الجزيرة:
2025-03-01@00:26:34 GMT

الماء والخُبيزة.. غذاء من لم يمت من عائلات شمال غزة

تاريخ النشر: 27th, February 2024 GMT

الماء والخُبيزة.. غذاء من لم يمت من عائلات شمال غزة

غزة- في كل صباح، يتوجه شادي الصباغ، نحو الأراضي المفتوحة الواقعة شرقي مخيم جباليا شمالي قطاع غزة، للبحث عن نبات "الخُبّيزة" وجمع كميات منه، لعلها تُشبع عائلته التي تعاني من الجوع.

ولا يخلو هذا العمل من الخطورة الكبيرة، نظرا لاستهداف قوات الاحتلال الإسرائيلية للمواطنين الذين يقتربون من المنطقة العازلة التي تنشئها على طول الحدود الشرقية لقطاع غزة.

لكنّ الصبّاغ يرى أن إطعام أسرته، وحمايتها من الموت جوعا، يستحق المخاطرة.

وبعد عودته إلى خيمته المقامة في ساحة مدرسة تتبع لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الأممية "أونروا" بمخيم جباليا، تبدأ زوجته بإشعال النار في الحطب، لطبخ "الخبيزة" عبر سلقها بالماء.

وتعد "الخبيزة" التي تنمو في الحقول والأراضي المفتوحة، في هذه الفترة من العام، خيارا متاحا ومجانيا، لعائلة الصباغ نظرا لعدم امتلاكه المال لشراء الطعام، وكذلك لعدم توفر المواد الغذائية في الأسواق.

و"الخبيزة" طعام شعبي، يحبه الفلسطينيون في غزة، ويقبلون على شرائه من الأسواق، فيما يفضل البعض جمعه بنفسه من الأرض.

الجوع يغتال أسرة شادي الصباغ شأنها شأن بقية سكان شمالي قطاع غزة (الجزيرة) نزوح وجوع

بدأت معاناة أسرة شادي الصباغ جراء الحرب مبكرا، بعد أن دمر جيش الاحتلال منزله الواقع في منطقة المدرسة الأميركية، ببلدة بيت لاهيا، شمالي غرب قطاع غزة.

وعقب ذلك نزح عدة مرات هاربا بزوجته وأطفاله الثلاثة، من نيران الاحتلال، من مكان إلى آخر، إلى أن استقر به المقام في مركز إيواء بمدرسة تتبع لوكالة "أونروا".

وما إن بدأت الأسرة تشعر بالاستقرار، حتى بدأ الجوع يعصف بها. يقول الصباغ للجزيرة نت "عاجزون عن حماية أطفالنا، وعاجزون عن إطعامهم".

ويوضح أنه يشعر بألم شديد حينما يطلب منه أطفاله الطعام، ولا يستطيع توفيره لهم. ويقول إن خيمته تخلو تماما من الطعام، وإن أسرته لا تتناول حاليا إلا الماء و"الخبيزة".

ويضيف الصباغ "كان الحال صعبا منذ خروجي من منزلي، لكن هذه الأيام ازدادت صعوبة بسبب نفاد المال لدي وانقطاع كامل مقومات الحياة بسبب منع الاحتلال إدخال المساعدات إلى شمال قطاع غزة".

وقبل حوالي شهرين، كانت أسرة الصباغ تحصل على بعض "الأرز" من جمعية خيرية، وهو ما كان يمكنها من تناول بعض الطعام. أما الخبز، فمنذ عدة شهور، لم تذقه الأسرة نظرا لنفاد الدقيق في الأسواق، وارتفاع أسعاره بشكل فاحش في "السوق السوداء".

أما بخصوص "اللحوم"، فيقول الصباغ إنه وأسرته لم يتذوقوها منذ بداية الحرب، نظرا لارتفاع أسعارها. وحول الأصناف التي اشتراها خلال آخر زيارة له للسوق، قال "اشتريت الشاي وبعض الجزر ولم أستطع شراء سكر لارتفاع ثمنه".

واليوم، يضطر الصباغ وعائلته، إلى الاكتفاء بالماء وبوجبة واحدة في اليوم، تكون غالبا من الخبيزة. ويضيف "أنا وزوجتي نستطيع الصبر، لكن هؤلاء الأطفال كيف يصبرون على الجوع؟".

وانعكس الجوع على أوزان عائلة الصباغ، حيث انخفضت بشكل لافت خلال فترة الحرب، وخاصة في الآونة الأخيرة. ويقدّر الصباغ أنه فقد ما لا يقل عن 20 كيلوغراما من وزنه، حيث يقول إنه كان يزن قبل الحرب 80 كيلوغراما، والآن لا يتجاوز الـ60.

ويشير إلى أن طفله الأكبر "محمد" أُصيب برصاص الاحتلال، حينما كان يحاول الحصول على بعض الطحين من بقايا منزلهم المدمر، وكاد يفقد حياته.

وتتطرق زوجته شادية إلى جوانب أخرى من معاناته مع الجوع، تتمثل بإصابة أطفالها بالأمراض، والهزال والضعف الشديد، بسبب عدم توفر الطعام، والماء النظيف. وتضيف للجزيرة "أولادي مصابون بسوء التغذية ولا أستبعد إصابتهم بفقر الدم".

المجاعة تقتل

ولا يختلف حال أسرة الصباغ عن أحوال عائلات شمالي قطاع غزة، حيث تعصف المجاعة بالمنطقة جراء منع جيش الاحتلال الإسرائيلي إدخال الطعام للسكان، منذ بداية الحرب الوحشية التي بدأت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

ويقول إسماعيل الثوابتة، مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، إنه تم تسجيل 8 حالات وفاة في منطقة شمالي القطاع، نتيجة المجاعة وسوء التغذية.

وأضاف الثوابتة للجزيرة نت "المجاعة تتعمق بشكل كبير جدا في الشمال حيث يعيش نحو 700 ألف إنسان، وسط حصار شديد من قبل الاحتلال، الذي يمنع إدخال المساعدات بشكل كامل منذ بداية الحرب".

وأضاف "نحذر من أن تعمّق المجاعة سيجعلنا في كل ساعة وكل يوم، نفقد الكثير من الأطفال وكبار السن من أبناء شعبنا".

وأشار إلى وجود نحو 60 ألف سيدة حامل، في منطقة شمال القطاع، لا يتلقون الرعاية الصحية ولا الغذاء اللازم، وهو ما قد يؤدي إلى إجهاض الأجنة أو تشوه المواليد.

أسرة شادي الصباغ لا تملك سوى جمع نبات الخبيزة من الحقول كي تبقى على قيد الحياة (الجزيرة) حالات تسمم

من جانبه، يؤكد رائد النمس، المتحدث الرسمي باسم جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، ما ذهب إليه الثوابتة حول وفاة العديد من الفلسطينيين في شمالي القطاع بسبب الجوع.

وقال النمس للجزيرة نت "وصلنا أن عددا من الأطفال وكبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة توفوا بسبب عدم الحصول على الغذاء، كما وصلنا أن هناك إصابات للأطفال بفقر الدم وأمراض أخرى متعلقة بالجوع وسوء التغذية".

وأضاف "علمنا أن هناك حالات تسمم، بسبب تناول غذاء فاسد، جراء عدم وجود الطعام النظيف".

وأفاد النمس بأن ما يصل لشمالي قطاع غزة، من مواد تموينية، قليل جدا، مضيفا "جيش الاحتلال لا يسمح بإدخال شاحنات كافية لتلك المنطقة، كما أن هناك تراجعا في أعداد الشاحنات التي تصل من الخارج عبر معبر رفح لكل القطاع، وهذا يرجع لعمليات التفتيش التي تستغرق وقتا طويلا، واعتداءات المستوطنين الإسرائيليين على قوافل المساعدات، وهو ما يمنع دخولها".

وحول الآلية الجديدة التي تحدثت عنها حكومة الاحتلال وتقضي بإدخال مساعدات لشمالي القطاع بشكل مباشر، قال النمس "حتى اللحظة، لم يصلنا أي قرار يفيد بوجود انفراج في أعداد الشاحنات، نسمع من الإعلام فقط".

وكانت القناة الـ12 الإسرائيلية، قد قالت الثلاثاء، إن مجلس الحرب، قرر إدخال المساعدات مباشرةً إلى غزّة، دون توضيح.

وناشد النمس المجتمع الدولي، والمؤسسات الدولية، بالضغط على إسرائيل لاحترام المواثيق الدولية التي تُجرّم سياسة التجويع والعقاب الجماعي وقطع الإمدادات الغذائية.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: شمالی قطاع غزة

إقرأ أيضاً:

عبد اللطيف البوني: شمال الجزيرة في حرب السودان (١٥ أبريل ٢٠٢٣ – ؟؟؟) من اللعوتة الي نيويورك

بسم الله الرحمن الرحيم
شمال الجزيرة في حرب السودان (١٥ أبريل ٢٠٢٣ – ؟؟؟)
من اللعوتة الي نيويورك
(الدخلت فينا ما بتمرق تاني … فأنا الآن غيري(
عبد اللطيف البوني
(١(
إلى روح رفيق الدرب منذ الطفولة إلى الكهولة وزميل الدراسة من كنبة الأولية الى قاعة المحاضرات وتوأم الروح الأبدي الدكتور الصديق محمدأحمد مضوي (الاسم الصحفي: صديق مضوي) كنت دائما أقول: إن (ربنا بريدك) لأنك كنت محبا لكل الناس بما فيهم المختلفين معك في كل شي وليس أدل على محبة الله لك من أنك رحلت عن الدنيا بسودانها قبل يوم ١٥ أبريل ٢٠٢٣.. بعد هذا التاريخ انفتحت علينا صفحة مختلفة كان لابد أن يكون أول سطورها إهداء لك وتوسلا بك.. وهذا لأمر قدره الله كما سنرى في آخر المقال .
(٢(
حرب السودان الجارية الآن ليست حربا تقليدية بين قوتين مسلحتين إنما في شقها الاكبر عدوان من قوة مسلحة على مواطن أعزل لا يعرف حتى (صرف العكاز) ولكن العلاقة بين الاثنين الحرب والعدوان متداخلة بصورة ديالكتيكية Dialectical) ) أي أن كل مكون يؤثر على الآخر بصورة لا يمكن الفصل بينهما.. فمثلا لو أخذنا مسألة (التغنيم) التي أسهمت في التحشيد للدعم السريع سوف نكتشف أن لها دورا كبيرا في فتّ عضده لاسيما وأنها ارتبطت بالانتماء القبلي وبالتالي يكون المُعتدى عليهم أشتركوا في الحرب ولو بغير إرادتهم. نعم كل السودان من (خرطومه الي كرشه الي أرجله) عانى من هذه الحرب ودفع ثمنا باهظا في الأنفس والممتلكات ولكن مع ذلك كانت هذه المعاناة بدرجات متفاوتة فالولايات التي تشهد معارك حربية وعدوانا غير تلك التي لم تشهد غير المسيرات .. والمناطق التي توقفت فيها الحياة غير تلك التي استمرت فيها والقرى المنكوبة غير تلك التي لم تسمع لعلعة الرصاص والناس الذين فروا وتشردوا وفقدوا كل شئ غير أولئك الذين تضرروا بصورة غير مباشرة .. غنى عن القول إن هذا التفاوت لم يكن اختيارا إنما كان بأمر المعتدي..
منطقة شمال الجزيرة وهي إداريا محلية الكاملين. عاشت الحرب بكل أهوالها وفواجعها ومآسيها من يوم الحرب الأول لا بل قبله بيوم أي يوم ١٤ أبريل حيث كان هناك انقلابا في اللواء الأول مشاة بالباقير… وقد زاد سعار الحرب في هذه المنطقة بمتوالية هندسية بعد سقوط ود مدني في ١٨ ديسمبر ٢٠٢٣. لقد تجرع إنسان هذه المنطقة هذه الحرب قتلا وسحلا ونهبا وتشردا ونزوحا لا بل حتى زرعها وضرعها تعرض للهلاك
(٣(
مواطن شمال الجزيرة لم يقابل سكين الحرب بالإتكاء لها كما يترأى للناس إنما دافع ونافح وصانع وسايس ولاعب وضاحك (فهناك كوميديا سوداء) والأهم كانت الممانعة وكل هذا يندرج فيما أصطلح على تسميته بالمقاومة الأولية (Primary Resistance) وهذه محدودة الأثر فالسيف لا يتحدى المدفع إلا في الشعر كما غنى َوردي (كيف بالسيف تحدى المدفع) و(كانت أسياف العشر) رحم الله وردي فهو من سعداء السودان لأنه غنى غناء باذخا أطرب كل السودان ورحل قبل يوم ١٥ أبريل ٢٠٢٣..
(٤(
حتى في شمال الجزيرة كان هناك تفاوتا كبيرا في مجريات الحرب وآثارها ف(قرى البحر) أو قرى الظلط (المقصود شارع الخرطوم مدني) وهي تلك التي تقع على ضفة النيل الأزرق الغربية والتي تمتد من بترى الي ود الماجدي مرورا بالكاملين كانت تجربتها متشابهة وليست متطابقة باستثناء التكينة فقد قدمت تجربة متفردة وهذه قصة ثانية لابد من أن تروى في يوم من الأيام .. قرى( الضهرة) وهي التي تتوسط مشروع الجزيرة في تلك المنطقة فتجربتها هي الأخرى متفاوتة فالسريحة ثم أزرق سمع بهما كل السودان.. ويكتمل مربع هاتين القريتين باللعوتة ثم ود لميد ولكل منهما تجربة متفردة فود لميد أخليت تماما من السكان لزوم( الشفشفة) ثم فتحت عليها المياه فأضحت معظم المباني بين ساقطة أو آيلة للسقوط وأصبحت الكائنات الحية الموجودة فيها أسماك القرموط فقط .. كاب الجداد وقرى أخرى كانت فريسة للنسخة الثالثة من الدعم السريع. سكان شمال الجزيرة يقارب عددهم مليوني نسمة. وهم موزعون في مئات القرى التي كانت آمنة ونامية ومستقرة استقرارا يقارب عمره الـ ١٤٠ عاما وفجأة وبدون مقدمات وبصورة دراماتيكية ذهب ذلك الأمن والاستقرار والتطور والوداعة مع الريح .. أما الكنابي الكثيرة المتناثرة في المنطقة (لدي تحفظ كبير على كلمة كمبو) لكن نتركه الان فخطأ شائع خير من صحيح مهجور كما يقولون.. فهذه القرى المسماة كنابي عانى معظمها من هذه الحرب أكثر من القرى القديمة ففي الشهور الأولى من الحرب قوبلت الكنابي بعدوان عنصري عنيف من جهة قوات الدعم السريع وفيما بعد انضم بعض أبناء تلك الكنابي أكرر بعض للدعم السريع كما فعل بعض أبناء القرى القديمة وساعات الضراوة لم يقتسم سكان تلك الكنابي المسالمة اللقمة مع سكان القرى الكبيرة بل تنازلوا لهم عنها. إن الكنابي أضحت من قرى الجزيرة وجزءا لا يتجزأ من نسيجها الاجتماعي وهذه قصة أخرى سوف نتوقف عندها في يوم قادم، ان شاء الله .
)٥(
في تفصيل لما ذكرنا في الفقرة السابقة وباختصار شديد نأخذ تجربة قرية اللعوتة فهذه القرية يبلغ عدد سكانها حوالى ٢٥ الفا تقريبا وزاد بعد النزوح الذي أحدثته الحرب الي ثلاثين ألف تقريبا.. وهي من القرى الكبيرة و المنتجة هذه القرية قابلت العدوان بكل ضروب المقاومة الأولية من رفض وممانعة ومصانعة ومسايسة وقدمت خمسة شهداء أربعة خارج القرية وواحد داخلها. وغادر نفر قليل منها إلى خارج السودان بعد سقوط مدني كما شهدت استقرارا نسيبا في معظم عام ٢٠٢٤ لكنه كان استقرارا مشوبا بالحذر جرت تحته تفاعلات أدت إلى غزوها في ١٤ نوفمبر ٢٠٢٤ بمتحرك قتالي كامل قوامه عشرات العربات المقاتلة ومئات المواتر يقدر بثلاثة آلاف محارب فشرد كل أهلها وارتقى فيها ٢٥ شهيدا رميا بالرصاص وأكثر من هذا العدد أثناء عمليات النزوح ونهبت كل ممتلكات الأهالي من العربات إلى الملايات مرورا بالأدوات الكهربائية والمحاصيل والأنعام – جار الآن حصر الخسائر بواسطة مختص من أبناء القرية – والتي تصل إلى ترليونات أي عشرات الملايين من الدولارات واستمر الاجتياح لمدة ١٨ يوما (تفرزع)) السكان فيها في الخلاء أي الحواشات المحيطة بالقرية ثم استجاروا بالقرى المجاورة والواقعة تحت سيطرة ذات الدعامة (الدعامة هو الاسم السائر في المنطقة لأفراد الدعم السريع) بما فيها الكنابي وقد استقبلوا استقبالا يفوق حد الوصف وبعد أن تمت عملية النهب التام للقرية (الشفشفة) عاد الأهالي للتمسك بجدران بيوتهم الخالية حتى من (الكدايس) وكانت كل البنى التحتية من مواسير مياه ومحولات كهرباء وأبراج اتصالات قد حطمت ونهبت كل أدوات الطاقة الشمسية وشبكات الاستارلينك التي أشتريت من ذات أفراد الدعم. والحال كذلك نزح حوالى ثلثي سكان القرية إلى ولايات السودان الاخرى. كانت عمليات النزوح هذه عالية المخاطر غالية التكلفة لأنها بواسطة الدعامة الذين احتكروا قطاعي النقل والتجارة وللمفارقة ان العربات والبضائع قد تمت شفشفتها من ذات المواطنين (فالدعامة اتقنوا آليات الاحتلال دون تخطيط منهم!!! ) نزحوا من أجل الأمن وبعضهم من أجل التعليم والعلاج وبعض الشباب للعمل إذ طالت بهم العطالة.. بقى الثلث الآخر من السكان يقاوم ويحاول إعادة الأعمار وانتهت المقاومة الأولية بإعادة سيطرة القوات المسلحة على المنطقة ساعة كتابة هذا المقال تم تحرير معظم الجزيرة واصبحت القوات المسلحة على تخوم حدود الخرطوم الجنوبية.. النازحون من القرية لم يقيموا في دور إيواء أو معسكرات نازحين إنما استأجروا منازلا وصرفوا على أنفسهم من حر مال أبنائهم المغتربين. المغتربون وأبناء القرية المقتدرين هم الذين (شالوا الشيلة) في كل مراحل نكبة القرية.
(٦(
قصدنا من الفقرة أعلاه القول بأنه يجب عدم السقوط في مستنقع التعميم فلكل منطقة تجربة في الحرب ولها تفاصيل مختلفة لذلك لابد من تجميعها كلها وربطها بما يدور علي المستوى القومي والاقليمي والدولي ومن الخيوط التي يمكن تتبعها لهذا الربط المال السياسي وما أدراك ما المال السياسي فهو يربط بين من يرتدي أشيك بدلة في العالم وآخر يمشي (ملط) لم تعرف الملابس إليه سبيلا لن يلتقيا ولكنهما مسخران لهدف واحد يبتغيه دافع المال ومثال آخر للربط ففي ذات اللعوتة كانت المعاملة بين الجاني والمجني عليه تتأثر بما يجري بعيدا عن القرية فمثلا موقف الحكومة الرافض لمفاوضات جنيف انعكس على القرية بالمزيد من العنف والتنكيل علما إن قرار المفاوضات كان قرارا أمريكيا بدعم إقليمي والرفض كان قرارا حكوميا سودانيا هكذا دفع مواطن القرية الغلبان ثمن َموقف سياسي تبلور في عواصم بينه وبينها بيداء دونها بيد على قول المتنبي. الرصاصة التي سقت أرض اللعوتة من دم الشهيد مهند عمر يوسف في 25 ديسمبر ٢٠٢٣ وهو أول الشهداء داخل القرية إلى الرصاصة التي أودت بحياة الشهيد بابكر محمد علي ابراهيم في الأسبوع الأخير من يناير ٢٠٢٥ وهو آخر شهيد في القرية وما بين هذين الشابين النضرين من كوكبة شهداء أيام الاجتياح هذه الرصاصة كانت تحملها يد ليس لها معرفة بصناعتها وكان يطلقها عقل مغيب ولسان ينطق بكلمات لا يعرف معناها فالجاني رغم أنه مسؤول جنائيا هو الآخر ضحية لأنه نفذ ما كان يدور في فنادق (مدن بعيدة تنوم وتصحى على مخدات الطرب) كما غنى حمد الريح في الساقية (رحم الله حمد فهو من سعداء السودان لأنه رحل قبل ١٥ أبريل ٢٠٢٣) .. فالعالم أصبح قرية ليس في الإعلام و(الهيشك بيشك) إنما أيضا في الموت والدمار>
(٧(
على المؤسسات الأكاديمية والصحفية وكل الجهات المهتمة بالمعرفة واجب القيام بالدراسات المعمقة لهذه الحرب ومنذ يومها الأول وذلك بتجميع كل التفاصيل وفي كآفة بقاع السودان وربطها بمسبباتها على كافة الصعد الدولية والإقليمية.. ففي هذه المرحلة يجب القيام بعملية الرصد والمتابعة لكل يوميات الحرب ثم يأتي بعد ذلك التحليل والاستنتاج وبالتالي استخراج الدروس والعبر.. والان مع إتساع المعرفة وتطور التقانة وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي يجب أن يقوم أهل السودان المعاصرين بكتابة تاريخ هذه الفترة بأنفسهم ولا يتركوه لذوي الأجندات لكي يكيفوه على هواهم. إن ما يجري الآن في بلادنا ناتج جزئيا من الغش والتزوير الذي حدث في تاريخنا.. إن الذين أرخوا للسودان الحديث من أمثال ماكمايكل وترمنغهام وهولت ونعوم شقير وكل المؤرخين السودانيين كتر خيرهم ما قصروا وان كان فيهم من صور لنا فترات مظلمة من تاريخ السودان بأنها كانت مشرقة.. ولكن نكبة السودان الحالية يجب أن يؤرخ لها أي سوداني عايش هذه الأحداث فهو جبرتي قائم بذاته (المؤرخ المصري الجبرتي هو الذي قام برصد يوميات حملة نابليون في مصر) يجب الإسراع بالتوثيق لأن كل الشهود حاضرين الآن ومن رأى ليس كمن سمع فليس هناك مجالا للتزوير والتدليس فلا تضيعوا هذه الفرصة ويجب أن نتخذ منهجا علميا في الرصد والمتابعة وذلك بإنشاء قواعد بيانات فرعية لتصب في قاعدة بيانات عامة وعدم تجاهل ما كابده المواطن العادي في هذه الحرب. إن جمع المفرق من مشروعيات البحث العلمي فالتاريخ الحقيقي ليس تاريخ القادة ومتخذي القرار وحدهم إنما هو أيضا تاريخ من وقع عليه فعل الفاعل فالشاعر الألماني ذائع الصيت بيرخت يقول (مدينة طيبة ذات الأبواب السبع .. من الذي انشأها؟ هل حمل الملوك كتل صخرها.؟. ..) إن ما حدث لنا من كارثة لم تهبط من السماء إنما خرجت من غفلتنا وجهلنا هذا له ثلاثة مكونات محلي وإقليمي ودولي
(٨(
عذرا عزيزي القاري أرجو أن تسمح لي ببعض الأسطر أنكفي فيها على الذات دون الخروج عن الموضوعية في هذا المقال بل تدعيما لها فأصلاً انا كنت متوقف عن الكتابة الصحفية منذ مارس ٢٠٢١ وبرسالة للأستاذ الصديق/ عطاف محمد مختار رئيس تحرير صحيفة السوداني المحترمة ف(البطن كانت طامة) مما يجري في الساحة السياسية وبعد اندلاع الحرب أصبح التوقف إجباريا والنفس (انسدت) أكثر من الكتابة وأنا اكتب هذا المقال ب(جاز المصافي) وهذه بلغة السواقين تعني أن وقود الخزان( التنك) قد نفد. فليست لدى أي رغبة او قدرة على الكتابة لا إجرائيا ولا موضوعيا فمن ناحية إجرائية فليست لدي أدوات الكتابة من لابتوب ومنضدة وكرسي فالجماعة ( شفشفوا) كل البيت وتركوه قاعا صفصفا فأنا الآن أكتب على الموبايل رغم صغر الكيبورد وضعف النظر.. أما من ناحية موضوعية فإني أشعر بأنني ليس ذلك الشخص الذي كان قبل ١٥ أبريل ٢٠٢٣ فالروح مجروحة والخاطر مكسور والحيل مهدود والوجدان مضطرب والنفس حزينة والزهد في أي شئ أصبح سيد الموقف فما زلت غير مصدق لكل الذي جرى. إن ما كابدناه لم نره في أعتى أفلام الرعب الخيالية. إنه لا يمكن أبدا أن يصبح مجرد ذكريات (فالدخلت فينا ما بتمرق تاني) ويبدو أن قول الحلنقي البليغ قد انطبق علينا (حسرة سنيني الراحت ما بترحم الجايات) ولكن في نفس الوقت يلح العقل على بضرورة الابتعاد عن الياس والإحباط والعمل مع الآخرين لتعمير القرية المنكوبة وعلى المستوى القومي بذل جهد المقل في بناء الوطن المغدور من جديد وليس إعادة بناء الذي ذهب مع الحرب فذلك قد قام على أسس واهية وهذه قصة أخرى هامة لابد لها من وقفة قادمة.
(٩(
السبب المباشر في الكتابة اليوم هو أنني وجدت فرصة ثمينة في شبكة الاستارلينك كما وجدت فرصة أثمن لشحن الموبايل بالطاقة فتصفحت الكثير من المواقع والدردشات فوجدت سودانا إسفيريا مختلفا غير الذي نعيشه نحن هنا.. تأكدت أن الهوة متسعة جدا بين السودانينِ الإسفيري والواقعي فقلت أرسل هذه الكلمات عسى أن تكون طوبة في مدماك الوصل بين السودانين.. إن الهوة الواسعة بين السودان الاسفيري والواقع سوف يدخل منها شر مستطير لذلك لابد من تدارَكها. فإن شاء الله هذا ما سوف أواصل الدندنة فيه ولكن بعد فترة بسبب بعض المراجعات الطبية فالحرب قد حولت (الموية البيضا) في العين إلى سوداء (جلاكوما) كما أن الظهر والقلب و(حاجات تانية حامياني) تحتاج إلى مراجعة فقد كنا في حالة (ملاوة) مع الموت كما قالت إحدى الفضليات. فإن كان الموت مشكورا قد أجل ضربته القاضية الحتمية واعطانا زمنا إضافيا وضربات جزاء لكنه ترك مقدماته فينا فدعواتكم لنا بتجاوز آثار هذه الملاوة . إنني اناشد كل الذين يرون أن السودان الاسفيري سوف يؤدي بالسودان الواقعي أن يتركوا الكسل ويقتحموا الأسافير ويحكوا عن الواقع ليجعلوا أجندته هي السائدة بدلا من (خمج) الأسافير
(10)
لابد من (كسرة) لكسر حدة هذا المقال الذي طال بسبب احتشاده بروؤس المواضيع ففي تصفحي المشار إليه أعلاه وجدت مقالة اقتطف فيها كاتبها أسطرا من مقال للراحل صديق مضوي عن الحدود قال فيه (إن حدود السودان الحالية نعمة عليه ولكن قد تكون نقمة إذا لم نحسن إدارتها) وقال الكاتب إن ما حذر منه صديق قد حدث الآن والإشارة للحرب الحالية وبالمناسبة دكتوراة صديق كانت عن حدود السودان وقد كانت رسالة علمية مجودة يمكن أن تخرج منها عدة أوراق عمل (Working Papers) ولكن من يقرأ ومن ينشر؟ منعتني الدموع المنهمرة من إكمال المقال فسرحت مع طيف الصديق فتذكرت قصة عمرها أكثر من نصف قرن تدل على نبوغ الصديق المبكر فعندما كنا تلاميذا في رابعة أولية. اعمارنا بين الحادية عشر والثانية عشر. وفي غمرة الاستعداد لإمتحان الدخول للمرحلة الوسطى أعطانا الأستاذ اختبارا تجريبيا في مادة الدين فأحرز معظمنا الدرجة الكاملة فقد كان الاختبار سهلا (موية بس) بلغة تلك الأيام لكن الصديق نقص درجة فتأكدت أن في الأمر شئ غير عادي فذهبت إليه بعد خروج الأستاذ وسالته عن غلطته فقال لي ما عندي غلطة.. أها الحصل شنو؟ فقال لي أن السؤال الذي يقول متى تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم السيدة خديجة طبعا كلكم أجبتم بأنه عندما كان عمره ٢٥ عاما لكن أنا أخذت تاريخ ميلاده في عام ٥٧١ ميلادية وأضفت إليها ال٢٥ سنة فكانت اجابتي عام ٥٩٦ م لان السؤال لم يكن كم كان عمره بل كان متى فأندهشت وأعجبت أيما إعجاب بما قاله فقلت له طيب ياخي أمشي راجع الأستاذ فقال لي ما في داعي طالما أنا عارف الصاح فالححتُ عليه ودفعته دفعا للدخول على الأستاذ في المكتب وعندما شرح له الصديق إجابته ما كان من الأستاذ إلا وأن أخذ الورقة وكرفسها وقذفها بالشباك قائلا لصديق (بلاش فلسفة معاك) أها (شفتو كيف الوجع قديم؟) رحم الله ذلك الأستاذ وغفر له ولصديق ولنا جميعا.
وأخيرا عزيزي القاري هذا المقال ليس موجها لمنصة إعلامية معينة فمن رأى فيه ما يستحق النشر أو التدوير فليفعل وإن كانت هناك ثمة أمنية فإنني أتمنى على كل السودانيين دون استثناء إذا ما التقى أي واحد منهم بأحد من معارفه بعد غياب بسبب هذه النكسة أن يقالده ويبكيييييي لعل في ذلك تكون بداية للتعافي الوطني.

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • تحذير أممي.. أزمة غذاء تهدد أطفال لبنان
  • تدمير المرافق الطبية يفاقم معاناة الجرحى والمرضى شمال قطاع غزة
  • لغة ترامب التي يجيدها!
  • مشاهد من تجهيز مصلى لآداء الصلوات في شمال قطاع غزة المدمر (فيديو)
  • ما الدروس التي استخلصتها شعبة الاستخبارات الإسرائيلية من فشل السابع من أكتوبر؟
  • عبد اللطيف البوني: شمال الجزيرة في حرب السودان (١٥ أبريل ٢٠٢٣ – ؟؟؟) من اللعوتة الي نيويورك
  • الهلال الأحمر الفلسطيني: تلقينا استغاثات من عائلات عالقة في مخيم نور شمس
  • شهيدان بانفجار مخلفات للاحتلال شمال قطاع غزة
  • طولكرم: عائلات عالقة في مخيم نور شمس توجه نداءات استغاثة 
  • الاحتلال ينفذ مداهمات في مخيم نور شمس بالضفة.. وتبلغ عائلات بإخلاء منازلها