تسويق جديد لعهد الترابي وفكره .. (يفتح الله) !!
تاريخ النشر: 26th, February 2024 GMT
مرتضى الغالي
وما سبب هذه الحرب اللعينة غير انقلاب الترابي وثلاثينية الإنقاذ السوداء..؟!
مع وجوب الوقوف بخشوع أمام جلال الموت لم نستطيع أن نستسيغ إن يوصف مسعى الترابي السياسي وفكره بفضيلة انه كان مُحباً للشعب السوداني وأنه ترك للأمة السودانية مفتاحاً لحل معضلة الاختيار بين الدولة الدينية والدولة المدنية.
لقد حاولت بعض الكتابات مؤخراً أن تسوّق لنا سيرة الترابي على غير ما يعرفها الناس..! ومنها قلم كاتب أكاديمي وسياسي معروف..خلاصة ما فهمناه من مقاله أن الترابي ترك لنا كسودانيين (مفتاحاً سحرياً) لحل هذه الثنائية التي نعاني منها.. بأن يجعل الشريعة الإسلامية تصدر عن طريق التصويت البرلماني لا عن طريق القسر والقهر..فتنحل بذلك الثنائية العصيّة بين الدولة الدينية والدولة المدنية أو العلمانية..!
هذا كلام غريب غريب تتجاوز غرابته حكاوي الغول والسعلاة والسحاحير و(ود أم بُعلو)..! فعهد الترابي تاريخ قريب لم يدخل بعد في دنيا الأساطير..!
والذي يتحدث عن فكر الترابي ومذهبه وسيرته وعهده وتربيته لجماعته لا يتحدث في الهواء والخواء والخلاء أو ينطق بالهوى..إنما يتحدث من واقع سيرة الرجل الذي ملك السلطة كاملة في السودان في مرحلة مشهودة وطويلة (طولاً يجنن كما يقول النعام آدم) هي الفترة الأغبر والأكثر دموية من عهد الإنقاذ المشؤوم (وكل أيام الإنقاذ غبراء مُكللة بالسجم والرماد)...!!
وهي سنوات كان فيها الشيخ الترابي (الحاكم بأمره) و(مصدر السلطة الأعلى) الذي لا تعلوه سلطة ولا ينازعه فيها منازع.. سلطة مُطلقة (يغار منها جوزيف ستالين وبينيتو موسوليني والجنرال بول بوت- الأخ رقم 1)..!
فهل تطابق سعي الترابي هذا في التوسل بالعمل البرلماني والسياسي الديمقراطي (العطوف) لإقامة رؤيته الدينية وتطبيقها على أرض السودان والرفق بالعباد (برلمانياً) باستخدام هذا المفتاح الذهبي..؟!
وشاهدنا في هذا التاريخ المشهود للإنقاذ ولزعامته المطلقة..فماذا فعل الترابي على أرض الواقع؟:
الشيخ الترابي حتى بعد إن قام بالانقلاب وهدم الحكم المدني القائم..هل سمح بتكوين برلماني تشارك فيها القوى والكيانات والأحزاب السودانية والآراء المتنوعة حتى يكون هو البرلمان الذي تنطلق منه الشريعة الترابية بكامل الرضا والموافقة..؟!
ماذا فعلت سلطة الترابي بالأحزاب السودانية التي يريدها الترابي أن تصوّت من داخل البرلمان بحرية كاملة على شريعة الإنقاذ..؟!
كيف نستطيع المواءمة بين سعي الترابي لإقامة الشريعة عبر البرلمان مع إنشاء بيوت الأشباح إلا أن يقول قائل إنها لم تتم بعلمه..وهذا من رابع المستحيلات (بعد الغول والعنقاء والخل الوفي)..!
من أين يمكن أن نوائم بين هذا المسعى البرلماني للشريعة وعن محاكم التفتيش وصولة أجهزة الأمن التي جعلت دولة الإنقاذ دولة بوليسية لا تدانيها أنظمة الجستابو النازي وبوليس الجنرال بونوشيه..!
أين كانت عدالة القضاء في عشرية الإنقاذ الأولى وهي عشرية سلطة الترابي المطلقة..؟
ماذا عن محارق حرب الجنوب ودارفور وكردفان والنيل الأزرق..؟!
ماذا عن اصطياد الصبية من الطرقات والحافلات ودفعهم للحرب عراة حفاة..؟!
ماذا عن قتل التلاميذ الصغار بإطلاق الرصاص على ظهورهم ورءوسهم عند محاولة خروجهم من المعسكرات فقط لقضاء يوم العيد مع أهاليهم..؟!
ماذا عن إعدام مجدي وجرجس بغير محاكمة بسبب دولارات من حر أموالهم..وجيوب وخزائن الإنقاذيين وشيوخ الحركة مكدّسة بالعملات الحرة من كل صنف ولون..؟!
ماذا عن سنوات الرعب حيث يستطيع آي شخص أن يستوقفك ويقودك إلى سوء المصير والمنقلب بعيداً عن أعين الشرطة والقضاء والنيابات وبغير علم أهل بيتك..؟َ!
ماذا حدث لضباط رمضان الذين بخلوا عليهم بالمحاكمة وجرى دفنهم أحياء..؟!
ماذا عن التمكين وقصص الفساد في هذه العشرية وإقصاء الآخرين وطرد مئات الآلاف من وظائفهم بسبب التصنيف السياسي..؟!
من الذي قام بتسييس الجيش والقضاء والخدمة المدنية وحطم مؤسسات الدولة وجعل الولاء طريقاً للثروة والمناصب والشفاعة والسرقات والامتيازات والإعفاءات والعطاءات..؟!
ماذا عن فساد رموز الإنقاذ الذي لم يماثله فساد في التاريخ والترابي ينظر ويرى..وهو فساد مشهود اعترف به الإنقاذيون أنفسهم وتباهوا به..ومجمله نهب من موارد الدولة والمال العام ومن ملكيات الناس وعلى رءوس الأشهاد..؟!
هل من طبيعة الترابي أن تخفى عليه خافية عما يدور حوله عسكرياً وأمنياً وسياسياً وماليا..وما يفعله أعوانه ووزراؤه وقادة حزبه وحركته..؟!
من المضجر أن نستمر في سرد ما حدث في عشرية الإنقاذ الأولى..وبعض هذه النماذج توضح نوع الشريعة التي يريد الترابي وحزبه أن يقيمها في السودان ..وهي ذات الخطة العسراء التي قال عنها عمر البشير بعضمة لسانه ولهاته (الشريعة المدغمسة)..!!
هل كان لدي الترابي حقاً مفتاحاً سحرياً تركه للشعب السوداني لحل معادلة الدولة الدينية والدولة المدنية والثنائية التي قال الكاتب إننا نعاني منها.. والتي أعجزت كل السودانيين ولم تجد لها علاجاً إلا عن الشيخ الترابي..؟!
(هذا كلام له خبيءٌ..معناه ليست لنا عقول)..!
هذا حديث تدحضه سيرة الرجل السياسية والدينية في السودان بما يضع (ألف تساؤل وتساؤل) حول محاولة تصوير حقيقة الرجل على غير ما شهده الناس منه طوال وجوده في الحياة السياسية السودانية..!! فهو صاحب انقلاب الإنقاذ الذي فتح باب الشرور التي لا تزال تتواتر على السودان عن طريق استخدام الدين ستاراً للدنيا العضوض والسلطة القهرية الباطشة.. !!
يجب أن تعلم الأجيال القادمة ما جرى في وطنها من حقائق ومشاهد بعيداً عن (اللولوة) وآفات الهوى..!
أي مفتاح تركه لنا الترابي (عليه الرحمة)..؟!
هل هو مفتاح الحروب وتشتيت أهل السودان وتمزيق النسيج الأهلي وتدمير مرافق الدولة وهدم المؤسسية وإطفاء أنوار العدالة وإفشاء المحسوبية ونشر السلاح وتشريد العباد وقتل الأبرياء وقطع الأرزاق...؟!
لا حول ولا قوة لا بالله العلي العظيم (مفتاح إيه..وكلام إيه دا)..؟!!
murtadamore@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: ماذا عن
إقرأ أيضاً:
السودان.. حرب الهويات والغنيمة
رغم تغطية الإعلام الدولي للحرب في السودان، تصمت معظم الإذاعات العربية عن مأساة الحرب الأهلية في السودان، والتي طالت لعدة عقود، والسبب في ذلك أمرين: الأول اهتمام وسائل الإعلام بالحرب في غزة والتغيير السياسي في سوريا، والأمر الثاني، أن حرب السودان عرقية ناتجة عن التعريف القومي لهوية الدولة تابعها مفهوم الغنيمة، باحتكار النفط سابقا واحتكار والسيطرة على مناجم الذهب حاليا، وهي لا تساعد الحكومات العربية على وضع اللوم على الخارج الإمبريالي كما يوصف دائما.
خلال 40 عاما كان الجنجويد وجلهم من القبائل العربية في دارفور في صدارة الأحداث السودانية، ظهروا في دارفور عقب سقوط النميري ووصول سوار الذهب إلى الحكم لتأمين الطرق، وتشكلت منهم قوة عسكرية في سنة 2003م استغلها عمر البشير لمحاربة فصائل الجنوب، فانفصل عن شماله بعد حرب دامت عقدين من الزمان، ثم استخدم البشير هذه المجموعات لتصفية خصومه المعارضين له في الشمال والغرب.
في سنة 2013م تحولت تلك المجموعات تحت قيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) وبمساعدة جهاز الاستخبارات الوطني إلى قوة ضاربة بعشرات الآلاف من المسلحين تسمى قوة الدعم السريع.
برزت قوة الدعم السريع بعد سقوط نظام البشير وأصبح حميدتي نائب رئيس المجلس العسكري في السودان للفترة الانتقالية بقيادة البرهان، وبذلك أصبح للدعم السريع صلاحيات أكبر منافسة وموازية للجيش، من خلالها لعب الدور الأبرز في قمع المظاهرات في سنة 2019 م عقب الانقلاب العسكري، حيث نفدت قوات الدعم السريع مجزرة القيادة العامة في يونيو 2019 والتي راح ضحيتها 100 من المتضاهرين العزل.
وفي 6 سبتمبر 2023 تمردت قوات الدعم السريع عن الجيش السوداني وبدأ مسلسل الحرب الأهلية مرة أخرى، علما بأن الدعم السريع وقواعدة من الجنجويد في دارفور والجيش السوداني معضمه من السودانيين من أعراق أفريقية.
منذ البداية كان الجيش يتحصل على دعم من الجارة مصر لعدة أسباب منها محاولة نقل تجربة السيسي إلى مصر، وضمان وجود السودان كداعم لمصر في قضية السد الإثيوبي وتقاسم مياه المصب، إضافة إلى روسيا التي تحاول اللعب مع الطرفين.
بالمقابل لجئ حميدتي إلى الإمارات التي لها رغبة أكيدة في وأد أي تجربة ديموقراطية ونهضة عمرانية تؤثر سلبا على موقعها التجاري، فكانت الداعم الأكبر لحميدتي وساهمت في ترويض حفتر ليكون الممول بالسلاح والوقود عبر الصحراء الليبية إلى السودان، مقابل إشراك المرتزقة السودانيين في حرب حفتر على طرابلس وفتح مناجم الذهب للإمارات وجزئيا إلى روسيا، ويقدر كمية الوقود المهرب إلى السودان من المنطقة الشرقية بليبيا عن طريق ميناء ينغازي ما لا يقل عن 3 مليار دولار من مجموع 9 مليار مجموع دعم الوقود في ليبيا، أما الهدف الآخر للإمارات هو الحصول على ميناء بحري على البحر الأحمر لضمان استمرار تجارة العبور التي أصبحت مهددة من موانئ جنوب البحر المتوسط إن ساد في أي منها حكم رشيد.
يتم تمويل قوات الدعم السريع من تهريب الذهب من مناجم السودان حيث تقول التقارير في سنة 2017 تم تهريب أكثر من 145 طن من الذهب الخام من مجموع 250 طن تنتجها السودان جلها يصدر إلى الإمارات وروسيا، وهذه الأموال لا تعود للحكومة المركزية.
الأمر الآخر المهم أن السودان يوجد به أكثر من 200 مجموعة عرقية و 114 لغة جلها أفريقية، مما حدا بالمشرع في دستور 2005 أن تكون العربية والإنجليزية هما اللغات الرسمية، رغم ذلك تريد مجموعات الجنجويد والإخوان المسلمين أن تكون دولة السودان عربية إسلامية، وهذا النهج افضى إلى انفصال الجنوب عن الشمال بسبب الإقصاء، واليوم تتفكك الدولة في حرب أهلية مدمرة، وهي نتائج لتعريف الهوية بأنها نتاج اللغة السائدة المفروضة من المجموعة الأقوى في الدولة وليس الأكثرية.
إن هذا التعريف القومي المزيف للهوية بأن أساسها الدين والقومية قد نشر الحرب الأهلية في جل الدول العربية المنتفضة بعد 2011 مثل العراق وليبيا واليمن وسوريا والسودان وحتى تونس، وهو إرث ثقيل لم تتخلص منه عقليات شعوب العالم الثالث بعد.
من الملاحظ أن استقرار الدول المتقدمة أحد عواملة الأساسية تعريف هوية الدولة على أسس الجغرافيا والتاريخ المشترك، والتي تشيع اختلاف اللغات والثقافات ضمن الشعب الواحد، فمثلا عند معظم الدول الغربية من تواجد على أرض الوطن لفترة معينة وتقبل قوانينها وسار بنظامها وأصبح له مع موطنوا الدولة تاريخ مشترك (من 5 حتى 20 سنة) يصبح جزء من الدولة، ومواطن فيها وهويته الوطنية التي تجمعه بذلك الشعب جعلته جزء من وعاء الدولة بغض النظر عن اللغة والدين والعرق.
في ليبيا مثلا الإسلاميين السلفيين يريدونها دولة خلافة، وعائلات العهد الملكي تريدها ملكية دستورية، وأنصار حفتر والنظام السابق يريدونها دولة ذات هوية قومية عربية، أما المثقفين والنشطاء المدنيين وجل الأمازيغ والعائدين من المعارضة فيريدونها دولة مواطنة ديموقراطية هويتها الجغرافيا والتاريخ المشترك دون الاهتمام بالعرق والدين واللغة.
في السودان لو تم تأسيس الدولة على هوية جامعة وهي الجغرافيا والتاريخ المشترك لما كان هناك انهيار للدولة ولا مئات الآلاف من القتلى، وأكثر من 10 مليون مشرد معرضين للمجاعة، مع انهيار البنية التحتية، بالمثل تعريف هوية الدولة على أسس اللغة والدين، دمر اليمن والعراق والسودان وسوريا، وعطل قيام الدولة في ليبيا وتونس، وأوجد قلاقل في البحرين والجزائر.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.