تقسيم الشعوب.. من أين جاءت دعاوى معاداة السامية؟
تاريخ النشر: 26th, February 2024 GMT
"اللاسامية" أو "معاداة السامية" أو "مناهضة السامية" من أشد المصطلحات حساسية وحرجًا، وهي أيضًا من أكثرها ورودًا على الألسنة والأقلام، خاصة في سياق نقد إسرائيل أو تناول تاريخ اليهود، ومع ذلك فإن معظم استعمالها في المعسكرين لا يخلو من وهم وتساهل وخطأ ومغالطة.
ولفظة "اللاسامية" -التي شاعت بين العرب- هي ترجمة غير دقيقة للكلمة الأوروبية التي تعني حرفيًا "المذهب المعادي للسامية".
أما الخطأ والمبالغة في استعمالها فإنهما يأتيان غالبًا من جانب المدافعين عن إسرائيل، فهم يعيشون في عقدة الشعور بالاضطهاد بسبب عنصريتهم، ويتخيلون أن كل ما يحل به من مشاكل في علاقاته بالأمم الأخرى إنما يرجع إلى الأصل اليهودي.
جدل "السامية"يشمل مصطلح "السامية" مفهومًا شاع بالقرن الـ19 في أوروبا، ويقوم على اعتبار أن البشرية مقسمة إلى "أعراق" متمايزة تمامًا ينتمي إليها الأفراد بالولادة، وأن هذه الأعراق تنتمي في جزء كبير منها إلى عائلات لغوية.
وكانت "كراهية اليهود" تُعتبر ناتجًا من صفاتهم العرقية التي يُزعم أنها موروثة، وهي مواصفات كانت تُعتبر إمّا ممقوتة في الواقع، وإمّا أنها بطبيعتها ذاتها تحضّ الآخرين على الشعور بالكراهية تجاهها.
ومن المفترض أن يحمل هذه المواصفات في الأساس أفراد ما يُسمى العرق السامي كلهم، أي -عمليًا- جميع الشعوب التي تتحدث أو كانت تتحدث اللغات السامية. وبالتالي، فإن هذا من المفترض أن يشمل العرب أيضًا، كما أن المسيحية نفسها، بصفتها منبثقة من الديانة اليهودية، وبأن يهودًا جاؤوا بها، كانت تحمل وصمة هذا الأصل "السامي".
ومن رحم "التناخ/العهد القديم" ولد في التاريخ الحديث مصطلح اسمه "السامية". وهيمن -ولا يزال- على أفكار أجيال من الدارسين والباحثين. فلم يلبث مصطلح "السامية" أن لاقى تقبلاً من المختصين بالاستشراق، فشاع استعماله على نطاق واسع، وبقي متداولاً إلى يومنا هذا بين المعنيين بتاريخ اللغات والحضارة.
وأول من استعمل هذا الاصطلاح مطبوعاً هو المؤرخ الألماني أوغست لودفيغ شلوتسر (August Ludwig Schloester) في مقال له عن "الكلدانيين" عام 1781 الذي يقول "من البحر المتوسط إلى الفرات، ومن أرض الرافدين حتى بلاد العرب جنوباً سادت كما هو معروف لغة واحدة، ولهذا كان السوريون والبابليون والعبريون والعرب شعباً واحداً، وكان الفينيقيون (الحاميون) أيضاً يتكلمون هذه اللغة التي أود أن أسميها اللغة السامية". وقد تولى المحلل النفسي النمساوي أيشهورن بعد ذلك هذا الاصطلاح والدفاع عنه وإن ادعاه لنفسه.
وقد قال الباحثون إن الأقوام المتكلمة بتلك اللغات قد انحدرت جميعها من جد واحد هو سام بن نوح (عليه السلام) استنادًا إلى قائمة الأنساب التي تذكرها "التناخ/ العهد القديم" بالإصحاح العاشر من سفر التكوين، وأطلقوا على هذا الأصل أو الوحدة "الرس السامي" أو "الجنس السامي" أو "الأصل السامي" أو "السامية" وعلى اللغات التي تكلموا بها "اللغات السامية".
ومن الواضح أن شلوتسر قد اعتمد العرق [أي وحدة الأصل] أساسًا لتأصيل التشابه اللغوي بين الأقوام المدعوة بـ"السامية" متناسيًا أن هذا السام كان له أخوان هما "يافث" و"حام" فكيف يصح أن يقتطع "سام" من بيت أبيه ومن بين أخوته عرقياً ولغوياً!؟
وبهذا الصدد، يقول ليوتاكسل في كتابه "التوراة.. كتاب مقدس أم جمع من الأساطير؟": وبالرغم من ذلك يتفق اللاهوتيون على أن نوحًا أعطى آسيا لـ"سام" وأوروبا لـ"يافث" وأفريقيا لـ"حام". فولد كنعان و"حام" الزنوج والملونين. لذلك ينبغي أن تكون ذريتهما عبيداً للأوروبيين. لكن السؤال: كيف أصبح أبناء نوح الثلاثة مؤسسين لـ3 أعراق مختلفة، وهم المولودون من أب واحد، وأم واحدة؟
ويقول أيضا "مع ذلك، علينا أن ننحني أمام إرادة يهوه وكتابه المقدس، ونعترف بأن العرق الآسيوي الأصفر خرج من صلب "سام" والأوروبي الأبيض من صلب "يافث" والأفريقي الأسود من صلب "حام" وكنعان، بيد أن سؤالًا يتبادر إلى الذهن: من أين جاء الأميركيون الحمر البشرة؟ أغلب الظن أن الروح القدس سها أن يخبر مؤلف كتاب التكوين عن ذلك! وعلينا أن نقر بأن هؤلاء لا أب لهم!".
لقد فاجأنا أحد نبلاء الضمير في الغرب، وهو المفكر الفرنسي المعروف بيير روسي، حين قرر الانتقاض والتقريع، تقريع من كتب الكذب في جامعات أوروبا ومن صدق ذلك في جامعاتنا، قائلاً "وهل هناك ضرورة لإضافة أن تعبير "سامي" لم يرد له ذكر بين مفردات اللغة الإغريقية، أو في اللغة اللاتينية؟ وما يقال في هذا المجال طويل. إننا لن نجد هذا التعبير قبل نهاية القرن الـ18، ذلك أن العالم شلوتسر هو الذي صاغ هذا النعت "السامي" في مؤلف نشره عام 1781، وأعطاه العنوان التالي "فهرس الأدب التوراتي والشرقي" كأن الأدب "التوراتي" ليس شرقياً. إن هذا التقسيم الذي حدده يجب أن يدعونا إلى الحذر.
تقسيم الشعوبوإنه لمن المؤكد وبشكل حاسم أن التسليم بتقسيم الشعوب إلى شرقية وغربية هو مفتاح تاريخنا، وأنه مع هذا التقسيم الجغرافي يتطابق حدان مزدوجان عنصريان وهما "الهنود الأوروبيون" [أو من يسمون أحياناً بالآريين] و"الساميون". إن جميع العقول الجيدة قد انحنت أمام هذا الاختراع المتولد عن خيال اللغويين الألمان.
وإن المؤرخين سيعجبون للانتصار المناقض لما هو متعارف عليه، لهذا التصديق السريع، وللمطابقة في عصر، هو عصرنا الذي يؤكد كونه مرتابًا وعقلانيًا ورافضًا. والواقع أنه انطلاقًا من الوثائق والمصادر والمواد التي كانت تحت تصرف العالم، يبدو أنه من المستحيل البرهان على وجود شعوب "سامية" و"آرية" وبالأحرى إعطاء الحدود والفروق الخاصة بينها، كما أنه يبدو كذلك خاطئًا في منطلقاته مثلما هو خاطئ في عرضه ووقائعه، هذا المذهب الذي يجد الشرق والغرب بموجبه تعريفًا لكل منهما وتفريقًا لأحدهما عن الآخر حسب هذا التقسيم إلى لغات "هندية – أوروبية" و"سامية".
وإنه لا يحق لنا، بحسب الحالة الراهنة لمعرفتنا، أن نقدم مثل هذه المفاهيم. إن تعبيري "سامي" و"آري" ليسا شيئًا، ولا يدلان على شيء. ولكي يكتسبا حقيقة ما، أو لكي يصلحا نقطتي انطلاق تاريخيتين، ينبغي أن يكون هذان الشعبان قد امتلكا من قبل صفتي "الآرية" و"السامية". وأنه ليس هناك إنسان ما، أو ثقافة ما، أو مجتمع ما، قد طالب بهذا الارتباط بالمصير "السامي" أو"الآري".
وإن هذا يجب أن يقال. ولكن عالمنا كان نظرياً إلى حد جعله يجد سعادته في الأشكال الخيالية التي وضعه فيها المفكرون. إن البعد العالمي للنظريات التي يعممونها، والتضامن (لئلا نقول التواطؤ) الذي يصل بعضهم ببعضهم الآخر، والآلة المذهبية التي تحيط بهم.
وإن كل ذلك يعطي لآرائهم وأقوالهم سيطرة تفرض نفسها على الرأي وتعريه، ويبدو الأمر كما كتب إيراسم "الصحيح أن الإنسان مخلوق يتأثر بالخيال أكثر مما يتأثر بالحقيقة". بيد أنه لا شيء في ميدان الحقيقة يفرض تميزاً سليماً أو مريباً بين "الآريين" و"الساميين". فـ"من أجل احترام التراث التوراتي، ينبغي أن نقول "اليافثيون" وليس "الآريين" لأن "يافث" من أبناء نوح الثلاثة هو الذي نسل اليونانيين، والأناضوليين، وأقاربنا الأوروبيين".
وليس من اليسير أن نقطع برأي في صدد تقسيم الجنس البشري كما ورد في "التناخ/ العهد القديم" ومدى انطباقه على الأبحاث الحديثة، ولكني أؤكد أنه غير حرى بالدراسة الجدية. ومن جهة أخرى فإن التأصيل العرقي الذي قدمه شلوتسر، يصطدم بعقبتين رئيسيتين سبقنا إلى تشخيصهما الدكتور لطفي عبد الوهاب، في معرض حديثه عن "الساميين" أو الشعوب "السامية" في كتابه "العرب في العصور القديمة" فيقول: الحديث عن الشعوب (السامية) كمجموعة بشرية تنتمي إلى جنس أو عنصر واحد له ملامحه وخصائصه الجسمية الخاصة به والمميزة له هو حديث لا يستند إلى أساس علمي لسببين: أحدهما يتصل بقضية النقاء العنصري والآخر يتصل بالعلاقة بين العنصر واللغة.
وفيما يخص السبب الأول فإن تطابق الملامح والخصائص الجسمانية بين الشعوب "السامية" أمر غير قائم، فنحن نجد تبايناً واضحاً في هذا المجال بين هذه الشعوب من جهة ثم من داخل كلّ شعب منها من جهة أخرى.. وفي الواقع فإن علماء الأجناس قد انتهوا منذ أواسط القرن الحالي إلى أن الحديث عن نقاء الأجناس البشرية قد أصبح في حقيقة الأمر "خرافة علمية" حسب تعبير أحد علماء الإنثربروبولوجية المعاصرين.
أما عن اتخاذ اللغة أساسًا لوحدة الجنس أو العنصر، فيقول لطفي عبد الوهاب: إن الثابت من الملاحظة التاريخية هو أن اللغة لا تصلح أساساً لأي تحديد عنصري لسبب بسيط هو أن الفئات البشرية لها قابلية غريبة لالتقاط اللغات إذا كان ذلك يخدم أهدافاً مصلحية أو عمرانية.
من "مناهضة السامية" إلى "مناهضة إسرائيل"ظهرت "اللاسامية" الحديثة أولًا في فرنسا وألمانيا ثم في روسيا، بعد عام 1870.
وكانت "اللاسامية" الحديثة (1880- 1890) ردة فعل لرجال حائرين كرهوا المجتمع الحديث بعمق بكافة جوانبه الطيبة والشريرة، وكانوا من المؤمنين المتحمسين بنظرية المؤامرة في التاريخ. ووضع اليهود في دور كبش الفداء بسبب انهيار المجتمع القديم (الذي يتخيل الحنين "اللاسامي" أنه كان أكثر انغلاقًا وتنظيمًا مما كان عليه في الواقع) ووجود كل ما يثير الانزعاج في الأزمنة الحديثة. ولكن منذ البداية جابه "اللاساميون" ما تجلى أمامهم كمشكلة صعبة: كيف يعرفون كبش الفدا هذا؟ وبأي تعبيرات شعبية؟ وما هو العامل المشترك بين الموسيقى اليهودي، والحرفى، والمصرفى، والمتسول، خاصة بعد انحلال السمات الدينية العامة المشتركة، على الأقل خارجيًا؟ كانت "نظرية" العرق اليهودي هي الجواب "اللاسامي" الحديث لهذه المشكلة.
وإن الذين يُعلمون وينشرون "مناهضة السامية" يجهلون -إجمالًا- الأسباب الحقيقية لمشاعرهم، فيشرحون حالتهم الذهنية بمطاعن الإثنية والدينية والسياسية والاقتصادية و"كل هذه الزّخارف لـ(مناهضة السامية) ليس لها أساس، فبعضها مثل المطاعن الإثنيَّة مُتأتّية من مفهوم خاطئ للأعراق، وبعضها الآخر مثل المطاعن الدينيَّة والمطاعن السياسيَّة نشؤوا من فكرة منقوصة وضيقة عن التطور التاريخي، والأخيرة مثل المطاعن الاقتصادية كانت نتيجة الحاجة لسَتْر أحد صراعات رأس المال. فلا هذه ولا تلك بالإمكان تبريرها. فليس دقيقًا أن يكون اليهودي ساميًا صافيًا، ولا الشعوب الأوروبية هي آرية صافية. حتى أن فكرة السامي والآري لا يمكن شَرْعَنَتها".
وقد تصاعد في العقود الثالثة الأخيرة، بشكل خاص، الحديث عن مناهضة السامية، وتعريفها، في سياقات متعددة، بدءا من تعريفها الكلاسيكي أي "العدوانية تجاه أو التمييز ضد اليهود كمجموعة دينية، أو عرقية" وصولًا لتطوير التعريف إلى صيغة جديدة توسعه وتُضمنّه بنودًا أخرى يمكن استخدامها في سياقات سياسية أو دعائية أو قضائية، كي تمكن المدافعين عن "إسرائيل" -حتى في سياق ممارساتها كقوة احتلال- من استخدام التعريف الجديد، لقمع منتقديها، بذريعتين: حماية اليهود، ومنع تكرار الهولوكوست.
وإن مصطلح "مناهضة السامية" بلفظها الأوروبي مستحدثة، ويقول اليهودي الصهيوني ليون بولياكوف في كتابه "تاريخ مختصر للاسامية" إنها استعملت لأول مرة على يد الكاتب الألماني فيلهلم مار (Wilhelm Marr) حوالي سنة 1880. ويبدو أنها صادفت هوى في أفئدة اليهود، وفتحت لهم أفاقًا جديدة للهجوم والدفاع، إذ جعلوها "تهمة" لكل من لا يرى رأيهم، ولا يساعدهم على تنفيذ مآربهم وإنجاز خططهم، مهما كانت هدامة ومدمرة.
وقد خصص لها مفكروهم دراسات ومؤلفات، منها كتاب برنار لازار الذي ظهر بالفرنسية في مجلدين سنة 1894 بعنوان "مناهضة السامية تاريخها وأسبابها" ثم أعيد نشره مرة أخرى سنة 1934، ونقلته للعربية ماري شهرستان سنة 2004.
ولم يتغير تعريف "مناهضة السامية" منذ ذلك الحين، وبقي مستخدمًا منذ عام 1882 كما ذكر في معجم "ميريام- ويبستر".
وعام 2005 قام "المركز الأوروبي لمراقبة العنصرية ورهاب الأجانب" بالتعاون مع "مكتب المنظمات الديمقراطية وحقوق الإنسان" في منظمة "الأمن والتعاون الأوروبية" وخبراء دوليين ومنظمات المجتمع المدني، بوضع تعريف لـ "مناهضة السامية" جاء كالتالي "مناهضة السامية هي تصور معين لليهود، يتم التعبير عنه بالكراهية تجاه اليهود، مظاهر مناهضة السامية اللفظية أو المادية يتم توجيهها نحو الأفراد اليهود أو غير اليهود و/أو ممتلكاتهم، ومؤسسات المجتمع اليهودي ومرافقه الدينية".
وقامت الخارجية الأميركية باعتماد التعريف الأوروبي العملي لـ"مناهضة السامية". لكن الوزارة تشير إلى أن هذا التعريف فضفاض، لذلك تبرر الإضافة التفسيرية التي وضعها المركز الأوروبي لمراقبة العنصرية ورهاب الأجانب في تعريفه لـ"مناهضة السامية". وهذه الإضافة تقول "بعض المظاهر [لمناهضة السامية] يمكن أن تستهدف دولة إسرائيل باعتبارها كيانا جامعا لليهود".
وأكثر ما يهم الباحث في هذه الدراسة هو الإشارة إلى ملاحظة المركز الأوروبي لمراقبة العنصرية ورهاب الأجانب التي وردت في نهاية الوثيقة، والتي تقول "ومع ذلك، فإن انتقاد (إسرائيل) بطريقة مشابهة لما تتعرض له أية بلد أخرى من انتقادات لا يمكن أن يعتبر مناهضة للسامية".
وأما البنود التي وردت في التعريف الأوروبي العملي لمناهضة السامية، والتي تتناول اعتبار انتقاد "إسرائيل" في سياق ما عملًا مناهضًا للسامية، فتنص على التالي:
إنكار حق الشعب اليهودي في تقرير مصيره، مثلًا بالادعاء أن وجود "دولة إسرائيل" مسعى عنصري اعتمد معايير مزدوجة من خلال مطالبة "إسرائيل" بالقيام بسلوك غير متوقع أو غير مطلوب من أية أمة ديمقراطية أخرى. واستخدام رموز وصور مرتبطة بـ"مناهضة السامية" الكلاسيكية (مثل الادعاء بأن اليهود قتلوا المسيح، أو فرية الدم) لوصف "إسرائيل" أو "الإسرائيليين". وإجراء مقارنة بين سياسة "إسرائيل" الحالية وتلك النازية. واعتبار اليهود بشكل جماعي مسؤولين عن ممارسات "دولة إسرائيل".
ورغم أن هذه البنود تحاول أن تفصّل ما يمكن اعتباره "مناهضًا للسامية" وما يمكن اعتباره انتقادًا مسموحًا ضد "إسرائيل" فإن التفسيرات المختلفة والفضفاضة للانتقاد الموجه لـ"إسرائيل" خاصة فيما يتعلق بممارساتها بحق الفلسطينيين، تعطي مجالًا لـ"إسرائيل" كدولة وللمنظمات الصهيونية المؤيدة لها باتهام منتقدي سياساتها بـ"مناهضة السامية" لإسكاتهم.
نحن إذن أمام خطأ شائع يتمثل في استخدام مصطلح "السامية" وما يشتق منه مثل "الساميين" و"معاداة السامية" و"مناهضة السامية" حيث بات الموقف المعادي للحلم والوهم الصهيوني، أو الممارسات ضد العرب، ينعت بـ "اللاسامية" حتى تحولت سيفاً مصلتاً فوق رقاب الكتاب والصحف والحكومات وإخضاعها لما تريده الصهيونية.
الآراء الواردة بهذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري للجزيرة.المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
تحيا فلسطين نصف قرن من نشيد مناهضة الحرب بالسويد
غوتنبرغ، السويد- تضج شقة جورج توتري المتواضعة بالصخب والحياة حتى في فترة تقاعده، وهو يجلس محاطا بابنته وأحفاده. غير أن الجدران الرمادية الناعمة، المعتادة في الشقق السويدية، لا تحمل أي سمات لمنزل ينتمي لموسيقي مشهور عالميا.
بشعره الطويل الأشيب، ونظاراته ذات الإطار العريض، وعينيه المتقدتين، يتذكر المسيحي السويدي الفلسطيني، المولود عام 1946 في الناصرة (مدينة في شمال فلسطين التاريخية)، كيف تحول مسقط رأسه بفعل المستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية ونقاط التفتيش عندما كان طفلا.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2“ماغما” نافذة على الفن العربي تجمع العالم في هانوفرlist 2 of 2تصاعد المعارك في الفاشر غربي السودان وعدد النازحين يتجاوز المليونend of listبحلول الستينيات من القرن الماضي، أصبحت الناصرة بؤرة للنشطاء الفلسطينيين وسط تزايد أعداد النازحين داخليا. وكان مجتمعها النابض بالحياة المتعدد الأديان من المسيحيين والمسلمين الفلسطينيين، جنبا إلى جنب حماسهم السياسي، مصدر إلهام لأغنية احتجاجية قوية لتوتري، صدرت لأول مرة في شمال أوروبا أواخر السبعينيات، وأُعيد إحياؤها، بعد عقود، بفعل الحركة العالمية الأخيرة المناهضة للحرب المستمرة على غزة.
اكتسبت أغنية "تحيا فلسطين" (Leve Palestina)، أغنية توتري لعام 1979 عن فلسطين، حياة جديدة منذ بدء حرب إسرائيل الوحشية على غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
إعلانفي يوم رمادي ماطر أواخر أكتوبر/تشرين الأول في ستوكهولم، تجمع المتظاهرون المناهضون للحرب في العاصمة السويدية وهم يرددون كلمات أغنية توتري من السبعينيات، مطالبين بإنهاء قصف إسرائيل على غزة:
"تحيا فلسطين، وتُسحق الصهيونية. تحيا تحيا تحيا فلسطين…"
انتشر مقطع فيديو للاحتجاج، ودُمج مع أغنية "تحيا فلسطين" نفسها ورُفع على تيك توك، وعلى الفور حقق أكثر من 5 ملايين مشاهدة منذ أكتوبر/تشرين الأول. فاض قسم التعليقات بالمؤيدين القادمين من أفغانستان وباكستان وتركيا، معبرين عن ولعهم الجديد بأغنية السويد الفلسطينية.
منذ ذلك الحين، أصبحت "تحيا فلسطين" نشيد الاحتجاجات المفضل في شوارع السويد ومقاطع الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي.
في أبريل/نيسان، غنى نشطاء مؤيدون لفلسطين في مترو ستوكهولم بالسويد أغنية "تحيا فلسطين". في مقطع فيديو لذلك الاحتجاج، تتحرك الكاميرا عبر عربات متعددة مليئة بالسويديين المرتدين للكوفية الفلسطينية، مما يرسخ أغنية توتري بوصفها نشيدا للمقاومة الفلسطينية حول العالم.
إخبار العالمبدأ كل شيء في عام 1972، مع ظهور فرقة "كوفية" (Kofia) التي تمثل ثقافة مضادة، والتي تألفت من 5 فنانين أساسيين: توتري، وعازف الإيقاع الفلسطيني ميشيل قريطم الذي فرت عائلته من القدس عام 1948، والثلاثي السويدي كارينا أولسون (مغنية)، وبينغت كارلسون (عازف فلوت)، وماتس لودالف (عازف جيتار وماندولين وعود).
انضمت إليهم مجموعة متغيرة باستمرار من قارعي الطبول الفلسطينيين وجوقة، بقيادة أولسون، انضمت إلى الفرقة بعد أن قفزت على المسرح في أثناء عرض، وتوتري، كاتب أغاني الفرقة، والمغني وعازف العود أيضا.
يشير اسم الفرقة إلى الكوفية، وهي غطاء رأس شائع في فلسطين ومعروف بنقوشه المنسوجة ورمزيته للمقاومة.
عزفت فرقة كوفية الموسيقى في مظاهرات معارضة لحرب فيتنام والفصل العنصري في جنوب أفريقيا خلال السبعينيات. في ذلك الوقت، كانت غوتنبرغ، وهي مدينة عمالية تقليديا، مركزا للنشطاء الداعمين لحركات التضامن الدولية التي شملت مظاهرات ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا (نظام تمييز عنصري) وحرب فيتنام (حرب دارت بين عامي 1955 و1975).
إعلانكانت الفرقة تحظى بشعبية خاصة بين جمهور الموسيقى البديلة ذي الميول اليسارية الذي عاش وتنفس الاشتراكية ومناهضة الإمبريالية بقوة في السويد في السبعينيات. لكن حفلات كوفية في الخارج هي التي جذبت أكبر قدر من الاهتمام.
بعد عام من الإطاحة بالشاه، في فبراير/شباط 1980، كتب توتري أغنية مخصصة لنضالات إيران. امتنانا لدعم منظمة التحرير الفلسطينية ومساندتها، أراد الثوار الإيرانيون أن تقدم فرقة موسيقية فلسطينية عرضا في طهران. وهكذا، قدمت فرقة كوفية، جنبا إلى جنب فرقة تشيلية (مقرها ستوكهولم تغني ضد الإمبريالية) عرضا في حفل موسيقي مؤقت في الهواء الطلق أُضيء باستخدام مصابيح السيارات الأمامية.
يقول لويس بريهوني، الباحث في شؤون الموسيقيين الفلسطينيين في المنفى ومخرج فيلم وثائقي قصير عن فرقة كوفية: "كان صوتهم فريدا، يجمع بين التقاليد الشعبية العربية والموسيقى الصوتية الإسكندنافية".
ويضيف أن فرقة كوفية أرسلت "رسالة لا هوادة فيها وحيوية موسيقية"، ودمجت الموسيقى الثورية مع جولات في إيران وألمانيا الشرقية في عصر التغيير.
كان توتري نفسه قد غادر الناصرة عام 1967 وهو في أوائل العشرينات من عمره، فارا من حرب الأيام الستة الإسرائيلية (حرب يونيو/حزيران 1967) التي أسفرت عن الاستيلاء على الضفة الغربية والقدس الشرقية ومرتفعات الجولان وشبه جزيرة سيناء المصرية وقطاع غزة واحتلاله (الذي كان سابقا تحت السيطرة المصرية).
في السويد، وجد توتري عالما بدا جاهلا تماما بمحنة الفلسطينيين.
يتذكر توتري بامتعاض: "عندما جئت عام 1967، لم يكن الناس يعرفون شيئا عن فلسطين. قالوا إنها صحراء وإنه لا يوجد فلسطينيون". كان ذلك هو الدافع له للانطلاق في مهمة لتثقيف السكان المحليين، من خلال الموسيقى، بأن الفلسطينيين "موجودون". جميع الألبومات الأربعة التي أصدرتها فرقة كوفية على مدى عقد من الزمان تم غناؤها وإنتاجها باللغة السويدية.
إعلانتُعرف فرقة كوفية بأنها أول فرقة تغني عن فلسطين باللغة السويدية، كاسرة بذلك تقليد عالم الموسيقى والفن الناطق بالعربية، الذي كان يتحدث سابقا فقط إلى الفلسطينيين ومن أجلهم، ولأولئك في المنطقة العربية الأوسع.
أثار إصدار أغنية "تحيا فلسطين" عام 1979، والمعروفة باسم "أغنية المظاهرة" باللغة السويدية -وهي الأغنية الأخيرة لفرقة كوفية في ألبومها الثاني بعنوان "أرض وطني"- جدلا، ليس فقط في السويد، التي كانت تدعم آنذاك وجود إسرائيل المتنامي في الشرق الأوسط. يقول توتري إن بعض العرب "لم يقبلوا غنائي باللغة السويدية" أيضا.
ولكن بعد 45 عاما، لم تنجُ أغنية "تحيا فلسطين" من منتقديها الأوائل فحسب، بل وجدت أهمية جديدة.
يقول جان ليندستروم، طالب دكتوراه في جامعة لوند (إحدى أقدم الجامعات في أوروبا): "في عصر أصبحت فيه معظم موسيقى البوب متجانسة وغير سياسية تقريبا، تعد أغنية (تحيا فلسطين) مصدر إلهام". مثل عديد من الطلاب، شارك في اعتصام مؤيد لفلسطين في الجامعة السويدية قبل أن تقوم الشرطة بفضه بالقوة في مايو/أيار.
يقول ليندستروم: "كنا نغني الأغنية في خيامنا، ونحن جالسين بهدوء وفي الاحتجاجات. الهتاف بلغتك الأم يضيف بُعدا قويا وحّد عديدا من السويديين".
بعد شهر من إغلاق الاعتصام في يونيو/حزيران، نزل طلاب جامعة لوند إلى الشوارع في مظاهرة. في يوم صيفي شمالي مشمس وبارد بشكل معتاد، تنتشر لافتات التضامن والكوفيات في كل مكان. ترتفع أغنية "تحيا فلسطين" مع المسيرة البطيئة والثابتة.
يضيف ليندستروم: "حتى غير السويديين يفهمون أن هذه أغنية صُنعت في أوروبا، عن الظلم العالمي".
من المؤكد أن اتهامات بمعاداة السامية من السلطات السويدية ظهرت في السنوات الأخيرة، بما في ذلك في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، عندما غنت مجموعة شبابية سياسية متحالفة مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي السويدي أغنية "تحيا فلسطين" خلال مسيرة عيد العمال في مالمو.
إعلانهذه المرة، نشرت ماريا ستينرغارد، وزيرة الهجرة السويدية، مقطعا على منصة إكس لاحتجاج وقع في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في مدينة كريستيانستاد الجنوبية، متهمة المجموعة بمعاداة السامية. كما أخبر رئيس الوزراء السويدي آنذاك ستيفان لوفين البرلمان بأن الأغنية كانت "تعبيرا غير مقبول" عن معارضة الدولة الإسرائيلية. وهو الاتهام الذي يحير توتري.
"Leve Palestina och krossa sionismen. Och vi har kastat stenar på soldater och poliser, och vi har skjutit raketer mot våra fiender"
Ja mina vänner, vi har mycket ilska, oförsonlighet och hat på våra torg. Kom i samspråk med propalestinier på Stora torg i Kristianstad för en… pic.twitter.com/SsaHxkPuRV
— Sofia Nerbrand (@sofius) November 14, 2023
يقول توتري: "لا يمكنني أن أكون معاديا للسامية… لأن ذلك ضدّي"، مشيرا إلى أن العرب أنفسهم شعب سامي، مضيفا: "ولا يمكنني أن أكون ضد المسلمين أو المسيحيين، وكلاهما في عائلتي، لأن ذلك سيعني أن أكون ضد كياني".
ارتباط بالأرضبالعودة إلى السبعينيات، دعمت دائرة من السويديين التقدميين فرقة كوفية بقوة. وكان عديد من اليهود أيضا من المؤيدين الأساسيين للفرقة.
بعد أكثر من 5 عقود من مكافحة نيران الظلم الأولى تلك، تلمع عينا توتري وهو يصف قوة الموسيقى بوصفها شكلا من أشكال المقاومة.
تحاكي كلمات أغنية "تحيا فلسطين" ولحنها المتكرر إيقاع هتاف سهل يردد في مظاهرة حيوية.
يقول توتري: "إنها أغنية تُغنى في المظاهرات، يرددها شخص تلو الآخر"، موضحا: "استخدمت تلك الطريقة في الأغاني، جنبا إلى جنب فكرة إثبات وجودنا [نحن الفلسطينيين]".
بالإضافة إلى دمج إيقاع المظاهرات، تستند ألحان كوفية المتكررة إلى "تقاليد المقام التراثي للغناء الفلسطيني"، كما كتب بريهوني، المؤلف، في مقدمة لفيلم صدر عام 2022 يعرض تأثير كوفية على موسيقى الاحتجاج في أوروبا.
إعلانيقول بريهوني: "بفخرها بمجموعة متجددة من أعضاء الجوقة، حوّلت كوفية غناء الشعارات السياسية إلى شكل فني".
تلتصق ألحان "تحيا فلسطين" بالذاكرة. لكن الكلمات المخصصة للأرض هي التي تحمل معنى أعمق. كما يقول جزء من الأغنية:
"وقد زرعنا الأرض
وحصدنا القمح
وقطفنا الليمون
وعصرنا الزيتون
والعالم كله يعرف ترابنا".
يقول توتري إن هذا يشير إلى الحياة الزراعية لعديد من الفلسطينيين. يشرح قائلا: "نحن فلاحون. التربة هي حياتنا. إنها أكسجيننا".
"يسأل بعض الناس ‘ماذا تقصد بالأغنية؟’ على كل شخص أن يفهم بنفسه ماذا تعني له. الأغنية ليست فقط ما أعتقد أنها تعنيه. إنها تعني ما يشعر به كل شخص. سيضيفون إلى الكلمات بتفسيرهم الخاص. بالنسبة لبعض الناس هي الحب، وبالنسبة لآخرين هي النضال".
بالنسبة لتوتري، الأمر يتعلق بالمجتمع. إذ وُلد لعائلة مسيحية، ونشأ في فلسطين جنبا إلى جنب المسلمين واليهود. واكتشف التماسك نفسه عندما وصل إلى السويد، ويقول: "شعبي، لا تمييز"، متذكرا اللطف الذي أظهره له عديد من السويديين قبل 50 عاما.
يرى الآن أملا في تصاعد الاحتجاجات في شوارع العالم دعما لفلسطين، والمواقف المتغيرة في جميع أنحاء أوروبا.
اعترفت أيرلندا بدولة فلسطين، إلى جانب إسبانيا والنرويج في مايو/أيار. تدفع الدول الأوروبية الثلاث الآن دولا أخرى للاعتراف بحدود ما قبل عام 1967 وتقول إن هذا الاعتراف هو السبيل الوحيد لضمان السلام.
تعترف السويد بدولة فلسطين منذ عام 2014 وتستضيف سفارة فلسطينية في ستوكهولم منذ عام 2015. ومع ذلك، فإن الحكومة السويدية اليمينية الحالية تدعم إسرائيل بقوة.
توتري متفائل، لكنه ليس راضيا. على مر العقود، يقول إنه رأى عديدا من حركات الاحتجاج تأتي وتذهب. يخشى أن يبدأ الزخم والطاقة من الاحتجاجات العالمية الحالية في التضاؤل.
إعلانيحذر قائلا: "الأفعال العفوية لا تدوم طويلا"، طالبا من المتظاهرين توجيه "الطاقة من الشوارع" نحو السعي لإعادة بناء المؤسسات الفلسطينية عبر المجتمع المدني والحكومة والفنون. هذا وحده، كما يقول، يمكنه أن يدعم تجديد الحياة الفلسطينية.
يقول توتري، الذي كتب مئات الأغاني التي لا تزال غير منشورة، إنه يتوق إلى مؤسسات إبداعية تحتضن وتشجع المقاومة الموسيقية. كما يتوق إلى يوم تختفي فيه كل الكراهية من على وجه الأرض.
يقول توتري: "ما دامت هناك كراهية، لا يوجد أمل. علينا محاربة الكراهية"، موضحا: "هذه هي أكبر مشكلاتنا، ليست القنبلة الذرية. الكراهية هي العدو الأكبر".
ويتابع "ربما بعد وفاتي، يمكن لشباب اليوم أن ينظروا إلى ما فعلته ويأخذوه على عاتقهم. تصبح أكثر شهرة عندما تموت، بعد كل شيء!".
في الوقت الحالي، يتجنب توتري الأضواء.
يقول من منزله في غوتنبرغ: "أشعر بالضآلة عندما تصبح أغنياتي شائعة. لا أستطيع الغناء إذا شعرت بأنني مشهور".
صندوق الوارد الخاص بتوتري مليء برسائل من الشباب في جميع أنحاء العالم، "يجدون وطنا" في فرقة تشكلت قبل وقت طويل من الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
يتأمل قائلا: "الأغاني خُلقت لتوحيد أي شخص وكل شخص يريد النضال من أجل حريته. يبدو لي أن (تحيا فلسطين) لجميع الشعوب المضطهدة؛ ليس عليهم أن يكونوا مسلمين أو فلسطينيين. إنها لجميع الناس في العالم. وهذا يجعلني سعيدا جدا".