بورتريه كامل للإبادة.. البشر والحجر وتراث فلسطين (1-2)
تاريخ النشر: 26th, February 2024 GMT
منذ بدء الحرب على غزة في السابع من أكتوبر، يتعرّض التراث الثقافي الفلسطيني لأعمال تدمير واسعة تشمل المواقع الأثرية، والمباني التاريخية والدينية، والمقرّات الثقافية، والمتاحف، والمؤسسات الأكاديمية والإعلامية.
في هذا الإطار، نظّمت مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت، ندوة بعنوان “تدمير التراث الثقافي في غزّة”، بُثّت على منصّاتها الإلكترونية مباشرة، وقدّمت خلالها نبذة عن التراث الثقافي في قطاع غزة، والقوانين التي تنصّ على حماية هذا التراث في القانون الدولي الإنساني، ودور اليونسكو والمنظمات الدولية في حماية هذا التراث المهدّد.
تراث فلسطين.. هدف إسرائيل
الباحث في علم الآثار والتراث الثقافي، حمدان طه، الحاصل على دكتوراه من جامعة برلين في الآثار، قال: “إن المواقع الأثرية في فلسطين، شكّلت هدفاً رئيساً في الحروب جميعها التي شنّها الاحتلال الإسرائيلي على غزة، ومنها مرفأ “الأنثيدون”، (ميناء غزة القديم المُدرَج على اللائحة التمهيدية للتراث العالمي)، الذي يعود بناؤه إلى 800 عام قبل الميلاد، والذي تعرّض للدمار أكثر من مرّة، ولا يزال عرضة للقصف خلال العدوان الحالي.
وتوقّف حمدان طه عند أهمية المواقع التي استهدفها العدو الإسرائيلي، وعرض صوراً قبل التدمير وبعده للمواقع كلها، مثل كنيسة جباليا التي شُيدّت في منتصف القرن الخامس ميلادي، وبدأت فيها عمليات ترميم واسعة خلال الفترة الماضية، لكنها تعرّضت للدمار الكامل نتيجة القصف المباشر، فضلاً عن دير يحمل اسم القدّيس هيلاريون أو هيلاريوس في دير البلح، الذي أسّس الرهبنة في فلسطين كلّها خلال القرن الرابع الميلادي، وتعرّض لتدمير جزئي، ناهيك عن مواقع تاريخية مهمّة.
ولفت طه إلى تركيز إسرائيل على دُور العبادة، إذ طاول القصف أكثر من 90 مسجداً، أبرزها المسجد العمري (المسجد الكبير) في جباليا، وهو من أقدم مساجد فلسطين، وشُيّد في نهاية القرن السابع عشر الميلادي، ومسجد “السيد هاشم” الذي يعود إلى العهد المملوكي، و”مسجد المحكمة” في حيّ الشجاعية، الذي بُني أيام المماليك أيضاً، ويضمّ مدرسة منذ إنشائه، فضلاً عن “مسجد الأمين محمد” في خانيونس.
وتطرّق طه إلى التدمير الذي لحق بـ “كنيسة برفيريوس” في حيّ الزيتون بمدينة غزة، التي تسمى باسم القديس الذي عاش في القرن الرابع الميلادي، ودُفن فيها، وإلى جوارها في الحي نفسه دُمّر “مسجد كاتب ولاية” الذي شيّده المماليك في القرن الخامس عشر الميلادي، مشيراً إلى كونهما نموذجاً تاريخياً لتعايش المسيحيين والمسلمين في غزة.
قصر الباشا حطام
وأشار طه إلى تدمير مبنى ومتحف قصر الباشا في البلدة القديمة في غزة، الذي بُني زمن الظاهر بيبرس في القرن الثالث عشر، وكان مقرّ حاكم المدينة طوال العصرين المملوكي والعثماني، مشيراً إلى استهداف الاحتلال للمتاحف كما حصل في “متحف القرارة” في خانيونس، وتدمير محتوياته التي تمثّل الحضارات جميعها التي تعاقبت على غزّة وفلسطين، وكذلك “متحف رفح” الذي دُمّر بالكامل.
وتضاف إلى ذلك مبانٍ تاريخية تعرّضت للقصف الإسرائيلي مثل “بيت السقّا التاريخي” في حي الشجاعية، الذي بُني قبل 400 سنة، والمستشفى المعمداني الذي تأسّس سنة 1882، ومبنى الأرشيف المركزي الذي يحتوي وثائق ومخطّطات في غاية الأهمية لغزّة في المئة عام الماضية، ومكتبة بلدية غزة العامة، و”مركز رشاد الشوا الثقافي “، و”متحف غزّة/ جودت الخضري” وكلية الحقوق في “جامعة الأزهر”، والعديد من المباني في شارع فهمي بيك وأحياء في البلدة القديمة.
إبادة التراث
وأكد رئيس دائرة التاريخ والآثار في جامعة بيرزيت الباحث عصام حلايقة، أن تدمير التراث الثقافي صنو الإبادة، باعتباره أداة لتدمير المجموعات البشرية بالرجوع إلى العديد من الشهادات والكتب التي وضعها العديد من الخبراء حول غزة، داعياً إلى تقييم الأضرار التي تعرّضت لها الآثار والمواقع التراثية، ووضع خطط الإغاثة والإعمار.
وتناول حلايقة تاريخ أكثر من أربعة آلاف عام في غزة، التي ذُكرت في النقوش المصرية والمعينية واليونانية، باعتبارها مركزاً إدارياً ومنطقة استراتيجية على طريق التجارة، بين الحضارات القديمة في المنطقة.
كما تطرّق إلى الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تنظّم وضع الآثار والتراث الثقافي تحت الاحتلال، والقرارات التي صدرت عن “اليونسكو” وأدانت إسرائيل بصفتها قوّة احتلال، لانتهاكاتها الميثاق المتعلّق بالمحافظة على الممتلكات الثقافية.
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
بالإقدام تُرفع الأقدام..
من ظواهر رد الفعل، إلى ظواهر الفعل والتأثير في توجيه مسارات التاريخ نقلتنا "طوفان الأقصى" نقلة نوعيه واسعة وكبيرة، إلى مساحات كانت شبه محرمة علينا في المشرق العربي. والعبرة هنا ليست بالفعل العارض المحدود، ولكن بالفعل الشامل الممدود، ومن هنا تأتي أهمية هذه "الحركة التاريخية الكبرى" التي بدأت في صبيحة يوم السبت 7 تشرين الأول/ أكتوبر، لتدخل بـ"عالم الإسلام" مدخلا جديدا في حركة التاريخ، يتسم بالإقدام والمبادأة، والأهم أنها ليست في الغائب المجهول، بل في المشهود المدروس.
وأشير هنا بشكل عارض لتلك الزيارة الهامة التي قام بها الرئيس التركي رجب أردوغان إلى إندونيسيا وماليزيا وباكستان، ولا أتصور أنها بعيدة في مغزاها عن زيارة رئيس الهند إلى أمريكا في نفس التوقيت، والوعود التي حصلت عليها الهند بتزويدها بطائرات إف 35 المقاتلة أو بالترتيب لمسار تجاري جديد يمر بإسرائيل وإيطاليا.
لكن المسألة الفلسطينية والأقصى، وأحاديث حاكم أمريكا عن مستقبل المنطقة وفي القلب منها غزة، كانت حاضرة بقوة في تلك الزيارات، والتي ستتلقى بعدها مصر اتصالا هاتفيا من ماليزيا، أُعلن عنه في القاهرة بحفاوة واضحة، وهو الاتصال الذي جاء في وقته المناسب تماما، سواء كان الوقت الذي شهد تلك الزيارات الآسيوية، أو الوقت الذي تتعرض فيه القاهرة إلى ضغط بخصوص مستقبل غزة وأهل غزة.
الحركات الكبرى في التاريخ دائما ما تمتاز باتساع دوائر تأثيرها، حتى أنها لتشمل دوائر أوسع كثيرا من دائرتها الأولى، وقد رأينا في التاريخ من القرن الخامس عشر إلى القرن التاسع عشر، آثار الاكتشافات البحرية، والنهضة والتنوير، والثورة الصناعية، وثورة القوميات، وكيف أنها تجاوزت بمراحل كثيرة محيطها الأول، وامتدت تأثيراتها إلى أبعد مما كان يتوقعه رافعوا حركاتها
* * *
الحركات الكبرى في التاريخ دائما ما تمتاز باتساع دوائر تأثيرها، حتى أنها لتشمل دوائر أوسع كثيرا من دائرتها الأولى، وقد رأينا في التاريخ من القرن الخامس عشر إلى القرن التاسع عشر، آثار الاكتشافات البحرية، والنهضة والتنوير، والثورة الصناعية، وثورة القوميات، وكيف أنها تجاوزت بمراحل كثيرة محيطها الأول، وامتدت تأثيراتها إلى أبعد مما كان يتوقعه رافعوا حركاتها، بل لقد تسلمها التاريخ منهم، وانطلق بها انطلاقات هائلة.
وهو ما سيحدث إن شاء الله مع "طوفان الأقصى" الذي قال للتاريخ "هأنذا" ليكون ضمن الحركات التاريخية الكبرى، التي سيشهدها المشرق الإسلامي في القرن الحادي والعشرين، وإن شئنا الدقة فهو المقدمة الكبرى لحركات ستتوالى وتشمل الفكر والحركة بهذا الفكر، في واقع بليد، تميز بالجمود والتكرار والتأخر والانحسار.
* * *
سنرى أن الحركات الإصلاحية التي عرفها "عالم الإسلام" من القرن الثامن عشر، وشغلها تخلف العالم الإسلامي وتفككه، واحتلال أوطانه بالقوة العسكرية والعلمية، وهي الحركات التي تنوعت وتعددت، وكان نصيبها من الحركة محصورا في مساحة "رد الفعل" حصارا خانقا بكل أسف، رغم كل دعوات التجديد التي قام بها وقادها أعلام كبار من الهند إلى المغرب العربي (ولي الدين الدهلوي وإقبال والأفغاني وعبدة ورضا والكواكبي والسنوسي وخير الدين التونسي وبن باديس.. الخ).
صحيح أن قوى الغرب الاستعماري كانت ساحقة وشرسة، رغم حربين كبيرتين أثقلته (العالمية الأولى 1914م/ العالمية الثانية 1939م)، لكن تجارب تلك الحركات ستشير لنا بإصبع التقصير والقصور، إلى جوانب بالغة الأهمية.
سواء كان ذلك في "اصطفاف قلوبها" فيما بينها حبا وإيثارا وصفاء، ووقوعها في التحاقد والتناحر، ذاك الداء العياء الذي سيستمر طويلا، وهو من موبقات الحركات الإصلاحية الذي يفنيها من داخلها، أو "اصطفاف صفوفها" فيما بينها وبين الناس، دعوة وتعليما وبناء للإنسان، وهي أشياء بالغة الخطورة والأهمية، بالنظر إلى الحجم التاريخي الكبير للمعركة التي نذروا أنفسهم لها.
* * *
وسنتعلم من تجربة صلاح الدين (ت: 1193م) في مواجهة قوى الغرب الصليبي أنها عانت كثيرا من النقص في "الاصطفافين"، وسيكتب لنا صديقه المؤرخ بهاء الدين بن شداد (ت: 1234م) في كتابه الشهير "النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية" عن هذه المعاناة مع قادة العالم الإسلامي في زمنه.
لكن على الجانب الآخر سنرى أنه أهتم كثيرا بإنشاء المدارس، وعرف قيمة الاهتمام بفكرة (تعليم الناس) واستدعائهم بصوت الفكر والوعي، ليقوموا بدورهم في تلك المعركة الكبيرة، وتشير حركة إنشاء المدارس بمصر الأيوبية إلى الدور الكبير الذي لعبته تلك المؤسسات في مواجهة ذلك الخطر، كما ذكر المؤرخون.
وسننتبه هنا إلى أن صلاح الدين كان يدرك تماما الإدراك الدور الذي سيضطلع به في هذا الفترة التاريخية العصيبة، وسننتبه أيضا إلى أن الإقدام والجرأة والشجاعة، كانت زاده وذخيرته في هذا الدور، ولم تكن مجرد صفات تتيه في وادي الأماني، بل كانت تنتصب راسخة على أرض صلبة، من الوعي والإعداد المدروسين بدقة وكفاية.
* * *
وهذا عين ما رأيناه في "طوفان الأقصى". لا نعلم الكثير عن الإعداد والتجهيز الذي سبق هذه الحركة التاريخية الكبرى، فما زلنا فيها، وما زالت تتوالى علينا رسائلها التي لا تحصى، لكننا رأينا مسارها على مدى 15 شهرا، وكيف كانت في عمق أعماق معانيها تقول لنا كل شيء.. عن كل شيء، بدأ من الإنسان الفرد الذي يعي تماما معنى وجوده في الحياة، ميلادا ومماتا، وكيف ينظر إلى تلك الحياة وما فيها وما بعدها، مرورا بكل الصور التاريخية لأسمى المعاني والأماني،بغض النظر عما كتبوه وقالوه، لكنهم يقولون إن ظهور هؤلاء المؤرخون، كان بداية ظاهرة "ما بعد الصهيونية" التي تحكيها ملاحم التاريخ عن المجاهدين والمناضلين من نبلاء الناس الصادقين، وانتهاء بهذا "الحراك المتصاعد" الذي يشهده عالم الإسلام، والذي يتجه في مسار واضح وقوي، لتصحيح الكثير من الأخطاء الكبيرة التي شملت الشرق الأوسط مما يقرب من قرن.
* * *
في ثمانينيات القرن الماضي ظهر في إسرائيل أكاديميون شبان دُعوا "المؤرخون الجدد" ولدوا في إسرائيل وتشربوا الرواية الرسمية الإسرائيلية، عندما دخلوا الجامعة فُتح أمامهم أرشيف الجيش، وبدأوا في إعادة النظر في تلك الرواية الرسمية، خصوصا بعدما عرفوا الكثير عن عمليات التهجير والمجازر التي رافقتها.
بغض النظر عما كتبوه وقالوه، لكنهم يقولون إن ظهور هؤلاء المؤرخون، كان بداية ظاهرة "ما بعد الصهيونية".
وفي عشرينيات الألفية الثانية، ظهر في المشرق العربي وتحديدا غزة، أبطال شبان دُعوا "طوفان الأقصى" فُتح أمامهم أرشيف التاريخ، وبدأوا في تكوين فقه حركي جديد للنظر في الواقع العربي القديم والحاضر، وقاموا بحركة تاريخية كبرى، وكان ظهورهم بداية ظاهرة "ما بعد إسرائيل".
x.com/helhamamy