الجزيرة:
2024-07-09@19:19:20 GMT

فورين بوليسي: هل هذه نهاية فرنسا أفريقيا؟

تاريخ النشر: 27th, February 2024 GMT

فورين بوليسي: هل هذه نهاية فرنسا أفريقيا؟

قال الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك ذات يوم "لا تنسوا شيئا واحدا، وهو أن جزءا كبيرا من الأموال التي لدينا تأتي، على وجه التحديد، من استغلال أفريقيا على مر القرون، لذلك نحن بحاجة إلى قدر قليل من الحس السليم، لم أقل الكرم، ولكن الحس السليم والعدالة كي نقدم للأفارقة ما أخذناه منهم، وهذا ضروري إذا أردنا تجنب الاضطرابات والصعوبات الشديدة، مع كل العواقب السياسية التي سيجلبها ذلك في المستقبل القريب".

هذه الجمل تصلح توطئة لمقال هوارد دبليو فرينش –في عموده- بمجلة فورين بوليسي، حيث قال إن هناك انتفاضة ملحوظة ضد النفوذ الفرنسي جارية في منطقة الساحل، وهي إحدى المناطق الأفريقية التي كانت الهيمنة الفرنسية فيها أكثر شمولا على مدى العقود الماضية، مشيرا إلى أن هذا الاستياء المتزايد من الاستعمار الفرنسي الجديد، يحفز على رد فعل عنيف ضد باريس في جميع أنحاء غرب أفريقيا.

وقبل الدخول في التفاصيل، يعود الكاتب إلى بداية القصة، عندما انطلق الجنرال شارل ديغول في 1958، بعد عودته للسلطة، في جولة في مستعمرات بلاده في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، مقدما لهم خطة للانضمام إلى نوع جديد من "مجتمع" فرنسا.

فصل غينيا

وتقتضي خطة الجنرال استمرار باريس في السيطرة على ما سمّته "خدمات الدولة" التي تشمل: الدفاع والمسائل النقدية والجمارك، فضلا عن وسائل الإعلام والاتصالات، ويسمح الحكم الذاتي شبه المحدود الجديد للبلدان الأفريقية بإدارة شؤونها الداخلية، وتحمّل التكاليف، التي كانت فرنسا تتحملها إلى حد كبير.

أما الصيغة التي قدمت بها الخطة، تحت غطاء من الشهامة –كما يقول الكاتب- فهي استفتاء مدروس، لدى المستعمرات الأفريقية الحرية في قبوله أو رفضه، ولن يكون هناك أي نقاش، بل مجرد تصويت بالموافقة أو بالرفض، وأي مستعمرة ترفض الاقتراح ستواجه الانفصال عن فرنسا "بكل ما يترتب على ذلك من عواقب".

وعندما رفضت غينيا الخطة ثار غضب ديغول، الذي ألغى العشاء المقرر مع زعيم البلاد أحمد سيكو توري، ورفض دعوته للسفر على متن طائرته الرئاسية إلى السنغال المجاورة في اليوم التالي.

وبعد عودة ديغول إلى باريس، أمر بالانسحاب الفوري للآلاف من موظفي الخدمة المدنية الفرنسيين، الذين أداروا بيروقراطية المستعمرة وزوّدوا عياداتها ومدارسها بالموظفين.

وقبل عودتهم إلى الوطن، انخرط العديد من العمال الفرنسيين في عربدة من التدمير التافه، حيث حطموا الأثاث والسجلات الرسمية والمعدات، وحتى المصابيح الكهربائية.

وإذا كان فصل غينيا واحدا من أشهر الأحداث في التاريخ المشين للحكم الاستعماري الفرنسي وهيمنته على أجزاء كبيرة من غرب ووسط أفريقيا، فإنه لم يكن سوى جزء صغير من قصة طويلة جدا، خاصة أن غينيا كانت موقعا لحملة شرسة شنتها باريس لإخضاع الحكام السياسيين المحليين والسيطرة على البلاد في بداية الاستعمار، من أجل السيطرة على الذهب والموارد الطبيعية الأخرى.

ومع أن فرنسا لم تكن الدولة الأوروبية الوحيدة التي حكمت الأفارقة، فإن تاريخها فريد من نوعه من حيث استمرارها وانتشارها الجغرافي وقدرتها على التكيف، ولكن النضال من أجل الاستقلال في الجزائر، التي كانت آنذاك مستعمرة استيطانية فرنسية كبيرة في شمال أفريقيا، كان سببا في إسقاط الجمهورية الفرنسية الرابعة، وهدّد بحرب أهلية في قلب أوروبا في 1958، وهو العام نفسه الذي جرت فيه جولة ديغول في منطقة جنوب الصحراء الكبرى.

انتفاضة

وفي أعقاب الأحداث في غينيا والجزائر، عندما بدأت شخصيات أخرى من الأفارقة السود في المطالبة بقدر من الحكم الذاتي أكبر مما تصوره ديغول، من أجل الاستقلال التام، بدأت تحدث لهم أمور سيئة، حيث اغتيلت شخصية كاميرونية مناهضة للاستعمار لا يتذكرها كثيرون، وهي: فيليكس رولاند مومييه على يد عملاء فرنسيين سمّموه بالثاليوم المشع في جنيف في 1960.

أما اليوم، وبعد أكثر من 60 عاما، فهناك انتفاضة ملحوظة –كما يقول الكاتب- ضد النفوذ الفرنسي في منطقة الساحل، حيث انتفض زعماء 3 دول في هذه المنطقة شبه القاحلة: النيجر وبوركينا فاسو ومالي واحدا تلو الآخر، ضد النفوذ الفرنسي في غرب أفريقيا وتحركوا للحد أو القضاء على وجود الجنود والشركات والدبلوماسيين الفرنسيين في بلدانهم.

وقد ألقى الزعماء باللوم على باريس في مجموعة من المشكلات، بدءا بالحملة الطويلة الأمد التي قادتها فرنسا، التي كانت غير فعالة ومدمرة في كثير من الأحيان لاحتواء انتشار التمرد الإسلامي في منطقة الساحل، ومرورا بالتدخل في سياساتهم الداخلية، وانتهاء بالتربح من الإرهاب والعلاقات الاقتصادية غير المتكافئة بشكل صارخ.

وفي ظل الرفض الشديد من جانب فرنسا، رحبت هذه الدول الثلاث غير الساحلية، التي تصنّف من بين أفقر الدول في العالم، بدور أكبر لروسيا، سواء في المساعدة على تعزيز أمنها الداخلي أو في استخراج الثروة المعدنية؛ مثل: الذهب واليورانيوم في أراضيها، ملوحة بإنهاء التعاون مع فرنسا بشأن السيطرة على تدفق الهجرة الأفريقية شمالا عبر الصحراء نحو أوروبا.

وناقشت الدول الثلاث الخروج من الاتحاد النقدي وعملة الفرنك الأفريقي الذي أنشأته فرنسا قبل الاستقلال، وسيلة لدعم الصادرات الفرنسية في المنطقة، وإدامة هيمنة باريس من حيث يقضي بإيداع الاحتياطيات الأجنبية لدى الخزانة الفرنسية، بل إنها تناقش إنشاء عملة ساحلية جديدة لتحل محل الفرنك الأفريقي.

تحديات الساحل

وذهب رئيس النيجر عبد الرحمن تياني، إلى مطالبة فرنسا بدفع تعويضات للدول الأفريقية مقابل سنوات مما شبهه بالنهب، كما تعهد رئيس بوركينا فاسو المجاورة، إبراهيم تراوري بعدم السماح أبدا لبلاده بأن يهيمن عليها الأوروبيون مرة أخرى، مما أثار خيال الملايين من الأفارقة الذين يعيشون في مستعمرات فرنسية سابقة.

ومع أن فرنسا، أشرفت ذات يوم على بناء مشروعات بنية تحتية ضخمة في مستعمراتها؛ مثل: المواني الكبرى والسكك الحديدية والطرق السريعة -وإن تنازلت عن ذلك أخيرا للصين- فإن إجراء مسح لأفريقيا جنوب الصحراء، يترك الانطباع بأن المستعمرات الفرنسية السابقة تتأخر بشكل عام عن نظيراتها المستعمرة البريطانية السابقة، في التنمية الاقتصادية والحكم الديمقراطي والاستقرار السياسي.

ولعل تحديا آخر لزعماء بوركينا فاسو ومالي والنيجر، أن يكون أكثر تأثيرا بمرور الوقت، فهم يتحدون البلدان الأفريقية الأخرى الناطقة بالفرنسية والإنجليزية بهدم الحواجز التي تقسمهم بشكل معوق، لتحقيق حلم الاتحاد الأفريقي بالوحدة.

وخلص الكاتب إلى أن بداية تحقيق قدر أعظم من الرخاء والرفاهية التي يتوق إليها كل الأفارقة لن تأتي إلا عندما تُستأصل الانقسامات، ولن يكون الغضب تجاه فرنسا مفيدا إلا إذا تحوّل إلى حافز لقدر أكبر من القدرة من جانب الأفارقة، على بناء عملاتهم الإقليمية الخاصة والسكك الحديدية والطرق السريعة، وتشكيل اتحادات سياسية واقتصادية على أكثر من مجرد ورق.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: التی کانت فی منطقة

إقرأ أيضاً:

ريمونتادا سياسية.. كيف أخفق اليمين الفرنسي على أبواب قصر ماتينيون؟

مفاجأة كبيرة أسفرت عنها الانتخابات الفرنسية بعد أسبوع من الشحن والاستقطاب بين القوى السياسية المختلفة. أقصى اليمين، الذي كان حتى قبل أسبوع فقط من الآن يفكر في كيفية ضمان الأغلبية المطلقة لتشكيل الحكومة وتمرير برنامجه القائم على ما يسمى "الأفضلية الوطنية" التي تعطي الفرنسيين حصرا حقوق المساعدات الاجتماعية والعمل والسكن وتستثني المهاجرين وتميز ضدهم في كثير من القضايا، يجد نفسه دون سابق إنذار خارج حسابات الحكومة المقبلة بعد أن حل ثالثا خلف كل من "الجبهة الشعبية الجديدة" المكونة من أحزاب اليسار، وتحالف "جميعا من أجل الجمهورية"، ممثل يمين الوسط الذي يقوده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

أما اليسار، الداعم لحقوق الأقليات والمناصر أيضا للقضية الفلسطينية، أصبح الآن القوة السياسية الأولى في البلاد، بعد أن كانت فرنسا تسبح في الأفكار العنصرية والإقصائية منذ الانتخابات الأوروبية الأخيرة، فما الذي حدث بالضبط؟ وكيف وصلنا إلى هذه النقطة المفاجئة وغير المتوقعة؟

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2أبو عبيدة.. حينما تكون البلاغة من فوهة البندقيةlist 2 of 2الشيطان في المتاهة.. لماذا تتساقط روبوتات إسرائيل في أنفاق غزة؟end of list

 

البرلمان الأوروبي.. ضربة البداية

لنفهم ما حدث سنعود إلى يومي الثامن والتاسع من يونيو/حزيران الماضي، وقتها كان الفرنسيون يصوتون لانتخاب ممثليهم في البرلمان الأوروبي، وقد تمكّن حزب التجمع الوطني، ممثل أقصى اليمين بقيادة مارين لوبان وجوردان بارديلا، من اكتساح نتائج الانتخابات بعد حصوله على 31.37% من الأصوات و30 مقعدا برلمانيا، وهو ضعف ما حصل عليه أقرب منافسيه من ممثلي حزب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذين حصدوا 13 مقعدا فقط، وهو عدد المقاعد نفسه الذي حصل عليه الحزب الاشتراكي، في حين لم ينل حزب فرنسا الأبية إلا 9 مقاعد.

بعد نتائج البرلمان الأوروبي، دعا رئيس حزب التجمع الوطني جوردان بارديلا الرئيس ماكرون إلى احترام "العرف السياسي" وإعلان انتخابات تشريعية مبكرة بسبب عدم الاتساق بين الأغلبيتين المتنافرتين في البرلمان الأوروبي والبرلمان الفرنسي، الذي كانت الأغلبية فيه للفريق الرئاسي. ورغم أن ماكرون لم يكن مجبرا على ذلك دستوريا، فإنه استجاب للدعوة معلنا عن انتخابات تشريعية مبكرة تجرى يومي 30 يونيو/حزيران الماضي و7 يوليو/تموز الحالي، مما خلق جوا من الارتباك في الوسط السياسي بسبب "توحش" أقصى اليمين، الذي كان أقرب من أي وقت مضى لحكم فرنسا للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية.

في 30 يونيو/حزيران الماضي، أقيمت الجولة الأولى التي جاءت نتائجها مؤكدةً لما أفرزته الانتخابات الأوروبية، فقد حلّ أقصى اليمين في المركز الأول بنسبة 19.01% بعد جمعه أكثر من 9 ملايين و377 ألف صوت، وهي سابقة بكل ما تحمله كلمة سابقة من معان. حينها بدت فرنسا كأنها تسير نحو الخطوة التي كانت تتوجس منها كثيرا، وهي إعطاء مفاتيح قصر "ماتينيون"، حيث تقيم الحكومة الفرنسية، لحزب عائلة لوبان.

لكن كل أحلام تيار اليمين تبخرت خلال أسبوع واحد، وتلقى حلمه بالسلطة ضربة قاسية غير متوقعة. ونقدم هنا الإجابة عن سؤالين بسيطين ومهمين: كيف سقط أقصى اليمين فجأة في لحظة تاريخية كان فيها على أعتاب نجاح غير مسبوق؟ وما الذي يعنيه ذلك بالضبط؟

"نعاج جرباء"

بمجرد إعلان إيمانويل ماكرون حلّ البرلمان الفرنسي والدعوة للانتخابات، بدأ أقصى اليمين في حشد أذرعه الإعلامية استعدادا للمعركة، وفي مقدمتها مجموعة "كانال" المملوكة لرجل الأعمال المثير للجدل فانسون بولوري. في فرنسا ليس هناك مقدم إذاعي أشهر من سيريل حنونة، صاحب البرنامج الكثيف المتابعة "لا تلمس تلفازي" على قناة "سي 8" المملوكة لمجموعة كانال. حنونة ذو الأصول اليهودية التونسية الذي كان يلعب دور إعلامي الطبقة الشعبية في الماضي، أضحى الإعلامي المفضل لأقصى اليمين، حيث عمل على تبييض وجه عدد من أكثر قادته تطرفا ممن كانوا دائمي الحضور في برنامجه، مثل إيريك زمور وجون مسيحة وماريون ماريشال لوبان، فضلا عن نشطاء يمينيين "شديدي التطرف" مثل جوليان أودول صاحب واقعة التهجم على سيدة محجبة في أكتوبر/تشرين الأول 2019.

بجانب قناة "سي 8″، لعبت قناة "سي نيوز" دورا محوريا في نشر الأفكار العنصرية وفق ما يصفه عدد من المراقبين للشأن الفرنسيّ، كما لعبت القناة دورا رئيسيا في الحشد ضد اليسار بسبب دعمه فلسطين وغزة باعتبار ذلك "معاداة السامية". لكن رغم كل هذا الحشد اليميني، وجد أقصى اليمين نفسه أمام فضائح إعلامية كبيرة لدرجة جعل مجلة "ماريان" -أحد الأذرع الإعلامية لأقصى اليمين- تعنون إحدى مقالاتها بـ"قبل الدور الثاني من الانتخابات.. فشل المرشحين داخل التجمع الوطني"، في إشارة إلى الارتباك الإعلامي والسياسي الواضح في صفوف اليمين.

ببساطة، أظهر العديد من البرلمانيين من أقصى اليمين "ضحالة فكرية ومعرفية غريبة" كما وصفها ناشطون فرنسيون على منصات التواصل الاجتماعي، لدرجة جعلت فيديوهاتهم تنتشر كالنار في الهشيم عبر مواقع التواصل الاجتماعي. لم يتمكن العديد من المرشحين عن التجمع الوطني من الرد ليس على أسئلة تخص الإشكالات الرئيسية التي تعيشها فرنسا، بل عجزوا حتى عن إظهار استيعابهم لبرنامج الحزب الانتخابي، والمثال هنا مثلا المرشح أنيس بوفار عن مدينة آنسي، الذي لم يستطع الإجابة على العديد من الأسئلة التي تم توجيهها له خلال لقاء صحفي حول برنامجه الانتخابي.

???????? FLASH | Anis Bouvard, le candidat RN qualifié pour le second tour à Annecy, n'a pas su répondre à plusieurs questions concernant son programme pour les législatives et a parfois répondu hors sujet.

pic.twitter.com/i50tQzQIak

— Cerfia (@CerfiaFR) July 4, 2024

الأمر نفسه سيتكرر مع مرشحة الحزب في ديجون السيدة سيلين هامبلو كورني، التي أجابت إجابة "غاية في الغرابة" عن سؤال اقتصادي يخص مصادر ميزانية البرنامج الانتخابي الذي يريد حزبها تطبيقه، إذ قالت باستستهال "يجب إيقاف الهجرة حتى نتمكن من جمع هذه الأموال"، دون شرح علاقة الهجرة بتمويل صندوق التقاعد الفرنسي مثلا. رئيس الحزب نفسه جوردان بارديلا رفض في أكثر من مرة خوض مناظرات مع خصومه، واضعا شروطا وصفها خصومه بالتعجيزية لقبول ذلك، مما حوّل جميع المناقشات بشأن البرامج الانتخابية تقريبا إلى مجرد حوارات صحفية تفتقد إلى الحجة والإقناع.

صحيح أن عدم إجابة مرشح برلماني عن أسئلة خاصة بالبرنامج الانتخابي أو تهربه من المواجهة السياسية، قد يؤثر على صورة الحزب، لكن هذه الصورة السلبية قد لا تكون شيئا يذكر أمام التصريحات والتصرفات العنصرية التي أظهرها مرشحو التجمع الوطني طيلة الحملة الانتخابية، والتي تكثفت بشدة قبل جولة الحسم.

ففي الثاني من يوليو/تموز 2024، مثلا، أعلنت لوديفين داودي، المرشحة عن حزب التجمع الوطني في المقاطعة الأولى لمدينة "كن"، سحب ترشحها للانتخابات بعد تسريب صورة لها وهي ترتدي قبعة خاصة بسلاح الجو الألماني النازي. ردا على هذه الواقعة، سيصرح القيادي في الحزب فيليب شاربون بأنه لا يمكن فحص صور تعود لسنوات مضت لكل المرشحين عن الحزب.

سيتكرر هذا الأمر أكثر من مرة ومع أكثر من مرشح، ففي تقرير له حول الأمر، جمع موقع "ميديا بارت" أهم التصرفات العنصرية أو التصريحات التي خرج بها مرشحو التجمع الوطني من قبيل اعتبار المرشح جون إيف لو لوبولونجي أن قبوله "بركة" كاهن أسود اللون يعد دليلا على عدم عنصريته، سنجد أيضا، على سبيل المثال لا الحصر، تصريح النائب دانيل غرونون بأن المواطنين الفرنسيين من أصول مغاربية لهم مكانتهم في البلاد، لكن ليس في المناصب العليا لأن ذلك يتعارض مع هدفه بـ"حماية فرنسا"، وفق مزاعمه.

ورغم أن رئيس الحزب جوردان بارديلا برر هذه التصرفات في تصريح متلفز بأن الأمر لا يعدو كونه وجودا لبعض "النعاج الجرباء" في القطيع، فإنها (التصريحات) في الحقيقة تعكس جوهر رسالة الحزب وتتسق تماما مع برنامجه الذي لا ينكر "التفوق الفرنسي" فقط، ويضع ضمن أولوياته منع الأجانب من الحصول على المساعدات والسكن الاجتماعي، بل منع مزدوجي الجنسية من الأصول العربية والأفريقية من العمل في بعض القطاعات، في حين يُستثنى ذوو الأصول الأوروبية من هذا التضييق القائم على "النقاء العنصري".

 

اليسار ينتفض صورة للفائزين من التحالف اليساري الفرنسي في الجولة الأولى من الانتخابات (الفرنسية)

بعد حصوله على المركز الأول في الانتخابات التشريعية، حسب النتائج التي صدرت يوم الأحد، أشارت التغطيات الإعلامية إلى الأمر باعتباره "معجزة سياسية" كانت بعيدة المنال. ورغم أن التحول الحاصل لم يكن سهلا مطلقا، فإن النتائج التي حصل عليها اليسار في الدور الأول كانت قريبة جدا من الصدارة، فقد حصل على 18.19% من الأصوات مقابل 19.01% لأقصى اليمين، مما يعني فرقا أقل من 1% من الأصوات. رياضيا على الأقل، لم يكن الأمر مستحيلا، لكن هذه "الريمونتادا" استوجبت الكثير من العمل الذي عجز اليمين عن القيام به.

بعد نجاح التجمع الوطني في البرلمان الأوروبي، لم يتمكن اليمينيون من الوصول لاتفاق لتشكيل جبهة موحدة تدخل الانتخابات التشريعية. في البداية، حاول رئيس حزب الجمهوريين إيريك سيوتي (يمين كلاسيكي، ينتمي إليه الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي) قيادة تحالف مع حزب لوبين، لكن هذا التحالف لم ينجح بعد رفض سيناتورات الحزب لذلك، مما جعلهم يحاولون الإطاحة به من منصبه لولا تدخل القضاء.

من جهة أخرى، انشق حزب "استرداد" الذي أسسه إيريك زمور على نفسه بعد أن خرجت الخلافات التي بينه وبين ماريون ماريشال (ابنة أخت مارين لوبان) إلى العلن بسبب تبادل الاتهامات بينهما بعد أن حاولت ماريشال التوصل إلى اتفاق مع خالتها التي كانت ترفض أي اتفاق يكون إيريك زمور طرفا فيه "بسبب تطرفه الشديد".

على العكس من ذلك تماما، لم يأخذ اليسار سوى ساعات قليلة لإعلان تشكيل "الجبهة الشعبية الجديدة"، بوصفه نسخة من الجبهة الشعبية اليسارية التي تأسست في الثلاثينيات من القرن الماضي في فرنسا. تناسى فرقاء اليسار خلافاتهم المحورية حول الكثير من القضايا وتعاملوا ببرغماتية كبيرة مع هذا الاستحقاق الانتخابي لدرجة قيامهم بسحب بعض المرشحين من منافسة مرشحي حزب إيمانويل ماكرون، رغم الخلاف الكبير مع الرئيس الفرنسي، فقط لمنع مرشحي أقصى اليمين من الصعود فيما سمي بـ"السد الجمهوري".

بمجرد خروج النتائج، نقلت الصحافة الفرنسية مقاطع لتجمعات اليساريين في البلاد وهم يصرخون فرحا بإسقاط "الفاشيين" حد وصفهم. بعدها خرج جون لوك ميلانشون، زعيم حزب فرنسا الأبية، أحد أضلع التحالف اليساري، للتأكيد أن الجبهة الشعبية الوطنية ستطبق برنامجها فقط، معلنا عن رفضه الدخول في أية مفاوضات مع التيار الرئاسي.

وقد صبت باقي التصريحات من مختلف القيادات اليسارية في السياق نفسه، حيث أبدى اليساريون مناعة كبيرة أمام وسائل الإعلام، ورفضوا الحديث عن اسم المرشح لقيادة الحكومة، مؤكدين أن الاسم سيُحدد وقف إجماع، وليس عبر فرض الواقع من قبل أي طرف، خاصة حزب فرنسا الأبية الأكثر تمثيلا.

في غضون ذلك، أظهر اليساريون خلال الحملة الانتخابية، وعكس أقصى اليمين، قدرة جيدة على الحوار والإجابة على أسئلة العديد من النقاط الحساسة في برنامجهم، مما يجعل أسماء عديدة من الحزب الاشتراكي وحزب الخضر ومن فرنسا الأبية مطروحين على طاولة إيمانويل ماكرون لمقعد رئيس الحكومة.

والآن.. ماذا ننتظر؟ حقق حزب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نتائج طيبة في جولة الإعادة بحصوله على عدد مقاعد أكثر من اليمين المتطرف (شترستوك)

كان هذا هو السؤال الذي طرحته صحيفة "لو باريزيان" في عددها الصادر في الثامن من يوليو/ تموز الجاري، فرغم أن النتيجة قد أطاحت بـ "كابوس" أقصى اليمين، الذي كان يجثم على أنفاس نسبة كبيرة من الفرنسيين، فإن التعايش بين تيار الرئيس وبين اليسار لن يكون سهلا مطلقا.

حقق حزب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نتائج وُصفت بالجيدة في جولة الإعادة بحصوله على عدد مقاعد أكثر من أقصى اليمين، ويعود الفضل في ذلك بنسبة لا بأس فيها لسياسة انسحاب اليسار في بعض المقاعد، مما جعل نواب ماكرون يحصلون على ميزة التصويت العقابي ضد حزب لوبان.

مباشرة بعد إعلان نتائج الانتخابات، أعلن رئيس الحكومة غبريال أتال تقديم استقالته، إذ من المنتظر أن يتم اختيار رئيس الوزراء الجديد من الكتلة الفائزة، مما سيطرح إشكالا محوريا بين سياسات ماكرون الاقتصادية والسياسية وبين توجهات اليسار الذي جاء ببرنامج "ينقذ فرنسا من الماكرونية"، على حد قول هذا التيار.

سيكون على ماكرون الاختيار بين العديد من الإمكانيات المتاحة، أولا، التعايش مع حكومة يكوّنها اليسار، وهو ما سبق أن حدث -مثلا- في عهد الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران، الذي كان يحكم مع الوزير الأول اليميني جاك شيراك، الذي سيصبح بعد ذلك رئيسا لفرنسا، وهذا السيناريو، حسب بنجامين موريل أستاذ العلوم السياسية في تصريح له لصحيفة "ليبراسيون"، يبقى هو الأقرب.

السيناريو الثاني الممكن والصعب هو التحالف الحكومي، أما الصعوبة فمردّها أيديولوجي في المقام الأول، فقد تعامل تيار ماكرون مع حزب فرنسا الأبية كتعامله مع أقصى اليمين، بحيث أطلق عليهما اسم "التيارات المتطرفة"، وظهر هذا في البرلمان الفرنسي في النقاشات الخاصة بفلسطين مثلا، فقد كان التيار الماكروني في البداية يعلن دعمه الكامل لحكومة نتنياهو الإسرائيلية قبل التراجع قليلا، في حين كان اليسار يرى فيما يحدث في فلسطين إبادة جماعية وتطهيرا عرقيا. الاختيار الأخير نظريا هو تقديم ماكرون استقالته وإعلان انتخابات رئاسية، وهو سيناريو بعيد جدا لأن ماكرون نفسه نفى رغبته في ذلك تماما.

في النهاية، أسفرت الانتخابات الفرنسية عن سقوط لأقصى اليمين، لكن ذلك لا يعني انزواءه عن المشهد تماما. فقد أظهرت النتائج أن هذا التيار نجح في مضاعفة حضوره السياسي بعد حصوله على عدد أكبر بكثير من المقاعد التي كان يحصل عليها حتى الأمس القريب، لذلك يعدّ ما حدث انتصارا جزئيا للفكر الفاشي الذي يجب على فرنسا العمل كثيرا لمواجهته إن أرادت ذلك. بيد أن الأجندات السياسية المتضاربة بين الرئيس واليسار ستظل عائقا كبيرا أمام الاتفاق على سياسات موحدة، مما سيعطي اليمين الفرصة لمواصلة تعزيز حضوره في انتظار الاستحقاق الانتخابي القادم.

مقالات مشابهة

  • الادعاء الفرنسي يفتح تحقيقا في تمويل حملة لوبان للانتخابات الرئاسية عام 2022
  • هل من تأثيرات اساسية لـالانقلاب الفرنسي على لبنان؟
  • ريمونتادا سياسية.. كيف أخفق اليمين الفرنسي على أبواب قصر ماتينيون؟
  • مشاركة خاصة لـ أميرة سليم في احتفالات السفارة المصرية بفرنسا
  • 9 يوليو.. السوبرانو أميرة سليم تشارك في احتفالات السفارة المصرية بفرنسا
  • عقب فوز اليسار بالانتخابات.. اندلاع اشتباكات في فرنسا
  • الزمالك: أحمد سليمان يخضع لجراحة نهاية الأسبوع الجاري.. وهذه كواليس الحصول على الرخصة الأفريقية
  • فيديو.. احتفالات في فرنسا بتقدم تحالف اليسار في الانتخابات
  • فيديو.. احتفالات في فرنسا بفوز تحالف اليسار في الانتخابات
  • الرئيس السيسى يهنئ سيريل رامافوزا بمناسبة رئاسته جنوب أفريقيا لولاية جديدة