أبوظبي (الاتحاد)

أخبار ذات صلة محمد بن زايد ومحمد بن راشد: التجارة رافد أساسي للتنمية والسلام وازدهار الشعوب طحنون بن زايد: دور رائد للإمارات في دعم وتعزيز التجارة العالمية

تنطلق النسخة الثالثة من «إنفستوبيا» يومي 28 و29 فبراير الحالي، تحت شعار «الاقتصاد الجديد: الاستثمار في قطاعات سريعة النمو»، بمشاركة نخبة من أهم المستثمرين والمسؤولين الحكوميين المحليين والعالميين، ومجموعة من الخبراء وصانعي القرار واللاعبين الاقتصاديين ورواد الأعمال، وبحضور ممثلين عن مبادرة 100 شركة من المستقبل «Future 100»، المبادرة المشتركة بين وزارة الاقتصاد ومكتب التطوير الحكومي.

 
ويفتتح أعمال «إنفستوبيا 2024»، في العاصمة أبوظبي، معالي عبدالله بن طوق المري، وزير الاقتصاد، رئيس «إنفستوبيا»، بحضور معالي خلدون خليفة المبارك، العضو المنتدب والرئيس التنفيذي للمجموعة في شركة مبادلة للاستثمار، و7 وزراء يمثلون عدداً من الدول المشاركة، وشخصيات اقتصادية واستثمارية بارزة أخرى.

المعرفة والابتكار
قال معالي عبدالله بن طوق المري: تواصل «إنفستوبيا» عاماً بعد عام ترسيخ رؤية وتوجيهات القيادة الرشيدة في التحول نحو النموذج الاقتصادي القائم على المعرفة والابتكار والتكنولوجيا، والمساهمة في رسم خريطة جديدة للاستثمار في قطاعات الاقتصاد الجديد، باعتبارها قطاعات حيوية تدعم النمو المستدام للاقتصاد العالمي.
وأشار إلى نجاح «إنفستوبيا» على مدار السنوات الماضية في تعزيز الربط والتواصل بين مجتمعات الأعمال في العديد من دول العالم، ودعم استفادتها من الفرص الاستثمارية بالأسواق الواعدة، وبناء شراكات اقتصادية مستدامة، بما يتماشى مع رؤية «نحن الإمارات 2031»، وبما يسهم في تعزيز مكانة الإمارات كمركز عالمي للاقتصاد الجديد بحلول العقد المقبل.
وأضاف معاليه: تركز أجندة أعمال النسخة الثالثة من «إنفستوبيا» على ثلاثة محاور رئيسة تشمل «المتغيرات الاقتصادية العالمية» و«حركة رؤوس الأموال والأسواق الواعدة» ومبادرة «100 شركة من المستقبل»، حيث سنعمل من خلالها على تشجيع الحكومات والشركات على إعادة توجيه سياساتها الاستثمارية لمواكبة المتغيرات الاقتصادية العالمية الجديدة والاستفادة منها، وتسليط الضوء على الأسواق الواعدة وتحفيز تدفقات رؤوس الأموال نحو قطاعات الاقتصاد الجديد، إضافة إلى ذلك، ستوفر إنفستوبيا مساحة لمبادرة أفضل 100 شركة من المستقبل «Future 100» للاطلاع على أحدث الاتجاهات والممارسات الاستثمارية وتوسيع فرص التواصل والشراكة مع المستثمرين العالميين.

مناخ اقتصادي
تهدف «إنفستوبيا» إلى تأسيس مناخ اقتصادي إقليمي وعالمي جذاب، وفتح بوابة استثمارية رائدة أمام الدول والمستثمرين وقادة الاقتصاد العالمي وكبريات الشركات والمؤسسات المالية والصناعية والتكنولوجية لاقتناص فرص الاستثمار العالمية المتنوعة من خلال ثلاث ركائز رئيسة هي «حوارات إنفستوبيا» و«مجتمعات إنفستوبيا»، و«إنفستوبيا ماركت بليس». 
وتشهد فعاليات «إنفستوبيا 2024» استضافة أكثر من 90 متحدثاً ومتحدثة يمثلون كبريات الشركات العالمية، وتتضمن أكثر من 40 جلسة حوارية وطاولة مستديرة تتناول أهم موضوعات الاقتصاد والاستثمار كاستراتيجيات صفقات رأس المال المخاطر، وممكنات النمو لاقتصاد منخفض الكربون، والجيل الجديد للاستثمار، وأحدث التقنيات المستخدمة في قطاع الطيران وسلاسل الإمداد والتوريد. 
وتضم شبكة شركاء تنظيم «إنفستوبيا 2024» عدداً من الجهات العامة والشركات الوطنية والعالمية كشركة مبادلة للاستثمار، و«القابضة» -ADQ-، وشركة كريبتو دت كوم Crypto.com، وبنك ستاندرد تشارترد Standard Chartered، وسيتي بنك، وبنك أبوظبي الأول ومصرف الإمارات للتنمية، بالإضافة إلى منصة iConnections الأميركية - شريك إنفستوبيا المتخصص بالتكنولوجيا المالية - التي تنظم فعالية متخصصة بخدمات تقديم رأس المال والوساطة الاستثمارية Cap Intro بالتعاون مع «سولت SALT»، المنتدى العالمي لريادة الأعمال والاستثمار. 

مشاركة قوية 
تأتي النسخة الثالثة من «إنفستوبيا» استكمالاً للنجاح الكبير الذي حققته النسختان السابقتان اللتان شهدتا حضور أكثر من 3500 مشاركاً من 60 دولة مختلفة، بما في ذلك أكثر من 500 مدير تنفيذي، و180 مؤسساً أو مؤسساً مشاركاً لكبريات المؤسسات والشركات العالمية، وصناديق استثمارية تدير أكثر من 500 مليار دولار من الأصول. 
وتمثل «إنفستوبيا» إحدى المبادرات الرئيسية ضمن «مشاريع الخمسين» التي أعلنتها حكومة الإمارات عام 2021، والتي تهدف إلى بناء الاقتصاد الأفضل والأكثر ابتكاراً في العالم، وهي ترسي دعائم جديدة، بحيث يتعاون المستثمرون من حول العالم معاً لصياغة نماذج مبتكرة للبنية الاقتصادية المستقبلية وشراكات ستنتج فرصاً استثمارية جديدة.

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: إنفستوبيا أبوظبي الإمارات الاستثمار الاقتصاد الجدید أکثر من

إقرأ أيضاً:

سيناريوهات ومخاطر تشكيل النظام العالمي الجديد

ثمّة مخاوف وقلق كبيران ينتابان الكثير من المراقبين للعلاقات الدولية حول المنحى الذي يتجه إليه العالم في هذه اللحظة الحرجة من عمر الإنسانية، فالكلّ يراهن على أنّ ثمة مخاطر جيوسياسية آخذة في التبلور يومًا بعد يوم؛ بسبب بعض المتغيرات على صعيد بنية النظام الدولي وأطرافه الفاعلة بصفة عامة، والولايات المتحدة بصفة خاصة باعتبارها القوى العظمى التي يتجاوز تأثيرها محيطها الداخلي.

وتظهر هذه المخاوف ومنطقيتها بإجراء مقارنة بسيطة بين ما قاله الرئيس رونالد ريغان في خطاب الوداع الأخير الذي قدمه في الثامن من يناير/ كانون الثاني عام 1989، وبين الواقع الذي آلت له الأمور في واشنطن اليوم.

فقد أشار ريغان في ذلك الخطاب بالقول: " كانت ثورتنا أوّل ثورة في تاريخ البشرية تُغيّر مسار الحكومات تمامًا، وبكلماتٍ ثلاث: "نحن الشعب". "نحن الشعب" نُملي على الحكومة ما يجب فعله؛ لا تُمليه علينا. "نحن الشعب" السائق؛ والحكومة هي السيارة. ونحن نُقرر إلى أين تتجه، وبأي طريق، وبأي سرعة".

وبغض النظر عن الاختلاف مع ميراث سنوات ريغان وانعكاساتها السالبة على منطقة الشرق الأوسط، فإنّ الأمر الذي يمكن الاتفاق عليه آنذاك هو قدرة العالم على التعامل مع أميركا باعتبارها دولة مؤسسات، وبالتالي إمكانية التنبّؤ بسلوكها، على خلاف فترة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الحالية التي يتحكم فيها شخص واحد لا يُمكن التنبؤ بسلوكه أو بخياراته القادمة.

إعلان

ومن هنا فإن هذا المقال معني بتقديم رؤية تحليلية حول مستقبل التحولات المتوقعة على صعيد بنية النظام الدولي، وذلك من خلال الإجابة عن التساؤلات الآتية:

ما مخاطر النزعة القومية الشعبوية التي يتبناها ترامب على الأمن الدولي؟ هل تدخل سياسة التعريفات الجمركية التي فرضها على العالم ضمن سياق الأدوات الشعبوية؟ إلى أي مدى تدفع هذه السياسات الراديكالية التي تنتهجها واشنطن في ضخ الدم والأكسجين اللازمين في جسد المشاريع المناوئة لدى روسيا والصين والتي لا تقل شعبوية عن نظيرتها الأميركية؟ هل انتهى عصر الهيمنة الأميركية وما مساهمة ترامب في الدفع بهذا الاتجاه؟ وما هي خيارات منطقة الشرق الأوسط إزاء ما يجري من متغيرات؟ النزعة القومية وحصادها

تُعدّ القومية مدخلًا مهمًا لفهم بعض التطورات السياسية في عالمنا المعاصر، وكثيرًا ما تُنتقد باعتبارها عقيدةً غير عقلانية وظاهرةً مَرضيةً ترتبط بظهور حركات اليمين الشعبوي المتطرف، وترافق تصاعدها مع انتشار حالة من الاستقطاب الاجتماعي والسياسي، والنزعة التوسعية، والانقسام، والعدوان.

وبإسقاط المقاييس أعلاه فإن صعود ترامب للمسرح السياسي منذ العام 2016 وإلى اليوم، يمثل تعبيرًا عن تلك النزعة القومية المرتبطة بإحساس غالبية السكان البيض في أميركا بأنّهم في طريقهم لفقدان رأس مالهم الاجتماعي المستند إلى نفوذهم السياسي والاقتصادي، ومن هنا جاءت مساندتهم المطلقة لترامب في الانتخابات الأخيرة، بل تصاعد الأمر ووصل مرحلة إحساس البعض منهم بأن ترامب شخص مقدس أرسله الله لإنقاذهم، وبالتالي بات يُنظر إلى كل سياساته وأفعاله في هذا السياق الأيديولوجي الضيق.

فباتت نزعة ترامب القومية المرتكزة على شعار أميركا أولًا، ذات طابع يميني شعبوي مناهض للهجرة، وصل إلى مرحلة أن أطلق عليه البعض ما يُسمى بـ"القومية البيضاء"، وهنا تجب التفرقة بين ما يسمى بالوطنية الصالحة التي تعني مراعاة مصالح الدولة وأمنها الوطني، وبين تلك الأيديولوجية ذات الطابع العنصري التفوقي.

إعلان

وتاريخيًا يمكن القول إنّ هذه النزعة التفوقية وتصاعدها كانت ضمن الأسباب الرئيسية التي قادت إلى الحرب العالمية الثانية، وتمثل ذلك في صعود الأنظمة الفاشية في أوروبا، واليابان، مدفوعة بالقومية الشديدة والعدوان المتزايد، ومثل موسوليني أحد أبرز روادها في إيطاليا، وقد استخدم أساليب الترهيب والدعاية للحفاظ على السيطرة وزراعة المخاوف في نفوس الناس.

في ذات المنحى فإن صعود أدولف هتلر وحزبه النازي إلى السلطة في ألمانيا، جاء عبر استغلال مخاوف البسطاء ووعدهم باستعادة الكرامة الوطنية، وإظهار ألمانيا كضحية للإمبريالية، وقاد ذلك ليصبح نظام هتلر عدوانيًا، وقام بغزو الدول المجاورة، وهذا ما قامت بفعله اليابان في شرق آسيا من خلال غزو إقليم منشوريا التابع للصين عام 1931، مما مهد الطريق لمزيد من الصراع، وفي النهاية قاد إلى الحرب العالمية الثانية.

وبإسقاط ذلك على الحالة الترامبية، فإن هذه الشخصية تستخدم ذات اللغة والتكتيك عبر التلويح بغزو كندا، وغرينلاند، وضم خليج المكسيك وتهجير أهالي غزة، ويمكن فهم سياسة رفع التعريفة الجمركية كإحدى الأدوات المربكة للتجارة الدولية في هذا السياق الشعبوي الذي ربما قاد لنتائج لا تختلف عن تلك التي قادت العالم لفقدان ما بين 70 إلى 80 مليون نسمة إبان الحرب العالمية الثانية.

الحرب الجمركية.. آثار جيوسياسية

يمثل الثاني من أبريل/ نيسان الجاري، والذي أسماه ترامب بيوم التحرير علامة فارقة على صعيد تعميق الحرب التجارية بين أميركا وبقية العالم من جهة، وبين أميركا والصين من جهة أخرى على وجه الخصوص.

ويُمثل سرد ترامب المظالم التاريخية التي تعرضت لها أميركا كأحد أهم الأسباب التي دفعته لاعتماد هذا النوع من الإجراءات الحمائية، امتدادًا لفكرة الشعبوية والنزعة القومية التي ربما قادت لنوع من التصادم بين أميركا وبقية العالم في مرحلة ما، مع الأخذ في الاعتبار أنّ الولايات المتحدة تعد من كبرى الدول المستفيدة من الثروة الاقتصادية التي تراكمت خلال الخمسين عامًا الماضية، خاصةً الطبقة العليا في المجتمع الأميركي، والتي تشمل رجال الأعمال، والسياسيين، والعسكريين، ومن ورائهم المجمع الصناعي العسكري.

إعلان

فالإبقاء على نسبة الرسوم الجمركية البالغة 10% المفروضة على كل الواردات القادمة لأميركا، يأتي في اتجاه تعزيز الصناعات الوطنية الأميركية، وتوفير وظائف للعديد من الأميركيين كنتيجة للتوطين الصناعي المفترض، رغم أنّ هذه النسبة تُشكّلُ ضغطًا كبيرًا على المستهلك الأميركي، وربما تؤدي في وقت لاحق إلى ركود اقتصادي يقود إلى تعميق حالة الانقسام المجتمعي الناتجة عن سوء الأوضاع الاقتصادية المرتبطة بعدم اليقين من جهة، وتعزيز حضور الخطاب الشعبوي الذي يبرر لهذه الإجراءات.

والمعروف أنّ تمدد هذا النوع من الخطاب ذي النزعة القومية الشعبوية يجعل من الصعب تقديم رؤية نقدية بناءة حول جدوى هذه الرسوم بالنسبة للولايات المتحدة، وطرح بدائل أخرى يمكن أن تفيد الاقتصاد الأميركي على المدى الطويل.

وكما هو معلوم أنّ التعريفات الجمركية لم تعد أداةً فعّالة لمعالجة قضايا التجارة الحديثة، مثل سرقة الملكية الفكرية ونقل الوظائف إلى الخارج، نظرًا للأضرار المحتملة التي قد تلحق بالاقتصاد، وبالتالي فإنّ إجراءات إنفاذ القانون، لمعالجة قضايا مُحددة دون الإضرار بالاقتصاد الأوسع تُعد التِرياق الأفضل.

وفي سياق ذي صلة، فإنّ الرسوم المفروضة على بقية الدول والتي تأتي على رأسها الصين، اعتمدت على الموازين التجارية لكل دولة على حدة مع الولايات المتحدة، وكان نصيب الصين هو الأكبر من بين كل الدول، إذ بلغت 145%، مقابل 125% فرضتها الصين على المنتجات الأميركية. وتُمثل هذه الأرقام مؤشرًا لحجم التنافس والتوتر بين القوتين، والذي وصل مداه من خلال هذه الحرب التجارية.

والسؤال الذي ما يزال مطروحًا هو: هل سيستمرّ التنافس بين القوتين بشكل سلمي، أم إنّ الأمر سينتهي بمواجهة عسكرية تُمثل الحرب التجارية فصلًا من الفصول المؤدية لها؟

وبمنطق النظرية الواقعية الهجومية والتي تُعدّ أقرب المداخل النظرية التي يُمكن أن تُجيب عن التساؤل المطروح، فإنّ المواجهة العسكرية بين الولايات المتحدة والصين قادمة لا محالة، وذلك من واقع أن نشوء وسقوط الإمبراطوريات يخضع لمنطق المواجهة العسكرية في مرحلة من المراحل.

إعلان

وبالتالي، فإنّ استمرار الحرب التجارية بين الطرفين، وبهذا التصعيد والتصعيد المتبادل، سيقود لخلق أوضاع محفزة للمواجهة الشاملة، رغم أنّ الطرف الصيني حريص على تجاوز عملية البناء والاستعداد للسيطرة العالمية بنوع من الصبر الإستراتيجي الذي يأخذ بعين اعتباره الهدف الأسمى والتركيز عليه دون الدخول في مواجهات فرعية يمكن أن تعوق بكين عن الوصول لهدفها.

ورغم أنّ ترامب أعلن وقف الإجراءات الحمائية لمدة 90 يومًا، فإنّ ذلك لن يُغير من معادلة التصادم الإستراتيجي المحتمل بين الغريمين حال استئنافها لاحقًا.

ومن منظور تحليلي فإنّ الولايات المتحدة قد استفادت من التجارة الحرة والتعاون الدولي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وأسهم ذلك التعاون في منع الكثير من الكوارث، ولعبت واشنطن دورًا رئيسيًا في إعادة بناء الاقتصادات الأوروبية عبر مشروع مارشال.

بيدَ أننا نجد اليوم من بين المفارقات أن تصاعد القومية والشعبوية داخل أروقة البيت الأبيض، قاد إلى أن تدير أميركا ظهرها لحلفائها الأوروبيين كأقرب الشركاء.

ومن المتوقع أنّ الحمائية التي ينتهجها ترامب ربما تؤدي إلى تراجع عالمي في الإنتاجية، وزيادة خطر الصراع بين واشنطن وبكين، وبالتالي فإنّ تلك المواجهة المحتملة سيكون لها آثار جيوسياسية خطيرة للغاية، والتي ليس أقلها الدفع بتقوية المشاريع المتصادمة بين القوى الكبرى، وإحداث نوع من التغيير في موازين القوى العالمية.

صراع المشاريع المتصادمة

إنّ تصاعد النزعة القومية والسعي لتوظيف تلك النزعة في مخاطبة أشواق وأحلام شرائح اجتماعية كبيرة ليس مقصورًا على أميركا ترامب، بل نجدها حالة ماثلة داخل روسيا بوتين، وداخل الصين ورجلها الذي يتحكم في كل أمر، شي جين بينغ.

فالمشروع الروسي يستند إلى الأفكار الرئيسية التي وردت في كتاب "أسس الجيوبوليتيكا: مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي" لمؤلفه الذي يُعد أحد أبرز المفكرين الإستراتيجيين الروس ألكسندر دوغين، وقد كان لآرائه دور بارز في استيلاء موسكو على القرم عام 2014، والغزو الروسي لكييف 2022، واستماتة بوتين في الحرب حتى اليوم.

إعلان

وقد ضُحي بعشرات الآلاف في دعم تصورات دوغين بشأن أوكرانيا، والتي يعتبرها الروس امتدادًا للوطنية الروسية، ومدخلًا صحيحًا لإعادة مجدهم الإمبراطوري الذي ضاع بسقوط الاتحاد السوفياتي سابقًا.

ووفقًا لأستاذ العلاقات الدولية بجامعة شيكاغو، وأحد أهم منظري التيار الواقعي الهجومي في العلاقات الدولية جون ميرشايمر، يرى أن الرئيس بوتين تحكمه نظرة ذات ثلاثة أبعاد متكاملة ومترابطة، فأولها هو توسع حلف شمال الأطلسي "الناتو" (NATO)، وامتداده شرقًا في اتجاه حدود بلاده، وثانيها توسع وتمدد الاتحاد الأوروبي، وآخرها التبشير بحتمية تحقيق الديمقراطية الليبرالية على النسق الغربي في كل دول القارة الأوروبية.

والملاحظة الجديرة بالاهتمام هنا هي أنّ ألكسندر دوغين يُعدُ أهم المساهمين في صياغة التوجّهات الكبرى للإستراتيجية الروسية التي تظهر في تصورات بوتين ذات النزعة القومية الرامية لجعل روسيا ضمن نادي الكبار في العالم.

وبالتالي فإنّ نزعة ترامب الشعبوية القائمة على تهميش دور المؤسسات المنتخبة وإدارة ظهره للأوروبيين أعداء بوتين، تضخّ الهواء في رئة المشروع الروسي الذي يتصادم كلية مع فكرة هيمنة أميركا على الشأن الدولي.

في منحى متصل بدور ترامب ونزعته الوطنية الشعبوية في إعادة بعث الحياة للمشروعات المتصادمة، فإن التصعيد مع بكين والدخول معها في حرب تجارية يُعد محفزًا وطنيًا ورافدًا مهمًا للمشروع الصيني الذي يستمد جذوره من رغبة الصين وحرصها على عدم تكرار ما يُعرف بعصر الإذلال الوطني، والذي بدأ بحرب الأفيون الأولى (1839-1842)، وانتهى في عام 1945 بخروج الصين (جمهورية الصين آنذاك) من الحرب العالمية الثانية كواحدة من الدول الأربع الكبرى واعتمادها كعضو دائم في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة.

وقد عانت الصين من ثلاثة أنواع من الخسائر خلال قرن الإذلال من قبيل فقدان الأراضي؛ وفقدان السيطرة على بيئتها الداخلية والخارجية؛ وفقدان المكانة والكرامة الدولية.

إعلان

وترافق ذلك مع هزيمة الصين في الحرب الصينية اليابانية الأولى وتوقيع معاهدة شيمونوسيكي التي عُدت مهينة مع الإمبراطورية اليابانية في عام 1895، وأصبحت الصين تعتبر "الرجل المريض في آسيا"، وتزايدت طموحات القوى العظمى للتنافس على المناطق الحيوية في الصين بشكل كبير.

هذه المآسي ما تزال حاضرة في ذهن الشعب الصيني وصناع القرار ومتخذيه. فسياسات واشنطن التي تستهدف ضرب الاقتصاد الصيني ومحاصرة بكين يُمكن أن تتحول إلى محفز وطني يعجل من أمد التصادم المتوقع، وبالتالي فإنّ شعبوية ترامب ونزعته الوطنية القائمة على إلغاء الآخر تُعدان بيئة حاضنة لنمو عالم متعدد الأقطاب وليس قطبًا واحدًا مهيمنًا في ظل تنامي المشاريع المتصادمة.

نظام عالمي جديد مسرحه الشرق الأوسط

ليس بمقدور أي باحث أو أكاديمي معاصر يودّ الحديث عن نظام عالمي جديد أن يتجاوز كتاب "النظام العالمي" لهنري كيسنجر الصادر في نسخته الإنجليزية في العام 2014، والذي صدرت ترجمته العربية في العام 2016 عن دار الكتاب العربي ببيروت، حيث يُعد من الكتب المهمة التي تتناول التحولات التي يشهدها النظام العالمي.

يرى كيسنجر أن النظام العالمي يتغير بشكل كبير، وأن الولايات المتحدة تواجه تحديات كبيرة في الحفاظ على مكانتها كقوة عظمى.

وهذا الكتاب يرد على الدعاوى التي يرددها بعض منسوبي إدارة الرئيس ترامب بأنّ التعريفات الجمركية التي تم فرضها تُمثل إستراتيجية تفاوضية بغرض الوصول لنتائج أفضل، وبالتالي تعزيز الاقتصاد الأميركي، ومن ثم تعزيز سيطرة أميركا كقوة عظمى.

فكيسنجر باعتباره أحد صنّاع المشهد الرئيسي خلال السبعين سنة الماضية، يجزم بأنّ الولايات المتحدة ليس بمقدورها الانفراد بإدارة العالم في ظل التحديات الجديدة، ويرى أن النظام العالمي الجديد يجب أن يكون متعدد الأقطاب، مشتركًا بين الولايات المتحدة والصين، وأن الاقتصاد العالمي يجب أن يسوده اقتصاد السوق.

إعلان

وبالتالي أي إجراءات شعبوية أو حمائية لن تفلح في إيقاف عجلة الزمن وحتمية التحول القادم، ويمكن القول إنّ ما يقوم به ترامب هو عملية تسريع للمعادلة القادمة التي ليس فيها طرف واحد مهيمن.

ولعل أبرز عمليات تسريع فك الانفراد الأميركي التي تطوع دونالد ترامب بفعلها إن كان واعيًا أو لم يكن يعي ذلك، هو ضرب روح القانون وسيادة المؤسسات وعلوها على الأفراد.

فسيادة القانون تُعد إحدى أهم قواعد النظام الأميركي، ومن بين مصادر قوته، وبات الرجل يسير على خطى الدكتاتوريات المطلقة دون أن توقفه المؤسسات المناط بها القيام بالأدوار الرقابية.

أمر آخر هو إدارة ظهره لشركائه الأوروبيين، وابتعاده عن الناتو، وهذا مُبتغى منافسيه الكبار -كالصين وروسيا – الذين لم يدفعوا دولارًا واحدًا للوصول لتلك النتيجة التي تكشف ظهر غريمهم الأميركي، بجانب أنّ إعاقة عمل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) التي أسسها الرئيس جون كينيدي عام 1961، والتي تُعنى بإدارة المساعدات الخارجية للمدنيين، أضاعت فرصة كبيرة كانت تستغلها واشنطن للتأثير على كثير من البلدان في اتجاه تعزيز نفوذها الدولي.

يُمثل قطع التمويل عن الكثير من البرامج البحثية والأكاديمية التي تُعد حجر الزاوية في تفوق أميركا العلمي والابتكاري أحد أهم مظاهر التراجع، والذي سيكون له أثر بعيد المدى في إطار قدرة واشنطن على التنافس الإستراتيجي مع الصين.

والنقطة الجديرة بالاهتمام هنا لصناع القرار والباحثين في الشرق الأوسط، هو أنّ هذه المنطقة ستكون أحد أهم مسارح التفاعل المفضي لظهور نظام عالمي جديد، وبالمؤشرات السياسية الآنية فإنّ الإقليم غير مؤهل ليكون طرفًا في معادلة التحول القادمة، بل سيكون متأثرًا بما سيجري.

وتُعد ملفات مثل طبيعة الشراكات الناشئة بين دول المنطقة والصين على الصعيد الاقتصادي، وملف العلاقات مع إيران وطبيعة الدور الذي سترسمه لنفسها، أو ذلك الذي يُمكن أن يفرض عليها، بجانب القضية الفلسطينية وتداعياتها، فضلًا عن تأمين طرق الملاحة البحرية من الأمور الحاسمة في طريق تشكيل نظام دولي جديد.

إعلان الخلاصة

يمكن القول إنّ مستقبل التحولات المتوقعة على صعيد بنية النظام الدولي، يتجه نحو إرساء دعائم منظومة دولية متعددة الأقطاب ليس فيها طرف مهيمن بل أطراف عديدة أبرزها الولايات المتحدة، والصين وروسيا.

ويعتبر وصول ترامب للسلطة وتصاعد النزعة القومية الشعبوية التي ميزت بداية فترته الرئاسية الثانية، والتي لم تتجاوز الثلاثة أشهر من بين المتغيرات الرئيسية التي تدفع بقوة نحو إقرار هذه المعادلة الجديدة.

وتُمثل السياسات الحمائية التي اعتمدتها الإدارة الجمهورية الحالية مدخلًا من مداخل المواجهة المباشرة بين بكين وواشنطن، والتي ربما انتهت بمواجهة عسكرية مباشرة لحسم جدل كيفية الانتقال لنظام عالمي جديد يرتكز على أسس وشروط مغايرة لتلك التي تمّ إقرارها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.

وبالتالي فإنّ كل المؤشرات الآنية تُنبئ عن حتمية التصادم بين المشاريع المناوئة التي يقف على رأسها شي جي بينغ، وترامب وفلاديمير بوتين.

ومن المتوقع أن تتصاعد المخاطر الجيوسياسية التي سيشهدها العالم بشكل عام، ومنطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص؛ بسبب الصدام المحتمل بين واشنطن وبكين.

ومن المرجح أنّ الشرق الأوسط وموارده ستكون محط أطماع المتصارعين الكبار في إطار سعيهم لإقرار معادلة الهيمنة القديمة، أو تفكيك النفوذ ورسم أخرى جديدة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • الجبهة الوطنية يناقش استراتيجية شاملة لدعم الاقتصاد المصري .. صور
  • هشام العيسوي: التوجيه الرئاسي بتوحيد الرسوم دفعة قوية للحرفيين وفتح آفاق تنافسية للصناعات الإبداعية
  • عمرو فتوح: تخفيف الأعباء الإجرائية على المستثمرين يدعم الاقتصاد القومي
  • سيناريوهات ومخاطر تشكيل النظام العالمي الجديد
  • هيئة الاستثمار: الحوافز التشريعية والمالية تجعل مصر مركزًا إقليميًّا تنافسيًّا للأعمال
  • "ليڤا للتأمين" تستعرض رؤية الشركة نحو مستقبل أكثر شمولية بمؤتمر "أوشرم"
  • خريج صيدلة عمان الأهلية يحرز لقب أفضل إنجاز لعام 2024 في Viatris العالمية
  • "التجارة والصناعة وترويج الاستثمار" تُعزِّز جهود دعم نمو الاقتصاد الوطني وتشجيع الاستثمارات
  • القومية للاستثمار: الذهب مخزن للقيمة .. وتنوع الاستثمار ضرورة
  • نائب:الرئاسة البرلمانية ترفض استجواب المسؤولين الفاسدين في مقدمتهم رئيس هيئة الاستثمار