26 فبراير، 2024
بغداد/المسلة الحدث:
ابراهيم العبادي
تحرص الكثير من الشعوب ان يراها الاخرون بما تعتقده انها خصائصها الايجابية وسماتها العامة من غير تبخيس ولا اساءات ولا نظرات غير موضوعية .وقد ساهمت الدراسات الاستشراقية وملاحظات الرحالة وانطباعات الزائرين ومذكرات الدبلوماسيين في توفير (سجلات) توصف بانها دراسات عامة عن الشعوب التي كانت موضع اهتمام.
يسجل للمسلمين عبر الرحالة والمبلغ والعالم والسفير (العراقي) احمد بن فضلان (309هه) بأنه الاول في بذر البواكير الاولى للدراسات الانثروبولوجية (دراسات الانسان والشعوب وثقافاتها واعرافها وتقاليدها وقيمها واخلاقها ) ،حينما دون رحلته الى ممالك الشمال الاوربي ايام الخليفة العباسي المقتدر بالله (282-320 هه ) ،بعده تقاطرت الانطباعات والدراسات الى ان وصلنا الى مرحلة غدت فيها دراسة سمات الشعوب اولوية لدى العديد من مراكز الدراسات والابحاث الانثروبولوجية والنفسية والاجتماعية ، ومدار اهتمام بالغ من لدن وكالات التجسس ،لما لهذه القضية من اثر كبير في صنع السياسات وبناء العلاقات ،فبعض مراكز صنع القرار صارت تسعى الى فهم ثقافة وخصائص شعوب الدول الاخرى ،ولم يعد سرا ان الاقسام المتخصصة في دوائر الاستخبارات صارت تعتمد خبراء كبار في دراسة الشخصية القومية وسماتها، والمجتمع الفلاني واعراضه وحالاته ، وتكويناته وتاريخه ونمط عيشه ، واساليب بناء السلطة لديه ونظامه الاقتصادي ، والهياكل الثقافية والبنية الاجتماعية فيه.
الشخصية العربية كانت موضع رصد منذ زمن طويل ، وكتبت المئات من الكتب عن تاريخ العرب وثقافتهم وفولكلورهم وسمات شخصيتهم ،وقد اسهم علماء كثيرون ومنهم يهود متخصصون في علم النفس والاجتماع والانثروبولوجيا في كتابة ابحاث عن الشخصية العربية عامة وشخصيات الشعوب العربية في بلدانهم ، كالشخصية الفلسطينية او العراقية او البدوية او المصرية ، ظهر في بعضها التحيز والتعميم واضحا ، كما تتابعت دراسات عن شخصية رجال القبائل وثقافة القبيلة والريف وابناء المدن والسواحل ،ولم يتأخر العلماء العرب انفسهم في ذلك فجاءت الحصيلة كبيرة واشكالية ومثار جدل الى وقتنا الراهن .فقد كتب في هذا المضمار على سبيل المثال لا للحصر، علي الوردي و حامد عمار و هشام شرابي و حليم بركات وشاكر مصطفى سليم وقيس النوري وعلي زيعور وسيد ياسين.
وفي سياق التنافس القومي ظهرت دراسات عن العرب في عيون الايرانيين، والعرب في عيون الاتراك ،وتأثرت جميع هذه الابحاث والدراسات بما يسميه العالم العراقي الدكتور عبدالله ابراهيم بالمركزيات ،فهنا مركزية اسلامية في القرون الوسطى كانت تتخيل وتتصور العالم غير الاسلامي وفق معاييرها، كما فعل العلامة ابن فضلان وابن خلدون ، وهناك المركزية المعكوسة ،مركزية الغرب الذي صارت معاييره مسيجة باسوار المنهج العلمي وفرضت نفسها عبر هذه العلموية ، رغم النقد الشديد الذي تعرضت لها (انظر لنقودات ادوارد سعيد مثالا )،ومايزال المجال مفتوحا لمزيد من التمعن والبحث والملاحظة عن الشعوب ، كلما انتكست ثقافيا وحضاريا وتراجعت اقتصاديا وسياسيا او تقدمت اشواطا في سلم الحضارة ،قد يكون النقد الثقافي للمنظورات المستعملة لمعاينة السلوك الثقافي والسياسي والاجتماعي هو اخر هذه الاتجاهات ،كما فعل الناقد السعودي عبدالله الغذامي في(القبيلة والقبائلية )وعبدالله ابراهيم في دراساته الثقافية المتعددة ،وجميع هذه الدراسات استهدفت استجلاء الحقائق والوقوف على الانماط التي تحتاج الى نقد واصلاح وتغيير وتحديث.
مانحن بصدده الان هو الوقوف على طبائع وخصائص وايجابيات وسلبيات وانماط الشخصية العراقية ، ناظرة الى العالم ومنظورا اليها ،لاعادة التوازن الى هذه الشخصية بعد سني الاستلاب والقهر والنرجسية والعنف والمقارنات غير المجدية مع الاخرين ،السؤال الذي آثرنا تأخيره ، هو لماذا يرفض العراقي انطباعات و (تقييمات )الاخرين له ؟ ، لماذا ينفعل غاية الانفعال عندما يجد ان الاخرين لايضعون العراق والمجتمع العراقي والشخصية العراقية في الموضع الذي تخيله ويتخيله ؟.
السبب ببساطة هو اختلاف المنظور والنظارات ،اعني المنظور الثقافي والنفسي والاجتماعي والسياسي والتاريخي،والنظارات اللحظوية التي ينظر منها الرائي والحاكي والواصف والمقيّم !!.
ينظر بعضهم الى العراقي بمنظار التاريخ والعلم والفكر والادب ،فيبدو العراقي ،عالما وشاعرا واديبا ومحدثا وقصاصا ومثقفا وو….’وينظر بعضهم من منظار اخر فيجد الثورة والعنف والانفعال والغضب والتمرد والمفاضلة بين الحكام والرجال والازمنة والمذاهب والفقهاء ،فتغدو الشخصية وبعدها المجتمع مضطربا صراعيا داميا فقيرا جائعا لايعرف الاستقرار والهدوء ولايتذوق الرخاء الا قليلا وفي ايام قصيرة رغم ثراء البلاد.
وينظر اخرون بمنظار الدين والمذهب والفرقةالخاصة بهم ووفق مسطرتهم وصراطهم المستقيم ،فيرون العراقيين اهل اهواء ورأي وبدع وفرق واحزاب وتعددية مفرطة ، يغلب عليهم الاختلاف والتعصب والموت دفاعا عن المعتقد.
لو كان العراقي مكان الاخرين الذين ينظرون اليه ،كيف سيرى نفسه ؟كيف يرى العالم من حوله ؟كيف يفسر الحوادث والقضايا والمتغيرات ؟.
لاشك ان المنظورات وزاوية النظر هي ما يكون الرؤية، مضافا اليها البيانات والمعلومات والوثائق والاخبار الصادقة ،لا الخيال ولا المسبقات الذهنية ولا الانطباعات الخاطئة والمعلومات المظللة والمتكلسة والصدءة.
نشتكي من تحيز الاخرين ضدنا وتقليلهم من شأننا ،ونحن نمدهم معلوماتيا واعلاميا بكل مايسيء الى صورتنا التي نعتقد انها جميلة ،وواقع الحال يقول ان الجميل لايبقى على جماله ،وان العالم لايبقى عالما مالم يجدد ويحدث ويطور علومه ومعلوماته وبياناته ،ولا المثقف يبقى متربعا على عرش الثقافة وهو لايرى العالم بغير ادواته القديمة ،العلم ينمو ،والعالم يتغير ،والحضارات تصعد وتهبط ،والدول تدول بين القوة والضعف ،،وماكنا نراه متخلفا باعيننا صارت عيونه ترانا متخلفين ،وما حسبناه يوما بدويا اسير ثقافة وقيم الصحراء صار يرانا متراجعين الى ماكان هو عليه سابقا.
الموضوعية والاعتراف والتواضع وحب العلم واللهاث وراء المعرفة والتجديد والتصويب والقراءة الواقعية والدقة هي التي ترسم اللوحة الصادقة والنظرة السليمة ،فما نعاب عليه هو نفسه ماعبناه يوما على الاخرين ،انه الزمان الذي يصنفك وفق ماانت عليه ،والزمن الحضاري هو احد مكونات مركب الحضارة صعودا ونزولا .ولنعترف اننا نعيش زمنيا في مرحلة التخلف عن جميع الذين كنا نتقدم عليهم ،فمن مستلزمات النهوض الاعتراف والتشخيص وليس الانكار ،ثم العمل على توفير مستلزمات وشروط النهضة ،ونحن نملك بعضها ونتعثر بالاخرى ،واهم واعظم تلك المستلزمات الرؤية السليمة ومايؤسف له اننا مازلنا في مرحلة التيه.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
المصدر: المسلة
إقرأ أيضاً:
الصدر يغرد: امريكا عدوة الشعوب
بغداد اليوم -