إحدى الجبهات الثقافية لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي:الفلسطينيون والحفاظ على التراث الشعبي
تاريخ النشر: 26th, February 2024 GMT
خليل المعلمي
يمتلك الفلسطينيون كغيرهم من الشعوب العربية تراثاً شعبياً وحضارياً تمتد جذوره إلى آلاف السنين، حيث سعى الباحثون والأكاديميون خلال العقود الماضية إلى توثيق هذا التراث والحفاظ عليه وتم إصدار العديد من المؤلفات حول ذلك.
نشر الفلسطينيون أولى مقالاتهم وأبحاثهم المتخصصة بالتراث الشعبي الفلسطيني في فترة مبكرة من القرن العشرين، وممن كتبوا في هذا الموضوع عمر صالح البرغوثي وتوفيق كنعان وإسطفان إسطفان وغيرهم، لكن ما تركوه من أدبيات -على أهميتها- كانت نخبوية، ولم تكن في الأساس موجهة إلى الجمهور الفلسطيني والعربي، وجاءت في إطار المدرسة الاستشراقية الغربية التي اهتمت بدراسة التراث الشعبي، وصدر هذا الجهد الفلسطيني بالإنجليزية، وبعضه كان بالألمانية، ونُشر جزء مهم منه في مجلة غربية.
وبعد حدوث النكبة في العام 1948م انقطع الاهتمام بالتراث الشعبي، ومضت فترة الخمسينيات والستينيات من دون أي إنجازات تُذكر على هذا الصعيد، سوى بعض الرسائل الجامعية في الجامعات الغربية، والتي تناولت الحياة الاجتماعية في الريف الفلسطيني، مثل رسالة عبدالله أبو لطفية عن قرية بيتين في محافظة رام الله والبيرة، ورسالة عبداللطيف البرغوثي بشأن الأغنيات العربية الشعبية في الأردن وفلسطين، كما كانت تقام في الستينيات مهرجانات صيفية في رام الله، تُنفّذ فيها بعض الفعاليات المتعلقة بالتراث الشعبي، وكان لبعض المهتمين الفلسطينيين مشاركات في مجلة “الفنون الشعبية” الصادرة في الأردن، منهم نمر سرحان وعمر الساريسي، لكن مستوى الاهتمام البحثي بقي ضعيفاً.
أما بعد أن وقعت حرب 1967م، فقد دخل الاهتمام بالتراث الشعبي مرحلة جديدة من الانتعاش والتطور، ارتبطت في مضامينها بصعود الحركة الوطنية واشتداد الصراع مع الاحتلال وتعدُّد أشكاله، وبالتالي تصاعدت الرغبة في توثيق التراث الشعبي الفلسطيني، وكانت ادعاءات الاحتلال الصهيوني أن فلسطين أرض بلا شعب، محفِّزاً للمثقفين على زيادة الاهتمام بالتراث والأكثر دلالةً على التأكيد أن “جذور الشعب الفلسطيني موجودة في أعماق أرضه منذ آلاف السنين”، ولاقت هذه الرغبة حاضنة مؤسساتية تمثَّلت، في حينه، بعدد من الجمعيات، من أهمها “جمعية إنعاش الأسرة” في البيرة، تأسست هذه الجمعية سنة 1965م، وتركز اهتمامها بالتراث الشعبي على بند في النظام الأساسي للجمعية يتعلق بالهدف السادس، وهو الحفاظ على التراث الشعبي.
دراسات في التراث الشعبي
كما أسست “جمعية إنعاش الأسرة” لجنة في منتصف العام 1972م، وهي لجنة الأبحاث الاجتماعية والتراث الشعبي الفلسطيني، والتي جعلت في صلب اهتماماتها “الإشراف على دراسات تاريخية واجتماعية وثقافية واقتصادية للمجتمع الفلسطيني، بهدف تحليل المشاكل الراهنة التي يواجهها البلد وتقديم الاقتراحات التي قد تسهم في معالجة هذه المشاكل،” والمحافظة على التراث الشعبي “في وثائق مدونة ومصورة ومسجلة خوفاً عليه من الضياع والاندثار، وتحويل تطلعات المثقفين الفلسطينيين إلى حفظ الثقافة الشعبية “إلى واقع عملي بجمع المواد التراثية وأرشفتها، وكذلك نشر الدراسات والأبحاث المتعلقة بالتراث الشعبي،” وقد أشرفت اللجنة على إصدار أولى الأدبيات التراثية، فكان لها الفضل في إصدار كتاب “دراسة في المجتمع والتراث الشعبي الفلسطيني- قرية ترمسعيا”، سنة 1973م، بالتزامن مع إصدار الأعداد الأولى من مجلة التراث والمجتمع.
ويعتبر الكتاب من أوائل ما صدر باللغة العربية عن القرى الفلسطينية، على، وشكَّل نشره حدثاً استثنائياً شغل الأوساط الثقافية والمجموعات المهتمة بإحياء التراث الشعبي الفلسطيني، وفتح الطريق أمام مشاريع بحثية لاحقة اهتمت بدراسة القرى من النواحي المختلفة، الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية.
وقد برزت إسهامات نوعية أُخرى في هذا المضمار، فكان لمؤسسة الدراسات الفلسطينية مشاركتها في الجهود الرامية إلى الحفاظ على التراث الشعبي، فصدر عنها عدة كتب، منها: “قول يا طير: نصوص ودراسة في الحكاية الشعبية الفلسطينية” (2013)، و”طلع الرنجس والحنون: أزهار مطرزة من ربيع فلسطين” (2014م)، و”الإرث الفلسطيني المرئي والمسموع، نشأته وتشتته والحفاظ الرقمي عليه: دراسات أولية وتطلعات مستقبلية” (2020م)، كما اهتمت المؤسسة بدراسات عن القرى الفلسطينية، فنشرت كتابها المشهور: “كي لا ننسى: قرى فلسطين التي دمرتها إسرائيل سنة 1948م وأسماء شهدائها” (2001)، ونشرت قبله بعامين كتاب “دير ياسين: الجمعة، 9 /4 /1948م».
التراث الثقافي للقدس
ولا شك أن هناك الكثير من المؤلفات التي تتناول مثل هذه المواضيع ونذكر منها كتاب “دراسات في التراث الثقافي لمدينة القدس” الصادر عن مركز الزيتونة، حيث تناول الكتاب التراث الثقافي لمدينة القدس ضمن فعاليات الحملة الأهلية لاحتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية للعام 2009م، وهو كتاب تأصيلي ينتمي إلى تصنيفات الحضارة، ويختلف في مضامينه عن موضوعات المركز السياسية والاستراتيجية التي يصدرها عادة.
ويتناول الكتاب 13 فصلاً موضوعياً، شارك في تحرير كل فصل كاتب واحد أو عدة كتاب، وقام بتحريره د.محسن محمد صالح، فتناول الفصل الأول تاريخية الصراع على القدس، وتناول الفصل الثاني نماذج لأعلام مقدسية تعود للحقب المملوكية والعثمانية والانتدابية أسهمت في ترقية الفكر الإنساني وإعطاء دور ثقافي وحضاري للمدينة، وسلط الضوء على الهوية الهندسية والمعمارية في المدينة المقدسة، وعلاقتها بالأديان الثلاثة، وتفنيد الادعاءات الصهيونية بشأنها، وفي الفصل الثالث تركز اهتمام الباحث على تصحيح مفاهيم تاريخية تتعلق بالدور العثماني في الحفاظ على الدور الثقافي والحضاري للقدس، بينما ركز الفصل الرابع على إعادة قراءة ملف واقع مؤسسات الوقف في القدس قبل احتلال المدينة وبعده، ودور الأوقاف في تثبيت هوية المدينة ونموذج التعايش الحضاري فيها، ويكشف الفصل الخامس عن الممتلكات والأوقاف المسيحية في المدينة وما تتعرض له من اعتداءات.
وفي الفصلين السادس والسابع تم الحديث عن مؤسسات الوقف الإسلامي والمسيحي من خلال تقرير بحثي مفصل عن واقع المؤسسات التعليمية والمكتبات العربية والإسلامية والأجنبية فيها، ويتلو هذا الفصل تقرير وصفي يركز على أدوار بعض هذه المؤسسات وإمكاناتها في خدمة المشروع التعليمي والثقافي في القدس.
وفي الفصل الثامن يتحول البحث إلى قضايا الصراع على المستوى الثقافي، وأسس الفكرة الصهيونية وفلسفتها في احتواء المكان ونفي الصبغة العربية الإسلامية عنها، وتطبيقات ذلك على الأرض.
ويتحول الفصل التاسع لتوصيف واقع التعامل مع تراث القدس الثقافي في المعاهدات والقرارات الدولية، والروافع القانونية التي يمكن استخدامها في حماية التراث الثقافي لمدينة القدس من وجهة نظر دولية.
ثم يستمر الحديث في الفصل العاشر عن نوع مختلف من الصراع الثقافي على المدينة، من خلال استخدام الموسوعات العلمية اليهودية والأجنبية ذات الامتدادات الأكاديمية في تأكيد انتماء القدس للتراث اليهودي، وأثر ذلك في التطبيقات السياسية والدينية على العقلية الغربية، وهذا الفصل خطير وهام للغاية يجدر بالباحثين إثارته على الصعد العلمية كافة.
والفصل الحادي عشر يعود إلى تفصيل آخر عن الجمعيات التي تعنى بحفظ التراث المقدسي من التزوير الإسرائيلي ودور هذه الجمعيات وإمكانية تعميم الانتفاع بها. وفي الفصل الثاني عشر تظهر لنا قلة الكتب التي اهتمت بالبيلوغرافيا الثقافية لمدينة القدس وأهمية الاستدراك على ذلك، وضرورة تأهيل متخصصين في هذا الجانب لكتابة رواية تاريخية حضارية للقدس خالية من العبث والتزوير.
ويشتمل الفصل الأخير وهو الفصل الثالث عشر، على ثلاثة مباحث هامة، ركزت على الأبعاد العملية للحفاظ على التراث الثقافي للقدس، فتناول المبحث الأول المستوى الرسمي الفلسطيني والعربي والإسلامي في هذا الجهد والإطار السياسي العام الذي تعمل عليه هذه الجهات، ومدى هذا الدور، ويتناول المبحث الثاني المستوى العلمي الممثل بالعلماء والأكاديميين في مواجهة المخاطر التي يتعرض لها التراث الثقافي المقدسي، فيما يتناول المبحث الأخير أدوار مؤسسات المجتمع المدني في المجال الثقافي وواقعها مع قراءة تطبيقية لتجربة مؤسسة القدس الدولية في حماية التراث الحضاري والثقافي لمدينة القدس.
المصدر: الثورة نت
كلمات دلالية: على التراث الشعبی التراث الثقافی وفی الفصل فی الفصل فی هذا
إقرأ أيضاً:
إيلان بابيه يفكك سرديات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني
تحتل أعمال المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه مكانة فريدة في أدبيات الصراع العربي الإسرائيلي، نظرا لقدرتها على زعزعة البُنى السردية التي كرّستها الصهيونية على مدى عقود.
فالمؤرخ بابيه ليس باحثا يسعى إلى تدوين أحداث الماضي فحسب، بل هو صاحب مشروع نقدي يستند إلى مساءلة جوهر الفكرة الصهيونية نفسها، في جذورها الفكرية وممارساتها العملية، منذ تأسيسها في القرن الـ19، مرورا بالنكبة وما تلاها، وصولا إلى مجازر غزة المعاصرة.
يأتي كتابه الصادر حديثا عن منشورات تكوين "موجز تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني"، بترجمة شهد د.عباس، بوصفه خلاصة مكثّفة لهذه الرؤية، فهو يقدم بلغة دقيقة ومتماسكة سردا تاريخيا يعيد بناء الصراع من جذوره، واضعا القارئ أمام الصورة الكاملة لقرن من الاستعمار الاستيطاني وأشكاله المتحوّرة.
يشير آفي شلايم في تقديمه للكتاب إلى أن بابيه يُعد واحدا من أكثر الباحثين دراية بتفاصيل الصراع وتشعباته، ومع أن هذا التقديم يحمل بعدا شخصيا، نظرا للصداقة التي تربطه بالمؤلف منذ منتصف الثمانينيات، لكنه يوضح أيضا أهمية الدور الذي لعبه بابيه ضمن مجموعة المؤرخين الجدد الذين أعادوا قراءة حرب 1948 خارج السردية الصهيونية التقليدية.
تعود بدايات تلك المسيرة إلى أطروحة الدكتوراه التي قدّمها بابيه في أكسفورد عام 1984، حين فكّك الادعاء القائل بأن بريطانيا اتخذت موقفا عدائيا من الدولة اليهودية الناشئة، فاستنادا إلى أرشيفات بريطانية، بيّن أن لندن لم تتآمر ضد المشروع الصهيوني، بل أسهمت، بصورة غير مباشرة، في إجهاض إمكانية نشوء دولة فلسطينية.
وهذا التحليل كان نقطة تحول مهمة، ليس في مسيرة بابيه وحده، بل في مجمل الدراسات التاريخية حول الانتداب والنكبة.
ومنذ ذلك الحين واصل المؤرخ إنتاج سلسلة أعمال عالجت مراحل مختلفة من الصراع، مع تركيز خاص على الفترة التي تلت 1948 وما انطوت عليه من تهجير واسع، وسياسات الاحتلال، وأشكال السيطرة البنيوية.
إعلانولا يكتفي بابيه في كتاباته بتجميع الوثائق أو إعادة ترتيب الوقائع، بل يقدّم قراءة نقدية للسلوك الصهيوني، مستندا إلى شهادات وروايات متعددة، إسرائيلية وعربية على السواء.
بنية مكثفة لرواية ممتدةيقع الكتاب في 6 فصول رئيسية تتبّع تطور الصراع منذ نهاية القرن الـ19 إلى حرب غزة الحالية، ويبدأ السرد من جذور الحركة الصهيونية ومشروع هرتزل الاستعماري في كتابه دولة اليهود (1896)، ليصل بعد ذلك إلى مرحلة الانتداب البريطاني التي مثّلت المسؤولية المباشرة الأولى عن إعادة تشكيل فلسطين سياسيا وديمغرافيا.
ولا يكتفي بابيه بإعادة ترتيب الوقائع، بل يسلّط الضوء على السياسة المنهجية التي أدت إلى تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين، مستعرضا خطة دالت بوصفها الوثيقة المركزية التي تكشف الطابع الممنهج للتطهير العرقي.
يمتد التحليل إلى حروب 1967 و1973، حيث مكّنت الأولى إسرائيل من بسط سيطرتها الكاملة على الأراضي التاريخية لفلسطين، في حين أعادت الثانية تشكيل الحسابات العسكرية والسياسية في المنطقة، كما ينظر المؤلف إلى الانتفاضتين الفلسطينيتين، على أنهما شكّلتا لحظة مقاومة شعبية لم تستطع السردية الإسرائيلية احتواء دلالاتها.
ويمنح الكتاب مساحة خاصة للمسار السياسي بعد أوسلو، حيث يصفه بابيه بالفشل البنيوي، محمّلا الاستيطان -الذي تجاوز 700 ألف مستوطن في الضفة- مسؤولية انهيار أي إمكانية لحل الدولتين.
الصهيونية: قراءة نقديةفي مركز المشروع الفكري للمؤلف يقف تفكيك الزعم القائل بأن الصهيونية حركة تحرر قومي لليهود.
ويرى بابيه أن هذا التعريف يطمس جوهر الصهيونية بوصفها حركة استعمار استيطاني، فرضت مشروعا على شعب آخر بالقوة العسكرية، وبدعم مباشر من القوى الغربية.
وبناء على هذا التحليل، فالمؤلف لا يرى أن شرعية إسرائيل قائمة حتى ضمن الحدود التي حددها قرار التقسيم، فضلا عن الأراضي التي احتلتها عام 1967، فالنشأة نفسها تضمنت ظلما مؤسسا لا يمكن تجاوزه بخطاب قانوني أو سياسي.
ومن هذا المنطلق، يقترح بديلا للفكرة الصهيونية: دولة ديمقراطية ثنائية القومية تضمن المساواة الكاملة لجميع سكانها في الحقوق والواجبات، بعيدا عن منطق الامتيازات المستمد من العِرق أو الدين.
كُتب هذا العمل تحت وقع المأساة التي شهدتها غزة عقب هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وهو ما يمنح الفصل الأخير طابعا تحليليا وأخلاقيا بالغ الأهمية، ويؤكّد بابيه أن هذا الحدث لا يمكن فهمه بمعزل عن قرن كامل من الاستعمار الاستيطاني الذي مارسته إسرائيل بدعم إمبريالي مستمر.
وبحسب منطق الاستعمار الاستيطاني كما يذكّر المؤلف بما قاله نعوم تشومسكي في كتاب مشترك بينهما فإن الهدف النهائي يكمن في إقصاء السكان الأصليين، وهو ما يجعل العنف الإسرائيلي ليس ردّ فعل، بل سياسة راسخة.
ومن منظور بابيه، تمثل الحرب على غزة مثالا فادحا لهذا المنطق، فهي ليست مجرد عملية عسكرية، بل استكمال لمشروع تطهير عرقي متراكم، وصل إلى حدّ ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية. وهكذا يصبح ما يحدث في غزة اليوم صدى لما حدث عام 1948، لا اختلافا عنه.
من المؤرخ إلى الفاعل السياسييحمل المشروع الفكري للمؤلف بعدا أخلاقيا وسياسيا واضحا إلى جانب قيمته البحثية، فبابيه الذي يعيش في المنفى في بريطانيا منذ سنوات، يمثل إحدى أبرز الأصوات الإسرائيلية المعارضة للمسار الصهيوني الرسمي.
إعلانورغم الانتقادات الحادة التي يواجهها داخل إسرائيل، واتهامات التحيّز والتشويه، خصوصا في كتاباته حول النكبة وغزة، فإن مكانته في الوسط الأكاديمي العالمي تستند إلى منهجيته الصارمة واستناده إلى مصادر أولية واسعة، بما في ذلك الأرشيفات الإسرائيلية نفسها، كما يتميز بأنه من العدد القليل من الباحثين الإسرائيليين الذين يكتبون عن الفلسطينيين من داخل سياق معرفي متعاطف ومتجذر في قراءة المصادر العربية.
أهمية الكتاب في سياق المعرفة التاريخيةيأتي هذا الموجز ليشكل مدخلا مكثفا وعميقا في الوقت ذاته لفهم مسار الصراع ضمن إطار يربطه بالاستعمار الاستيطاني بوصفه إطارا كليا، لا مجرد سلسلة من الأحداث المنفصلة.
فالكتاب يقدّم رؤية تُعيد الصراع إلى جذوره البنيوية:
الاستيطان بوصفه أداة رئيسية. محو الفلسطينيين ماديا ورمزيا. صناعة سردية تاريخية بديلة تحلّ محل الواقع.وبذلك ينزع الكتاب القشرة التي تخفي حقيقة الصراع، القشرة التي طالما حاولت إخفاء التفاوت الهائل في القوة والحقوق والتاريخ خلال النكبات الماضية والحالية.
كتابة التاريخ في مواجهة السرديات
تبرز أهمية هذا العمل في كونه يُقدم تفسيرا مهما وتحليلا مركّزا لمسار الحركة الصهيونية، وطبيعة دولة إسرائيل، وعلاقة هذا المسار بالقضية الفلسطينية، ومن خلال رفض السردية التقليدية بأن الصهيونية حركة تحرر قومي بحتة، يفتح بابيه المجال أمام تساؤلات تتعلق بشرعية الدولة، وبالخيارات السياسية التي يمكن أن تُقدّم تحوّلا جذريا في العلاقة بين اليهود والفلسطينيين.
كما أن التركيز على البديل -دولة واحدة متساوية الحقوق- رغم أنه أقلّ انتشارا في النقاش الجاري، يُعدّ استفزازا فكريا لهيمنة نموذج "دولتين".
لذلك، فإن هذا الكتاب يستمد قيمته من قدرته على إعادة صياغة خطاب تاريخي ظلّ لعقود أسيرا لرواية تبريرية، فبابيه لا يقدّم تاريخا بديلا من أجل المعارضة فحسب، بل يعيد تشكيل أدوات النظر إلى التاريخ الفلسطيني والإسرائيلي معا، من خلال نقد جذري للسردية الصهيونية، ورسم إطار أوسع يفهم الصراع بوصفه مشروعا استعماريا لم يكتمل بعد.
وفي حين تتواصل المأساة في غزة، يصبح هذا الكتاب شهادة معرفية وأخلاقية على ضرورة قراءة الماضي لفهم الحاضر، وعلى مركزية العدالة التاريخية في أي تصور للحل.