التهجير مشروع ما بعد الحرب لا ما قبلها
تاريخ النشر: 26th, February 2024 GMT
لم تُحسم الحرب بعدُ، ولم يتمكن طرف من تحديد اتجاهاتها النهائية رغم مرور كل هذا الوقت. الاتجاه الوحيد الذي يمكن ملامسته بالنظر والإحصاء والمشاهد التي تملأ الشاشات هو التدمير الهائل للبنى التحتية، وتحول غزة إلى مكان غير قابل للحياة في الأفق القريب، وربما المتوسط.
لم تُحسم مسألة القضاء على حماس وجناحها العسكري، ولم يُحسم مصير الأسرى من الجانبَين، ولم يُحسم مصير نتنياهو الذي لايزال يجد لنفسه الوقت والإجماع الكافيَين للاستمرار في الإبادة، ولم يُحسم الموقف الأميركي الذي يضغط على نتنياهو بدعمه بفيتو رابع في مجلس الأمن.
لم يُحسم مصير غزة في اليوم التالي، ولا السابق. كما لم يُحسم فشل مشروع التهجير الذي برز كأول مشاريع الحرب وقد يبقى كآخرها.
عقيدة راسخةلا يمكن القول؛ إن مشروع التهجير قد فشل أو أُفشل. لا تزال الإرادات السياسية الإقليمية غير نهائية في إجماعها على رفض المشروع، والأخطر أنها إرادات قد تعجز عن مواجهة المشروع في حال أخذ منحًى مختلفًا غير الذي عرضته القيادات الغربية على مصر مع بداية الحرب.
لا بد أن نستحضر التهجير كعقيدة سياسية وهدف إستراتيجي سعت له معظم حكومات إسرائيل، وأنه فكرة راسخة في فكر اليمين الصهيوني.
وهو استحضار يستدعي السياق التاريخي لفكرة "التهجير الطوعي" التي تحدث عنها نتنياهو في ديسمبر/كانون الأول الماضي، بحسب صحيفة إسرائيل اليوم.
أولًا، لا بد من التوضيح أنه لا يوجد تهجير طوعي. فالتعبير ذاته يناقض نفسه بلاغيًا، إذ ينطوي فعل "تهجير" على إكراه ينافي فكرة الحرية والاختيار، فضلًا عن كون الاستعمار الاستيطاني الصهيوني هو الفاعل هنا.
إن فكرة "التهجير الطوعي" هي استرداد ليكودي لمشهد ما بعد الحرب وليس للحرب ذاتها. فبعد أربعة أشهر من التدمير الوحشي للبنان في اجتياح 1982م، وحصار لمدينة بيروت قتل فيها الاحتلال ما يقرب من 1٪ من سكان المدينة البالغ عددهم وقتذاك حوالي 620 ألفًا، ترك الاحتلال لبنان ومخيمات اللاجئين أماكن بائسة. تعاظمت محن المخيمات في إطار الحرب الأهلية بعدها، ولم يتحقق إعمار لبنان إلا بعد اتفاق الطائف 1989م.
خلال هذه الفترة تسربت عشرات آلاف العائلات الفلسطينية من لبنان باتجاه أوروبا على وجه الخصوص. وبحلول منتصف التسعينيات، كانت أعداد الفلسطينيين في لبنان قد انخفضت بمعدل يقارب النصف.
تهجير طوعيفي 2017م أجرت الحكومة اللبنانية أول إحصاء رسمي للفلسطينيين، وأعلنت عن رقم صادم بوجود فقط 174 ألفًا من فلسطينيي لبنان من أصل أكثر من نصف مليون مسجلين في سجلات الأونروا.
شككت كثير من الجهات بدقة الإحصاء، ولكن منتهى الجدل كان يقارب الأرقام إلى مستوياتٍ تقل عن نسبة 50٪ من سكان لبنان الفلسطينيين المسجلين.
لقد أُجبر الفلسطينيون على البحث عن طرق نجاتهم بأنفسهم، ودون أن تتحمل دولةٌ ما (غير إسرائيل) عبء ومسؤولية التورط في التهجير والتوطين. هذا النوع من التهجير القسري يسميه الليكود – الذي قاد الحربين: (اجتياح لبنان 82 وحرب غزة 23) – "تهجيرًا طوعيًا"، وهي تسميات يمكن فهمها في سياق الاستعلاء الاستعماري للمستوطنين.
لقد قال نتنياهو حينها؛ إن المشكلة لا تكمن في الفكرة، وإنما "مشكلتنا في الدول المستعدة لاستيعاب اللاجئين". هنا يبدو الأمر وكأن المشروع من شقين: الأول تحويل فكرة التهجير إلى حقيقة، من خلال تدمير ممنهج لكل جوانب الاجتماع البشري في غزة، والشق الثاني المؤجل قليلًا يتعلق بوجهة هؤلاء المهجّرين، أي ترك المنكوبين هم ليحددوا وجهتهم.
نتائج ليست محسومةلقد أنجز نتنياهو الشق الأول المتعلق بتدمير قطاع غزة، وتحويله إلى منطقة غير قابلة للسكن. منع كل مصادر الحياة من كهرباء وماء، بحيث يستحيل العيش، ولا يبقى للإنسان إلا التفكير في الانتقال والبحث عن مكان آخر.
وهنا يقارب نتنياهو حربه هذه بحرب بيغن وشارون في 1982م من أجل إعادة إنتاج المشهد ذاته لما بعد الحرب. لا يعني هذا أن النتائج محسومة، وأن التاريخ يلقي بتجاربه كمقياس نهائي، فمحركات هجرة أبناء البلد تختلف عن تلك التي تحرك جماعات سكانية ذات ارتباط مؤقت بالمكان كاللاجئين الفلسطينيين في مخيمات لبنان.
مع ذلك، فالتهجير هو أكثر المشاريع قربًا من الحسم في هذه الحرب، إذا افترضنا أن الشق الأول المتعلق بالتدمير قد تم. يزداد هذا الافتراض خطورةً إذا لم تشهد غزة ما بعد الحرب إعادة إعمار عاجل.
وندرك أن حروبًا كهذه ستربط الإعمار بالإرادات الإقليمية والدولية، التي تتشكل باستكمال الإجابات الشاملة، والتي لا تبدو ناجزةً في اليوم التالي.
إن التفكير في إعادة إعمار غزة بعد الحرب مسألة قد تحتمل أهمية بالقدر ذاته لمطلب وقف الحرب الآن. خلافًا لذلك فإن انتهاء الحرب قد يعني البدء بالشق الثاني من مشروع "التهجير الطوعي"، الذي لن ينطوي على تكاليف تُذكر بالنسبة للاحتلال كما هي فترة الحرب.
لقد كانت فكرة التهجير حاضرة في تكتيكات الحصار الذي امتد على غزة طوال الـ 17 عامًا الماضية. فقد شهد القطاع هجرة هي العليا في تاريخه خلال تلك السنوات. وذكر عدد من التقارير والأبحاث عن كون نسبة المغادرين للقطاع كانت طوال تلك الفترة أكبر من نسبة الواصلين.
حتى اللحظة يبدو مشروع التهجير مسألة ذات احتمالية عالية، ووقفه يرتبط بشكل مباشر في إمكانية وسرعة إعادة الإعمار في القطاع.
ومن جانب آخر، يرتبط بانعزال غزة عن الضفة الغربية، وعدم قدرة الضفة على تقديم نفسها في إطار البدائل المؤقتة لأسباب كثيرة، منها ما هو متعلق بالاحتلال، ومنها ما هو متعلق باستمرار شروط الانقسام السياسي، رغم كل الظلال التي تلقيها الحرب على الجميع.
برامج استقدامخلال هذه الحرب تحركت كل من كندا وأستراليا لإنشاء برامج استقدام إنساني في إطار عائلي أو تأشيرات مؤقتة، وقد وصل فعلًا عددٌ يُقدر بالمئات حتى الآن. وهذه الدول التي تُعتبر كبيرة المساحة نسبةً لعدد السكان كانت قد رُشحت من قبل مسؤولين إسرائيليين لتكون شريكًا في مشروع التهجير المطروح بصيغته الأولى بداية الحرب.
لكن الإشارة لهذه الدول قد يكون في إطار تقليل مخاوف الاتحاد الأوروبي المرشح الأكبر لمواجهة موجة هجرات قادمة، قد تشبه تلك التي شهدتها القارة منتصف العقد الماضي؛ بسبب الحرب والانتهاكات الإنسانية في سوريا.
توقف الحرب المطلوب بكل لحظة وثانية لحقن دماء الناس الأبرياء أولًا، لن يوقف التداعيات الرهيبة للفظائع التي ارتُكبت بوحشية يسجلها التاريخ اليوم ويوثقها كواحدة من أبشع المحطات الإنسانية، التي حظيت فيها العدالة الدولية بفشل متعمد.
هذه حرب ارتُكبت بمستويات عسكرية استثنائية، وبغطاء دولي استثنائي، وبعجز عربي وإقليمي استثنائي. وهي بذلك ستستوجب مرحلة تالية صعبة، قد يدفع ثمنها الجميع، بعد أن دفع أبناء غزة وحدهم فاتورة صمودِهم على أرضهم كلّ هذه الفترة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: مشروع التهجیر ما بعد الحرب لم ی حسم فی إطار تهجیر ا التی ت
إقرأ أيضاً:
رئيس لبنان يؤكد العمل على حصر “السلاح وقرار الحرب” بيد الدولة
لبنان – أكد الرئيس اللبناني جوزاف عون، إن بلاده تهدف إلى “حصر حيازة السلاح وقراري الحرب والسلم بيد الدولة”.
جاء ذلك في مقابلة مع عون، نشرتها صحيفة “الشرق الأوسط” امس الجمعة، قبل زيارته المرتقبة إلى السعودية الاثنين المقبل.
وأكد عون أن “الدولة فقط ستكون المسؤولة عن حماية الأرض وحماية الشعب”.
وقال: “بصراحة تعب لبنان واللبنانيون من تحارب السياسيين ومسؤوليه، وتعب من حروب الآخرين على أرضه. وأصبح يستحق أن تكون لديه نقاهة اقتصادية وسياسية، وربما بعض الأصدقاء تعبوا منا”.
وأضاف: “هدفنا بناء الدولة، فلا يوجد شيء صعب. وإذا أردنا أن نتحدث عن مفهوم السيادة، فمفهومها حصر قراري الحرب والسلم بيد الدولة، واحتكار السلاح أو حصر السلاح بيد الدولة”.
وأشار إلى أنه يهدف إلى أن “تصبح الدولة فقط هي المسؤولة عن حماية الأرض وحماية الشعب، ولم يعد مسموحا لغير الدولة القيام بواجبها الوطني، وليس مسموحا لأحد آخر لعب هذا الدور”.
وتابع: “عندما يصبح هناك اعتداء على الدولة اللبنانية، الدولة تتخذ القرار، وهي ترى كيف تجند عناصر القوة لصالح الدفاع عن البلد. وإذا الدولة احتاجت ووجدت أن هناك ضرورة للاستعانة بالآخرين في شعبها، فهي تتخذ القرار”.
وتطالب عواصم إقليمية وغربية وقوى سياسية لبنانية بحصر السلاح في يد الدولة اللبنانية، متهمة “حزب الله” بتهديد الساحة الداخلية بسلاحه.
إلا أن الحزب يقول هذا السلاح يهدف حصرا إلى “مقاومة إسرائيل” التي تحتل مناطق في جنوب لبنان.
وتأتي المقابلة مع عون، قبل زيارة مرتقبة له إلى السعودية، الاثنين المقبل، في أول وجهة خارجية له منذ انتخابه رئيسا للجمهورية في 9 يناير/ كانون الثاني الماضي.
ومن المتوقع أن تناقش الزيارة عدة ملفات أبرزها تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين، والأوضاع العامة في لبنان والمنطقة، والملف الأمني المتصل بوقف إطلاق النار واستمرار احتلال إسرائيل نقاطا حدودية في الجنوب وانتهاكاتها للاتفاق، إضافة إلى مسألة إعادة الإعمار.
وبخصوص تطبيق قرار مجلس الأمن رقم “1701”، قال عون: “نحن ملتزمون بتطبيق القرار، وبدأنا به في الجنوب وأعطيناه الأفضلية”.
وأكد أن “الدولة بمؤسساتها كافة ملتزمة بتطبيق القرار 1701 على كامل الأراضي اللبنانية، وفي الجنوب التجاوب كامل”.
وينص القرار 1701 على وقف العمليات القتالية بين “حزب الله” وإسرائيل، وإنشاء منطقة خالية من السلاح بين الخط الأزرق (المحدد لخطوط انسحاب إسرائيل من لبنان عام 2000) ونهر الليطاني جنوب لبنان، مع استثناء الجيش اللبناني وقوة الأمم المتحدة المؤقتة “يونيفيل” من هذا الحظر.
وتعليقا على مماطلة إسرائيل في الانسحاب الكامل من الأراضي اللبنانية التي احتلها خلال حربها الأخيرة، قال عون: “يزعجنا بقاء الجيش الإسرائيلي في الخمس نقاط، لأن هناك اتفاق تم توقيعه للطرفين برعاية أمريكية وفرنسية والمفترض الالتزام به واحترام التوقيع”.
وأضاف: “عندما طُلب (منا) أن نمدد المهلة (في المرة الأولى)، وافقنا بشرط أن يكون 18 فبراير (شباط 2025) هو الانسحاب النهائي، ولكن مثل العادة، لم يتقيد الطرف الإسرائيلي بالاتفاق وبقي بعضه موجودا هناك”.
وتابع: “الآن نحن على اتصالات دائمة مع الفرنسيين والأمريكيين للضغط على الإسرائيليين حتى ينسحبوا من النقاط الخمس، لأنها ليست ذو قيمة عسكرية”.
وأوضح الرئيس اللبناني أنه “بالمفهوم العسكري القديم قبل التطور التكنولوجي، كانت الجيوش تفتش عن التلة لأنها تعطيك تحكما عسكريا ومراقبة، ولكن بوجود التكنولوجيا والمسيّرات في الجو، والأقمار الاصطناعية، فقدت (التلة) قيمتها كلها”.
وكان من المفترض أن تستكمل إسرائيل انسحابها الكامل من جنوب لبنان بحلول فجر 26 يناير/ كانون الثاني الماضي، وفقا لاتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، لكنها طلبت تمديد المهلة حتى 18 فبراير 2025.
ورغم مضي فترة تمديد المهلة، واصلت إسرائيل المماطلة بالإبقاء على وجودها في 5 تلال داخل الأراضي اللبنانية على طول الخط الأزرق، دون أن تعلن حتى الآن موعدا رسميا للانسحاب منها.
وتزعم إسرائيل أن بقاءها في تلك التلال نتيجة عدم قيام الجيش اللبناني بواجباته كاملة ضمن اتفاق وقف النار، وعدم قدرته على ضبط الأمن على طول الخط الأزرق، وهي الحجج التي تنفي بيروت صحتها.
وبدأ عدوان إسرائيل على لبنان في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وتحول لحرب واسعة في 23 سبتمبر/ أيلول الماضي، ما خلّف 4 آلاف و114 قتيلا و16 ألفا و903 جرحى، بينهم عدد كبير من الأطفال والنساء، إضافة إلى نزوح نحو مليون و400 ألف شخص.
الأناضول