعياتها على المنطقة؟

تصاعدت خلال الأيام الأخيرة، الأزمة بين رئيس المجلس العسكري الحاكم في مالي عاصيمي غويتا، ورئيس حكومته شوغيل كوكالا مايغا، انتهت بقرار إقالة الحكومة مساء أمس الأربعاء.

وأقال الرئيس الانتقالي المالي عاصيمي غويتا، الحكومة والوزير الأول شوغيل كوكالا مايغا، بعدما انتقد الأخير بشكل واضح قبل أيام تمديد الفترة الانتقالية للعسكريين الممسكين بالسلطة في هذا البلد الإفريقي الذي يعيش على وقع توتر أمني وسياسي منذ سنوات.

وفق مرسوم وقعه رئيس المجلس العسكري الجنرال عاصيمي غويتا، وتلاه عبر التلفزيون الرسمي الأمين العام للرئاسة ألفوسيني دياوارا، فقد "تم إنهاء مهام الوزير الأول وأعضاء الحكومة".

جذور الأزمة
بدأت الأزمة بين الرجل حين انتقد رئيس الحكومة بشكل واضح، طول الفترة الانتقالية، ودعوته بشكل واضح لإجراء انتخابات تنتهي باختيار رئيس مدني للبلاد الذي يحكمه مجلس عسكري منذ نحو ثلاثة سنوات.

فقد قال رئيس الحكومة المقال شوغيل كوكالا مايغا، في تصريحات صحفية قبل أيام، إن هناك "شبح ارتباك يخيم على العلمية الانتقالية في البلاد، وإن الشعب لن يقبل أن يستمر هذا الأمر".


وأضاف في كلمة أمام الآلاف من أنصاره في باماكو يوم 16 تشرين الثاني /نوفمبر الجاري: "يمكن التحلي بالصبر لكن هذا الصبر له حدود، نحن مطالبون بالوحدة والتماسك".

ولفت شوغيل، إلى أنه كان من المنتظر أن تنتهي المرحلة الانتقالية مع بداية شهر مارس 2024، مضيفا أنه تم تمديد الفترة الانتقالية بقرار من المجلس العسكري دون التشاور معه.

وعقب تصريحات شوغيل، خرج أنصار المجلس العسكري في مظاهرات بعدة مدن مالية للمطالبة بإقالة رئيس الحكومة، وهو ما تم بالفعل أمس الأربعاء.

شوغيل وجد نفسه في "وضع حرج"
ويرى الباحث المختص في شؤون إفريقيا ومنطقة الساحل، محفوظ ولد السالك، أن رئيس الحكومة المالية شوغيل كوكالا مايغا، وجد نفسه في وضع حرج منذ بعض الوقت.

وأضاف في تصريح لـ"عربي21": "شوغيل كان أمام خيارين، فإما أن يواصل دعمه للمجلس العسكري الحاكم، وهذا يعتبر نفسه مغيبا فيه عن دائرة صنع القرار، لدرجة أنه كما قال لم يسمع بقرار تمديد الفترة الانتقالية إلا في الإعلام، رغم أهمية منصبه الحكومي، وإما أن ينهي علاقته بالمجلس العسكري، ويعود إلى حاضنته الشعبية والسياسية حركة 5 يونيو".


ولفت ولد السالك، إلى أن "حركة 5 يونيو" التي تعد حاضنة شوغيل مايغا، بدأت في الفترة الأخيرة تصعد لهجتها ضد النظام العسكري، واعتقل على إثر ذلك بعض عناصرها.

وتابع ولد السالك: "يبدو أن مايغا آثر الخيار الثاني، فخرج عن صمته منتقدا المرحلة الانتقالية التي قال إنها ضبابية، وإن حركته والشعب المالي لن يقبلان استمرارها بلا نهاية، كان هذا سببا في إقالته من طرف غويتا".

تداعيات متوقعة
ويرى عدد من المتابعين أن الأزمة المتصاعدة بين الرجلين، ستكون لها تداعيات كبيرة سواء على مالي أو بقية دول الساحل التي تصنف ضمن المناطق الأكثر توترا في القارة السمراء.

وفي هذا السياق يقول خبير الشؤون الإفريقية، محفوظ ولد السالك، إن انعكاسات توتر علاقات غويتا ومايغا داخليا، سيحددها الموقف الذي سيتخذه الرجل المقال.

وأضاف ولد السالك في حديثه لـ"عربي21": "إذا صعد رئيس الحكومة المقال لهجته ضد النظام وبدأت حركته السياسية تتحرك ضمن خطها المعارض، واستطاع هو أن يعيد النشاط للحراك السياسي المعارض، فأعتقد أن البلاد حينها ستعرف أزمة سياسية، قد تشكل تهديدا للمرحلة الانتقالية، وستكون كل الاحتمالات واردة".

وتوقع المتحدث أن "يرغم هذا الأمر الحاكم العسكري غويتا على تنظيم انتخابات رئاسية عاجلة، وسيكون مضطرا على الانفتاح على المعارضة أحزابا ومنظمات".


واعتبر ولد السالك أنه "بقدر قوة الحراك السياسي المعارض في مالي، سيكون الانعكاس على الوضع في المنطقة، خصوصا بوركينا فاسو والنيجر، حيث الحراك المعارض فيهما منعدم على غرار مالي، بفعل قبضة العسكر على السلطة في هذه البلدان".

وتابع: "بالمقابل إذا لم يرق تحرك مايغا إلى ذلك المستوى المؤثر داخليا، فلا أعتقد أن توتر علاقاته مع غويتا سيكون له تأثير".

فيما يرى متابعون أن الأزمة بين الرجيلين تعكس أيضا حجم الصراع بين القوى الدولية والإقليمية في مالي، حيث يعتبر رئيس الحكومة المقال من أبرز المقربين من روسيا، فيما يعتبر رئيس المجلس العسكري أكثر قربا لتركيا التي باتت حاضرة بقوة في المنطقة.

ومنذ الانقلاب العسكري في مالي قبل ثلاث سنوات، تم تأجيل تنظم الانتخابات الرئاسية عدة مرات، وفي كل مرة يتم تبرير ذلك بعدم الجاهزية لتنظيم الانتخابات.

واستولى الجيش على الحكم في مالي سنة 2021 وأعلن رئيس المجلس العسكري أسيمي غويتا، تجريد الرئيس حينها باه نداو، ورئيس الوزراء مختار وان من صلاحياتهما.

ومنذ يونيو 2021، أصبح غويتا رئيساً انتقاليا للبلاد، وتراجع عن تعهده بإعادة السلطة للمدنيين بعد انتخابات وعد بإجرائها في فبراير 2022، لكنها لم تتم حتى الآن.

وتعاني مالي من توترات أمنية وسياسية، فيما يعش هذا شبه عزلة إفريقية، كما توترت علاقات باماكو مع الدول الغربية، إذ تم طرد القوات الفرنسية والألمانية من هذا البلد، مقابل تعزز العلاقة مع موسكو وأنقرة.

مقالات مشابهة

  • لقجع: ستجد اللاعبات والجماهير في المغرب بلدهم الثاني الذي يرحب بأشقائه الأفارقة
  • من بحري إلى بيالي: قصة الموسيقار اللاجئ الذي يبحث عن الأمل في المنفى 
  • شاهد الشخص الذي قام باحراق “هايبر شملان” ومصيره بعد اكتشافه وخسائر الهايبر التي تجاوزت المليار
  • منها «عدم التمييز وتوفير بيئة آمنة».. تعرف على حقوق المُسنين القانونية
  • جوبا بخير ونتمنى ان تكون بخير
  • رويترز: إطلاق نار كثيف في جوبا عاصمة جنوب السودان
  • إطلاق نار كثيف في عاصمة جنوب السودان
  • أزمة الحاكم العسكري بمالي ورئيس حكومته.. ما جذورها وتداعياتها على المنطقة؟
  • تقديم كتاب: سليم أغا: ملحمة أحد ضحايا الاسترقاق، تأليف جيمس مكارثي، ترجمة ياسر عَـبِـيدِى بَرْدَويل، 2024
  • مقتل باحث إسرائيلي في جنوب لبنان.. ما الذي كان يفعله هناك؟