إذا تأملنا جميع العبادات سنجدها تقوم على مبدأ اليسر والتسهيل على الناس، وقد ميز الله تعالى أمة الإسلام عن غيرها من الأمم بيسر العبادات فقد قال الرسول الكريم - عليه الصلاة والسلام: "عليكم بما تطيقون فإنّ الله لا يملّ حتّى تملّوا"، ويسر العبادة يخفف على الناس المشقة ويجعل أداء العبادة سهلا ميسورا.
وتبقى القدوة الحسنة بعد ذلك هى أحد ركائز بناء الإنسان والمجتمع، وهي عامل التحول السريع الفعال، فالقدوة عنصر مهم في كل مجتمع، فمهما كان أفراده صالحين فهم في أمس الحاجة للاقتداء بالنماذج الحية، وتشتد الحاجة إلى القدوة الحسنة كلما بعد الناس عن قيم الإسلام وأخلاقه وأحكامه، كما أن الله - عز وجل - حذر من مخالفة القول للفعل الذي ينفي كون الإنسان قدوة بين الناس فقال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ".
وللأسف الشديد في وقتنا الحالي يعيش الناس صراعاً رهيباً، بسبب فقد القدوة الحسنة فى ظل إبراز النماذج السيئة والشاذة على أنها كريمة المجتمع، وتقديم القدوة السيئة الفارغة لتكون مثالاً لهم، ومن السهل جداً تقديم منهج نظري في التربية في غاية الإتقان والإبداع، ولكنه يظل حبراً على ورق لا قيمة له، إلا إذا تحول إلى واقع عملي يطبقه، فكثير من الناس يتغنى بالصدق ولكن ندر الصادقون، ويتغنون بالأمانة ولكن ندر أهل الأمانة، وقل الوفاء، ونقضت العهود.
فما أحوجنا الآن للقدوة الحسنة التي تعيننا على السير في خطى ومنهج واضح سليم لا تشوبه شائبة، وقد شرع الله عز وجل لنا منهجا معجزا، تحولت فيه المقولات والنظريات التربوية إلى واقع عملي في حياة الناس، حيث بعث الله عز وجل نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - قدوة تتحرك بين الناس، ليعلموا أنه المنهج الحق الذى لا مراء فيه، فهو يتجسد في القدوة الطيبة والمثل الأعلى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - خير الخلق وأشرف المرسلين.
ولا أحد ينكر أننا في حاجة دائمة إلى إبراز القيم والأخلاق والمبادئ السامية، والتوعية الدائمة بصحيح الدين وإيضاح جانب اليسر والسماحة في الشريعة الغراء ونبذ كل ألوان التشدد والمغالاة، والتأكيد دائما على أن القدوة الحسنة هي أحد الركائز الأساسية في بناء الإنسان والمجتمع.
ولذا فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حينما هاجر إلى المدينة قام ببناء المسجد لبناء الإنسان روحيا وسلوكيا، وفق مبادئ إيمانية ترسخ فيه القيم والفضيلة والدعوة إلى الخير وتحمل المشاق في سبيل تحقيق ذلك، ولتحقيق هذا الهدف المنشود لابد أن تتحرك كل القوى وتتوحد الجهود.
وليتنا ندرك جميعا أن بناء الحضارة يبدأ ببناء الإنسان الصالح اليقظ لمصلحة وطنه والخائف على تراب بلده من الطامعين، والمترصدين له بالأفكار الخبيثة، والدعوات الشيطانية لهدم الدولة.
فى الوقت نفسه لا بد من تجلية جانب اليسر والسماحة في الشريعة الغراء، ومن ثم التعامل مع أحكامها في ضوء المقاصد العليا والكلية لديننا الحنيف، ونبذ كل ألوان التشدد، والتنطع والمغالاة بما ينافي روح الدين وسماحته، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم بالغلو في الدين"، وقال أيضًا: "إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين"، وقال أيضًا: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا"، وقال أيضًا: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثًا، وقال أيضًا: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا.. ".
اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين الهداة المهديين، لا من الضالين ولا المضلين، وباعد بيننا وبين الغلاة المتنطعين.
[email protected]
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: صلى الله علیه وسلم القدوة الحسنة وقال أیض ا
إقرأ أيضاً:
من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه
يؤدي الإنسان الأعمال الصالحة في هذه الدنيا على أمل النجاة يوم القيامة والفوز بالنعيم الأبدي، ويجاهد نفسه للابتعاد عن المعاصي والآثام، ويتوب عنها ويستغفر الله طالبًا العفو والمغفرة. ومع ذلك، فإن بعض الذنوب لا ينال صاحبها الغفران إذا كانت متعلقة بحقوق الآخرين، حيث إن هذا الأمر يعد خطيرًا في الشريعة الإسلامية، وقد وردت العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تؤكد على ضرورة رد الحقوق إلى أهلها. فقد قال النبي الكريم في شأن حقوق الناس: "أدوا الخيط والمخيط، فإن الغلول عار ونار وشنار على أهله يوم القيامة"، وقد يحقر الإنسان القليل من أموال الناس ومتاعهم ومتعلقاتهم، إلا أن ذلك القليل قد يكون سببا في دخوله النار.
وسبب تشديد الشريعة الإسلامية في هذا الجانب عائد إلى أمور كثيرة تتجاوز القيمة المادية لحقوق الناس إلى جوانب الدينية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية، فتغول أموال الناس وأغراضهم وأمتعتهم بالباطل هو انتهاك لحرمة المسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه"، ثم أنه لو تأملنا المنافع وأعمال الخير التي تستمر بسبب حفظ الناس لأمانات بعضهم البعض وأغراضهم لوجدنا أن في ذلك نفعا يعم المجتمع ويصلح أمور الناس وأعمالهم.
فبعض المعاصي هي ذنوب حذر منها الشارع الحكيم لأنها تعد مخالفة لأوامره بالإضافة إلى أن هذه المعاصي تعتبر معاول هدم لكثير من القيم في المجتمع، فلو أتينا إلى مسألة التداين في الإسلام التي ذكرها الله في أطول آية في القرآن الكريم لما لها من الأهمية في أن تبقى هذه القيمة الأخلاقية والاقتصادية قائمة في المجتمع، تجعل الناس يستفيدون من هذه المعاملة في الخروج من الضوائق المالية وجلب المنافع الشخصية والأسرية وانعكاس ذلك كله على التكافل الاجتماعي، فأوصى القرآن الكريم بأن تتم كتابة الدين، وإحضار الشهود ليكونوا شهداء أمام الله وخلقه، إذا حدث خلاف بين الدائن والمدين، لكي لا تضيع الحقوق عند المطالبة بها أمام الجهات القضائية، ولو اتبع الناس توجيهات القرآن لما غاب عن أصحاب الحق حقوقهم.
وقد ذكر الله لنا أحوال بعض اليهود الذين كانوا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وحذرنا من أن نحذو حذوهم وأن نتصف بصفاتهم الذميمة فقال تعالى: "وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَّا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" فوصف بعضهم أنهم يستحلون أموال المسلمين ولو اتمنتهم بدينار لن يردوه إليك إلا بعد مطالبة وإلحاح شديدين أو أخذه منهم بالتقاضي، فعلى المسلم أن يكون من أهل الأمانة وأن يكون أداة بناء ونشر للخير في المجتمع، وأن لا يكون أداة هدم لهذه القيم في مجتمعه.
ومن المعلوم أن التداين هو مسؤولية دينية، فالمقترض وضع أمانته في الميزان، فإما أن يؤدي ذلك المبلغ الذي استأمنه صاحبه أن يرجعه إليه وقت السداد أو أن يخون أمانته بجحود ذلك المال وإنكاره، وربما التساهل في عدم تأديته بحجة أنه مال قليل، ولكن ذلك المال القليل سيدخله النار بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال: " القليل من أموال الناس يورث النار".
والغريب في هذا العصر أن الناس أصبحوا يتساهلون في اقتراض الأموال من الناس ليس من أجل توفير احتياجات ضرورية في الحياة ولكن لأجل كماليات تدل على سوء تدبير للأموال وسعي لإتلاف حقوق الناس وأموالهم، ولو كانت قلوب الناس حية وأصحابها يخافون عقاب الله ويرجون ثوابه ونعيمه لسعوا إلى سداد تلك الحقوق، ولكن ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، ومن أضاع أمانات الناس وأضاع حقوق العباد كان لما سواها أضيع.
فالرسول الكريم يخبرنا في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة :"من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله" فمن أراد أن يعيد تلك الأموال إلى أصحابها وسعى إلى ذلك، كان الله نصيره ومعينه، ويسر له أحواله حتى يستطيع سداد تلك الديون، ولكن من أخذ أموال الناس وهو عازم على إتلاف ذلك المال وعدم إرجاعه، والمماطلة فيه، فإن الله توعده بالإتلاف، فيمحق بركة أمواله وأهله ويبتليه في نفسه، ويجد العار والعذاب الشديد يوم القيامة.
ومما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه ذكر رجلًا من بني إسرائيل، سأل بعضَ بني إسرائيل أن يُسْلِفَه ألفَ دينار، فقال: ائْتِنِي بالشهداء أُشْهِدُهم، فقال: كفى بالله شهيدًا، قال: فَأْتِنِي بالكَفِيل، قال: كَفَى بالله كفيلًا، قال: صَدَقتَ، فَدَفَعَها إِليه إلى أجل مُسَمَّى، فخرج في البحر فقَضَى حَاجَتَه، ثُمَّ التَمَسَ مركَبًا يَرْكَبُها يَقْدَم عليه لِلأَجَل الذي أجَّله، فلم يجِد مركَبًا، فأَخَذَ خَشَبَة فَنَقَرَها، فَأَدْخَل فِيهَا أَلفَ دِينَار وصَحِيفَة مِنْه إلى صاحبه، ثم زَجَّجَ مَوضِعَها، ثمَّ أَتَى بِهَا إِلَى البحر، فقال: اللَّهُمَّ إنَّك تعلم أنِّي كنتُ تَسَلَّفتُ فلانًا ألف دِينَار، فَسَأَلَنِي كفيلًا، فقلتُ: كفى بالله كفيلًا، فَرَضِيَ بك، وسأَلَنِي شهيدًا، فقلتُ: كفى بالله شهيدًا، فرضِي بك، وأنِّي جَهَدتُ أنْ أَجِدَ مَركَبا أَبعث إليه الذي لَه فَلَم أَقدِر، وإنِّي أسْتَوْدِعُكَها. فرمى بها في البحر حتَّى وَلَجِت فيه، ثم انْصَرف وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه، ينظُر لعلَّ مَركَبًا قد جاء بماله، فَإِذا بِالخَشَبَة التي فيها المال، فأَخَذَها لِأهله حَطَبًا، فلمَّا نَشَرَها وجَد المالَ والصحِيفة، ثمَّ قدِم الذي كان أسلفه، فأتى بالألف دينار، فقال: والله ما زلتُ جاهدًا في طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدتُ مركبا قبل الذي أتيتُ فيه، قال: هل كنتَ بعثتَ إليَّ بشيء؟ قال: أُخبِرك أنِّي لم أجِد مركبا قبل الذي جئتُ فيه، قال: فإنَّ الله قد أدَّى عنك الذي بعثتَ في الخشبة، فانصرِف بالألف الدينار راشدًا".
فلننظر إلى البركة التي طرحها الله في هذا الرجل الذي أشهد الله على هذا التداين، كما جعل الله كفيلا له، وهو موقن بعون الله له، وأدائه عنه، حتى أنه بذل الأسباب ووكل رب الأرباب لأجل إيصال ذلك المال إلى الدائن في الوقت المتفق عليه، وذلك وفاء لله في شهادته وكفالته، فكان أن أوصل الله ذلك المال إلى صاحبه، بل قد كسب الدائن خيرا كثيرا ومالا وافرا، حتى أنه استطاع تجميع ألف أخرى حتى وجد مركبا فجاء إلى الدائن فأخبره أن الله أدى عنه.
من جهة أخرى على الدائن صاحب المال أن يمهل المقترض ولا يضيق عليه بالإلحاح الشديد، وليتفهم الظروف والضوائق المادية التي تجعل بعض الناس معدوم الحيلة في توفير ذلك المبلغ في الزمن المتفق عليه، فليحتسب الأجر في الإمهال والتأجيل، والتقسيط، والتخفيض إن أمكن، وليجعل عمله عبادة يتقرب بها إلى ربه، فالله تعالى يقول: "وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ".