كيليطو والشعر.. حين يمارس الكاتب النظم والحكي من خلف قناع
تاريخ النشر: 26th, February 2024 GMT
مراكش– من يستمع إلى الكاتب والأديب المغربي عبد الفتاح كيليطو، أو يسمع عنه، أو يقرأ له يناله نصيب من المتعة الممزوجة بالدهشة، يظهر له أنه يمارس الشعر والحكي من خلف قناع، إذ يعمد في كتابته إلى الاستشهاد بالآخرين، تكريسا لمبدأ الحرية في الكتابة.
حدث ذلك في الدورة الأكاديمية التي نظمها بيت الشعر في المغرب مؤخرا بتعاون مع كلية اللغة العربية بمراكش، والتي راهنت على تتبع أعماله في علاقته بالشعر، ونجحت إلى حد ما في سبر مكنوناتها، إذ بدأت بمحاضرة فكرية للكاتب نفسه تحت عنوان "لزوم ما يلزم"، صال فيها الكاتب بين التحليل والتأويل والشعر والسرد، قبل أن تمتع الجمهور ورقات نقدية تحلل هذه العلاقة، وتضعها تحت المجهر.
ولم تكن صدفة أو ربما كانت كذلك أن يكرم كيليطو في هذه الدورة بلوحتين، الأولى تحمل صورته، والثانية ورود الأقحوان التي تظهر بين سنابل القمح في حقول المزارعين، مثل "زهرة برية لا يدري كيف تفتحت"، كما يصف الكاتب نفسه "المقامات" حين يتحدث عن نشأتها بعدما سيطر النثر على الشعر في الثقافة العربية.
رواية "والله إن هذه الحكاية لحكايتي" لعبدالفتاح كيليطو (الجزيرة)ومن أهم ما جاء في الدورة الكشف عن "فتوحات عبد الفتاح" في مساره التأويلي للنصوص، وتحديد هوية الشاعر وطيفه في كتاباته، وأدوار المقامات في استعادة الشعر لنوره وتوهجه، علاوة على سبر منهجه في التعامل مع كل ذلك.
هوية الشاعر"الشاعر صائغ بل كيميائي يحول المعادن الخسيسة أو متواضعة القيمة إلى معادن ثمينة"، هكذا يدرج كيليطو في روايته "والله إن الحكاية لحكايتي" وصف الشعر على لسان أبي زيد السروجي، بطلِ مقامات الحريري.
وتقول الإعلامية والأديبة غادة الصنهاجي للجزيرة نت "قد يبدو للقارئ جليا أن كيليطو عاشق للشعر، لكنه قد يتجاوز عنده حتى هذا العشق، بل إنه ربما يعتبره قدرا ومصيرا يختاره المرء طوعا كما أورد موضحا في منمنمته "مجنون ليلى" أن قيسا عجز عن الصمت، وفضل الشعر على محبوبته، وكان عشقه أقوى من عشقِها.
الكاتبة والإعلامية غادة الصنهاجي أشارت لأن كيليطو عاشق للشعر والحكاية (الجزيرة)وتبرز الصنهاجي أمرا آخر ينبغي الانتباه إليه، هو التمهيد الذي خص به كيليطو روايته "خصومة الصور"، مبديا سعادته إن صادف القارئ نفسه في نثرها السردي. وربما كان يعني عندما طلب من قارئه أن يتوجه إليها بإحساس أن تختلف طقوس قراءته وبأن تتلى النصوص كما لو كانت أشعارا".
النساخ شاعرإن للشعر والشعراء حضورا لافتا في أعمال كيليطو النقدية والسردية "كما يقول الناقد والمترجم حسن المودن، ويبرز في حديث للجزيرة نت أن رواية "حصان نيتشه"، تدشن جنسا أدبيا ربما حظه قليل في الأدب العربي المعاصر، يسميه "سيرة ذاتية لقارئ" تكرس نفسها في الرواية ذاتها من صغر ذلك القارئ إلى كبره، مع التركيز على علاقة التلميذ باللغة، وبالكتابة، وبتلك الطريقة الفريدة في القراءة: نسخ الكتب والمؤلفات.
الناقد والمترجم المغربي حسن المودن: كيليطو دشن نوعا أدبيا يمكن أن يسميه سيرة ذاتية لقارئ (الجزيرة)وينسج المودن سؤالا بعد آخر، يبدأ بـ"كيف أصبح النساخ شاعرا؟ وهل الموضوع المفضل في هذا النوع من الأتوبيوغرافيا هو وصف هذا القدوم إلى عالم النسخ والقراءة، ثم القدوم إلى عالم الشعر والكتابة؟ كيف تحول هذا الطفل-التلميذ الذي يصفه الآخرون بالبلاهة والجنون والغرابة والضعف العقلي، من آلة نساخة تكاد لا تكف عن نسخ الكتب والمؤلفات إلى شخصية بهوية أدبية، بهوية شعرية؟
وينتهي به الأمر متسائلا " أيقول عبد الفتاح كيليطو أن لا هوية أدبية من دون أن يتعلم المرء كيف يدبر قلقه بين عدد من الثنائيات الضدية: نسخ/قراءة، قراءة/كتابة، ذاكرة/نسيان، لغة الأم/لغة الآخر، شعر/سرد، ذات/آخر..، كيف يمحو الآخر، بعد نسخه وحفظه، ثم هضمه ومحوه، من أجل أن تتأسس هوية أدبية جديدة.
طيف الشعراءبعض أسئلة الناقد المودن قد يبدو أن الكاتب والمترجم منير السرحاني يجيب عنها، حين يبرز أن الكتابة مرادف للنسيان، وفعل لصيق بفعل آخر مضاد، هو "المحو"، وبفضل انصهار المعارف في الذات والقراءات في الكتابة، تختفي الأنا لتصير الكتابة برمتها عبارة عن "لعبة" عن مجالس منفصلة وفصول قائمة بذاتها ومقامات صفتها الأساسية "التريث في إلقاء الشعر"، الذي يفرض على الشاعر تنقيح قصيدته على مدار العام على خطى زهير بن أبي سلمى.
الكاتب والباحث منير السرحاني: كيليطو مارس الشعر والكلام من خلف قناع (الجزيرة)هو إذن طيف الشاعر في كتابة، وفي محكيات كيليطو الذي مزق محاضراته عن الأدب الفرنسي ليكتب عن النصوص التي تمكنه من الإضافة، ومن التجديد ومن "الترجمة المستحيلة" وتحميه من العمى ومن الملل.
يقتبس السرحاني فكرة أن كيليطو مارس الشعر والحكي من خلف قناع، فهو يكتب من خلال "المحاولة" التي تعطي إمكانية الاستشهاد بالآخرين، تماشيا مع مبدأ الارتياب، وتمكن من إخفاء الحقيقة والابتعاد عنها، خاصة بفضل السرد وبفضل المحكي الذي يكسر المنهج الأكاديمي وأحيانا يكرس مبدأ الحرية في ممارسة هذا النوع من الكتابة.
ويقول إن كيليطو يتفادى في محاولاته البعد التعليمي، بكتابة تذهب بالشخصيات الحقيقية، مثل المعري والجاحظ حد الخيال، حتى يتهيأ للقارئ أنها متخيلة ولا وجود لها في الواقع، وفي تاريخ الأدب.
المقامة والشعريشبه كيليطو المقامة بـ"زهرة برية لا يدري كيف تفتحت"، كما يلاحظ سعيد العوادي أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب، مبرزا أنها النص الذي أخذ قسطا مهما من اهتمامات هذا الكاتب النقدية المخبرية.
ويقول للجزيرة نت "في المقامة يقيم النثري مع الشعري في مقام واحد. وهذا ما يمنح لهذه الزهرة المتفتحة تفردها في البرية، ويتطلب من المتعامل معها حساسية خاصة، لأنها تشم ولا تفرك".
أستاذ البلاغة سعيد العوادي: المقامة برزت بعد تراجع الشعر لصالح النثر في الثقافة العربية (الجزيرة)ويلاحظ العوادي أن المقامة برزت بعد تراجع الشعر لصالح النثر في الثقافة العربية منذ منتصف القرن الثاني الهجري، والتي شقت طريقا غير مألوف في النثر العربي، مستفيدة بدهاء كبير من إنجازات الشعر.
ويكمل العوادي قائلا، سواء على مستوى التوازنات الصوتية التي سيتم التركيز فيها على مقوم السجع، إذ يقول كيليطو "إن السجع الذي عرف ازدهارا صار متألقا في القرن الرابع، ينافس جديا الشعر".
أو على المستوى الصياغة، يردف العوادي، يؤسس الجنوح إلى عويص اللغة وغريب التصوير، ما سماه كيليطو بـ"شعرية الستار"، حيث يتوارى المعنى في أفق عائم، أو على المستوى التجاوري، إذ يبرز الشعر بطريقة صريحة متجاورا مع النثر.
ضد المنهجسؤال آخر يطرح نفسه، هو هل ربط كيليطو ممارسته القرائية بنظرية أو قيد نفسه بمنهج.
يجيب محمد الحيرش أكاديمي وباحث متخصّص في اللسانيات والتأويلات للجزيرة نت "منذ بداياته شعر الكاتب بأن صفة "بنيوية"، الواردة في العنوان الفرعي لكتابه حول "الأدب والغرابة" تضعه في ضيق معرفي لا ينسجم مع اختياراته النقدية أو التأويلية الواسعة.
الباحث محمد الحيرش: كيليطو ينحو في لغته الواصفة منحى إبداعيا منفلتا من عقال المناهج (الجزيرة)ويلاحظ أن طريقة كيليطو في القراءة والتأويل تضمر في طياتها موقفا يتحفظ من الحقائق المنهجية ولا يثق بها، وأنه ينحو في لغته الواصفة منحى إبداعيا منفلتا من عقال المناهج ومتحللا من كل التزام بحدودها وآلياتها.
ويضيف "لأول وهلة قد يبدو على هذا التفسير بعض الوجاهة بالنظر إلى الانسيابية التي تميز لغة كيليطو الواصفة، وبالنظر أيضا إلى الرشاقة التي يصوغ بها تحليلاته، غير أن الانسيابية والرشاقة لا تفسران في العمق إبداعية لغة كيليطو النقدية، ولا تعللان ما تنطوي عليه من إضافات نوعية إلى المعرفة بالأدب، ذلك أن نظرة متأنية إلى مفردات هذه اللغة تجعلنا أمام ناقد يبهرنا بخبرته المنهجية العميقة ومهاراته القرائية المتبصرة، وأن علاقته بالمناهج تبقى إيجابية ومتوازنة.
"فتوحات عبد الفتاح"إن المتأمل في المسار التأويلي لكيليطو، يلاحظ أنه تحكمه إستراتيجية خاصة باشتغاله على نصوص تراثية متنوعة منها المحكي القصير، والسرد الطويل، والنوادر، والمحكيات المنقبة والسرد الرحلي والقصة الفلسفية والرسائل والنصوص النقدية والأدبيات الشعرية والمقامات، كما يبرز الباحث والناقد محمد أيت لعميم.
محمد أيت لعميم: كيليطو اشتغل على نصوص تراثية متنوعة منها المحكي القصير، والسرد الطويل، والنوادر (الجزيرة)ويبرز أن هذا التنوع من المتون الأدبية يسوقه كيليطو إلى فضاء تأويلي قصد توليد المعنى من أرحام خلناها صارت عقيمة بسبب التكرار والاجترار، إذ يسعى الكاتب إلى إحداث خلخلة وتحين الفرصة للعثور على السراج المنير أثناء الهبوط في عتمة النصوص، إذ يتأسس فعل القراءة لديه من مساءلة البداهة واكتشاف العادي، ووضع اليد على الرسالة المسروقة التي من فرط وضوحها تعذرت على الرؤية.
ويضيف فهو بتقمصه لشخصية المحقق في الروايات البوليسية لا ينساق وراء الأدلة المضللة، بل يسلك الطريق الصعب في فك شفرات اللغز، ولذلك فإن المتعة والدهشة التي يعيشها أثناء بحثه هي التي تغري قراءه وهم يتابعون فتوحات عبد الفتاح التأويلية عبر شبكة من العلاقات يبنيها بين النصوص، حيث يصير الأدب قارئا للأدب، ويتم تفسير الأدب بالأدب.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: عبد الفتاح للجزیرة نت
إقرأ أيضاً:
منح الكاتب الفرنسي من أصل جزائري كمال داود جائزة غونكور عن روايته الحوريات
منح الكاتب الفرنسي من أصل جزائري كمال داود أمس الاثنين جائزة غونكور التي تعد أبرز المكافآت الأدبية الفرنكوفونية عن روايته "الحوريات" الصادرة عن دار "غاليمار"، وتتناول الحرب الأهلية في الجزائر بين 1992 و2002 المعروفة بـ"العشرية السوداء".
وقال الكاتب البالغ (54 عاما) في مطعم "دروان" الذي أُعلن منه اسما الفائزين بجائزتَي غونكور ورونودو "أنا سعيد جدا. إنها عبارة مستهلكة، لكن لا توجد كلمات أخرى".
وكان داود من أكثر الأسماء التي حظيت باهتمام المراقبين هذا العام، خصوصا بعدما اقترب الكاتب الجزائري من نيل جائزة غونكور لعام 2014 عن روايته الصادرة بالفرنسية "ميرسو تحقيق مضاد" أو "معارضة الغريب" (Meursault, contre-enquete).
ونال داود 6 من أصوات أعضاء أكاديمية غونكور العشرة، في مقابل اثنين للفرنسية إيلين غودي وواحد لكلّ من مواطنتها ساندرين كوليت والفرنسي من أصل رواندي غاييل فاي الذي حصل على جائزة رونودو، وفق ما أعلن رئيس أكاديمية "غونكور" الكاتب فيليب كلوديل.
وأوضح كلوديل أن "أكاديمية غونكور توّجت كتابا تتنافس فيه القصائد الغنائية مع التراجيديا، ويعبّر عن العذابات المرتبطة بفترة مظلمة من تاريخ الجزائر، وخصوصا ما عانته النساء". وأضاف "تُظهر هذه الرواية إلى أي مدى يستطيع الأدب، في حريته العالية في معاينة الواقع، وكثافته العاطفية، أن يرسم إلى جانب القصة التاريخية لشعب ما، سبيلا آخر للذاكرة".
وتُعدُّ "الحوريات" (Houris) رواية سوداوية بطلتها الشابة أوب التي فقدت قدرتها على الكلام بعد ذبحها، وحرص داود على أن تكون شخصية امرأة هي الراوية للحبكة، واختار لبداية القصة مدينة وهران التي كان يعمل فيها صحفيا خلال "العشرية السوداء"، ثم تجري الأحدث في الصحراء الجزائرية التي تنتقل إليها أوب لتعود إلى قريتها.
وهذه الرواية هي الثالثة لكمال داود والأولى تصدر عن دار غاليمار. وسبق له أن فاز بجائزة لاندرنو للقراء في أكتوبر/تشرين الأول.
حصل داود على الجنسية الفرنسية، وذهب إلى حدّ القول، في إشارة إلى الشاعر غيوم أبولينير الذي ولد في بولندا وتجنّس في ذروة الحرب العالمية الأولى، "أنا مصاب بمتلازمة أبولينير، أنا فرنسي أكثر من الفرنسيين".