معرض الكتاب وتعدّديّة المواطنة
تاريخ النشر: 26th, February 2024 GMT
المتأمل في معرض الكتاب يجد التّعدّديّة واضحة تماما من حيث المعارف، فهناك عشرات الكتب المتناقضة ذات اليمين وذات اليسار، في اللّاهوت والفلسفة والأديان والاجتماع والمذاهب وفروعها المتعدّدة والمتناقضة في بعض كليّاتها، والعديد من جزئيّاتها، كما يجد الرّؤى الّتي طرحت قديما، وكأنّ أصحابها على قيد الحياة، يشاركوننا رؤاهم وفلسفاتهم واجتهادهم، وهناك من الرّؤى الحديثة المبنية عليها، والشّارحة لها، وهناك من الرّؤى الجديدة، والّتي تقدّم رؤيتها التّفكيكيّة والنّقديّة من جهة، ورؤيتها الإصلاحيّة والتّفسيريّة التّحليليّة من جهة ثانية.
كما أنّ هناك تعدّديّة من حيث دور النّشر ذاتها، فمنها من تميل إلى الماضي والتّراث، ومنها من تحمل روحا دينيّة أو مذهبيّة تعرض ما عندها، ومنها من تقدّم أدبًا روائيّا وساخرا وناقدا في صورة شعريّة أو قصصيّة أو روائيّة، ومنها المتخصّصة جوانب التّرجمة والفلسفة والنّقد الفكريّ، ومنها من تحمل زوايا علميّة طبيعيّة وتأريخيّة وقانونيّة وتخصصيّة بحتة.
كذلك توجد تعدّديّة واضحة من حيث الفعاليّات المقامة، فليست على نسق واحد، فهناك ذات الصّبغة الدّينيّة، وأخرى ذات الصّبغة الفكريّة النّاقدة، وثالثة ذات البعد السّياسيّ أو الاجتماعيّ، كما يسايرها عوالم الموسيقى والرّسم والمسرح والفنّ والإبداع.
هذه التّعدديّة لازمتها تعدّديّة من حيث الزّوار، ومحبّي الفن والقراءة والكتابة، فكل في فلك يسبحون، حيث تجد عوالم من النّاس، منهم من يغريه الأدب وشاعريّته، والموسيقى وجماليّتها، والمسرح وصوره الرّمزيّة والواقعيّة، والرّحلات وفوائد تجاربها، ومنهم من يشدّ رحاله إلى الماضيّ والتّأريخ والإنسان، ومنهم من يأخذه عقله إلى الفكر والفلسفة والنّقد والكلام والمناظرات، ومنهم من يشبع روحه بالسّلوك والتّصوّف والعرفان، ومنهم من يكمل تخصّصه العلميّ طبّا أو قانونا أو علوم نفس واجتماع وغيرها.
الصّورة الجميلة ليست هذه فحسب، بل كلّ في عالمه بلا صراع ولا إقصاء، وكلّ يشبع رغباته في حريّة مطلقة بلا استبداد ليقصيّ حرّيّات غيره، فيجد ما طاب له، ويؤانس من يماثله ويخالفه، ويحاور معرفيّا ومنطقيّا من يوافقه ويعارضه، لتبقى الذّات واحدة متساوية، والميولات والتّوجهات عوارض مكمّلة لا مستبدة قامعة.
هذه الصّورة الجميلة في معرض الكتاب هي صورة مصغرة لما في الوطن الواحد، فالوطن لا يمكن بحال أن يكون على صورة واحدة، ولا يمكن للمجتمع أن ينصهر في هويّة مغلقة، وإلّا حدث التّنافر والتّضاد، وقاد إلى الصّراع والاحتراب، فإذا همش المركز الهامشَ شعر بالمظلوميّة، وإن شعر بذلك تقوى في داخله، فيظهر قوّته متى ما ضعف المركز، ويكون حينها يدافع عن مظلوميّته، وهي تحوي في داخلها السّخط والحقد والكراهيّة، فبعدما كانت مسكونة باطنا بقوّة المركز، تتحوّل إلى أداة عمليّة ناقمة فعلا للآخر بلا تفريق بين أحد، ما دام خيطه متصلّا بالمركز ولو على مستوى الهويّة الإجرائيّة العامّة.
والعكس صحيح، إذا ما شعر الكل بوجود مساحة واسعة للإبداع والحريّة، وإفراغ الفكر والنّقد، وإبداء المواهب والطّاقات المختلفة، وكان المركز حافظا للجميع، وساعيا في الحفاظ على سعة دائرة الحريّات؛ هنا يشعر الكل بمكانته الذّاتيّة كمواطن في دولة قطريّة ينتمي إليها ولادة أو تجنسا، فتضيق دائرة الهامش، وتتسع دائرة المواطنة، ويكون الاختلاف طريقا إلى التّهذيب والإصلاح، والتّعدديّة طريق إلى النّماء والجمال، فلا يشعر أحد من حيث المواطنة أنّه نشاز في المجتمع، لأسباب هويّاتيّة دينيّة أو مذهبيّة أو اجتماعيّة أو سياسيّة، كما لا يشعر بالنّبذ لاختلافات فكريّة أو مواهبيّة أو إبداعيّة، فيشعر أنّه من المركز كذات لا كهويّة، فتتسع دائرة المركز بشكل كبير رخاء أو شدّة.
ما نراه في معرض الكتاب أيضا؛ ندرك جماليّة التّدافع الفكري، واختلاف الفكر ليس مجاله الفتوى والقضاء، وإنّما الفكر يدفع بالفكر، والنّقد يواجه بالنّقد، وما نراه في المعرض من كتب حاولت أن تقيّد كتابة ومعنى لشيء بسيط ممّا يسبح في الفضاء من أفكار متشعبة ومتناقضة، والإنسان لا يملك ولو كانت لغته ذات اشتقاقات كثيرة كالعربيّة؛ إلّا أنّها محدودة بما في العالم من معان وخيالات وأفكار متضاربة ومتناقضة ومتعدّدة، حاول أن يقرّبها الإنسان، ويخلّدها في كتاب مقروء، أو فيلم مرئيّ، أو تمثال وصورة ذات رمزيّات متباينة، أو قصيدة ورواية ذات مخيال واسع.
قد يطرح في الوطن الواحد أيضا العديد من الأفكار، ويقدّم المبدعون العديد من المواهب، لترى نفسك في عوالم لا عالم واحد، فكلّما وسعنا هذه العوالم؛ كلّما وسعنا دائرة الإبداع، وكلّما توسعت دائرة الإبداع توسعت قوّة المركز، حيث قوّته في التّعدّديّة والعوالم المتفاعلة فيما بينها، وإذا ما ضيّقت وصهرت في عوالم محدودة؛ ضاق بذاته يوما بعد يوم، ليدخل في دائرة الاستبداد، ويغلق سعته وفق رؤية واحدة، أو رؤى محدّد ضيّقة ومنغلقة.
لهذا معرض الكتاب هو درس آخر في المواطنة، حيث المواطنة الّتي لا يخيفها الاختلاف، ولا تهاب من التّعدّديّة، بل ترى ذلك عنصر ثراء لها، والمركزيّة بقوانينها الإجرائيّة حافظة لهذه التّعدّديّة، حينها يكون الوطن ليس كالأمس، والمستقبل ليس كاليوم، فبقدر ما تحافظ على ما وصلت إليه من تقدّم معرفيّ وماديّ، إلّا أنّ فضاء العالم اليوم متحرّك بصورة كبيرة جدّا، فيتحرّك الوطن معه، وإلّا بقيّ في نقطة جامدة، ليستيقظ يوما ما وقد أدرك العالم علما ومدنيّة تقدّمه بسنوات زمنيّة طويلة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: معرض الکتاب ومنهم من من حیث
إقرأ أيضاً:
الدراما التلفزيونية السورية المنتظرة وتجسيد ثقافة المواطنة
تُعد الدراما التلفزيونية من أكثر الفنون تأثيراً في نفوس المشاهدين. فهي لا تقتصر على التسلية فقط، بل تُسهم بشكل كبير في رفع وعيهم من خلال عرض التحديات الاجتماعية والأفكار المتوارثة التي تعيق تقدم المجتمع.
كما توجه سلوكهم نحو تحسينه، ضمن سياق درامي يتسم بالجاذبية ويحتوي على المقومات الفكرية والفنية اللازمة لإثارة اهتمامهم.
نأي عن تمجيد الفردلكن، هل يختلف دور الدراما التلفزيونية السورية في ظل المستجدات الحالية، كما حدث بعد سقوط نظام آل الأسد؟
بالتأكيد، فإن المطلوب من الدراما الآن يتجاوز ما كانت تلتزم به سابقاً تحت تأثير الرقابة السياسية، إذ أصبح من الضروري أن تبتعد عن تقديم الأعمال التي تشكل تهديداً لوعي المشاهدين، خاصة تلك التي تعتمد على السير الشعبية التي لا تعزز أية قيمة سوى قيمة الفرد المخلص، مثل مسلسل "الزند".
والأمر نفسه ينطبق على المسلسلات التي تروج لخارجين عن القانون في مختلف المجالات، مثل السرقة أو التهريب أو تجارة المخدرات، والتي تتضمن غالباً مشاهد قتل دون أي اعتبار لوجود السلطات الأمنية، التي تكون مغيبة تماماً في تلك الأعمال، كما في مسلسلات "هوا أصفر"، "على صفيح ساخن"، "مع وقف التنفيذ"، و"ولاد بديعة" للكاتبين علي وجيه ويامن الحجلي، أو مثل مسلسل "الهيبة" بجزئه الثالث للكاتب هوزان عكو.
كما ينبغي الابتعاد عن المسلسلات "البيئة الشامية" التي كانت تقدم خطاباً رجعياً يحاول إحياء تقاليد وقيم بالية تحت ذريعة مقاومة المستعمرين الفرنسيين أو العثمانيين، على نحو ساذج وغير مكلف إنتاجياً، مما جعل شركات الإنتاج تستثمر الأزياء والديكورات في أكثر من جزء، مقدمة صورة مشوهة عن تاريخ دمشق تحت ذريعة "الدراما المتخيلة" وليست التاريخية، ما يتناقض مع مقومات المكان وأزيائه وعاداته.
تحت سقف القانونأما ما نحتاجه من الدراما للمساهمة في بناء الحياة الجديدة، حتى إذا استعدنا بعض السير الشعبية، فهو أن تكون على غرار ما قدمه الكاتب الراحل ممدوح عدوان في مسلسله المميز "الزير سالم".
ففي هذا المسلسل، استعاد عدوان السيرة الشعبية ولكن بأسلوب يتسم بالمسؤولية، حيث تجسد شخصية "كُليب" ليس كرمز للاستبداد أو الثأرية، بل كمثال على ضرورة وجود "نظام سياسي" يحترم القانون، ويجب على الجميع الالتزام به، حتى وإن كانوا من أقرب الناس.
ولم تشفع قرابة "البسوس" له عندما خالفت القانون، ففرض عقوبتها عليها.
وهذا هو جوهر الخطاب الفكري في "الزير سالم"، أي فرض سيادة القانون على الجميع، وتجاوز العصبية القبلية وقرابة الدم.
إذا تأملنا المجتمعات المستقرة التي تحقق الإنجاز والتطور وتحترم حقوق الإنسان، سنجد أنها المجتمعات التي تضع القانون فوق الجميع من دون وساطات أو تحيزات.
لكن في الوقت نفسه، سلط ممدوح عدوان الضوء على استبداد "كليب" الذي أفضى إلى طيش "جساس" وثأرية "الزير سالم"، مما أدى إلى فوضى أو حرب أهلية.
من خلال هذا الضوء، حذر عدوان من خطورة التفرد بالسلطة وإصدار القوانين من دون مراعاة المصلحة العامة.
لا يمكن إغفال ما قدمه هذا المسلسل الهام، إلى جانب أعمال أخرى، من خطاب درامي يركز على تعزيز قيم مؤسسات الدولة واحترامها.
هذا النهج تجسد في بعض المسلسلات التي قدمها الثنائي الراحل حسن سامي يوسف ونجيب نصير، ومسلسل "المفتاح" للراحل خالد خليفة، ومسلسل "رياح الخماسين" لأسامة إبراهيم. كلها أكدت، بأشكال مختلفة، ضرورة احترام المؤسسات والقوانين، رغم ما تعرضت له هذه المؤسسات من ترهل وفساد، كما ألمحت إلى ذلك بعض الأعمال الكوميدية مثل مسلسل "سعادة الوزير وحرمه" للكاتب محمود الجعفوري، وبعض لوحات "مرايا" و"بقعة ضوء"، التي طرحت ضرورة خضوع المجتمع بأفراده وشرائحه، بما في ذلك قياداته، للقانون.
المشاهدون السوريون اليوم بحاجة إلى خطاب درامي مشابه لما قدمته هذه المسلسلات، وأعمال أخرى تعزز ثقافة المواطنة بين أفراد المجتمع، وهي ثقافة تنبذ التمييز على أساس قومي أو ديني أو طائفي أو حزبي أو قبلي أو عائلي أو جنسي، وتعتبر الفرد مواطناً سيداً حراً، مساوياً لغيره أمام القانون. دراما تعزز مثل هذه الثقافة تسهم في تجاوز جراح الماضي وتحفز مشاعر التعاون لبناء مجتمع جديد. فالفنون هي اليد التي تقود الناس إلى إنسانيتهم نحو تمجيد "الثالوث الأقدس" الحق والخير والجمال.