«نزوى» والبنت التي تذرفُ الدموع !
تاريخ النشر: 25th, February 2024 GMT
ثمّة غبشٌ يُشوشُ ذكرى ذلك اليوم الذي حاولتُ تذكّره الأسبوع الماضي بنستولوجيا عالية، شيء خفيّ ومتوارٍ في طبقات ذكرياتي البعيدة، شيء ظننته في الوهلة الأولى عبثيًا، لكن خيوط حياتي وتشابكاتها كانت تقودني إليه في كلّ مرّة!
في نهاية التسعينيات كنتُ ضمن جماعة الصحافة في المرحلة الثانوية، عندما قررتْ المعلمة أن تصطحبنا في رحلة للتعرُّف على الصحافة الحقيقية وعملية الطباعة المعقّدة.
أكثر ما يُضيء في عقلي من تلك الذكرى الضبابية، أننا حصلنا -جوار الجرائد- على نسخة من مجلة «نزوى». أحدهم قال لنا عفو الخاطر: بأنّ الكُتّاب يكتبون في هذه المجلة. آنذاك قبضتُ عليها بكلتا يديّ وكأنّها ستطيرُ من بينهما فيما لو أفلتها، وأخذ الخفقان يعبثُ بقلبي، ربما لأنّي كنتُ أضمرُ في طياتِ روحي تلك النوايا المبكرة بأن أصير كاتبة.
أردتُ أن تنتهي الرحلة بسرعة لأنفرد بها، بمتعتي التي لم تكن تتغذى جيدا في قريتي النائية والبعيدة، بمكتباتها الصغيرة التي لا تحتوي أكثر من القرطاسيات. لم تتعد قراءاتي آنذاك الروايات والقصص ومجلات الأطفال، ولم تخدش عوالمي الأسئلة الكبرى رغم ما يعتمل بداخلي من فوران، ولم يتزود عقلي بزوادة النقد ومفاتيحه، ولم تقدح الفلسفة شرارتها ومقترحاتها الجمالية في روحي بعد.
لكن وما إن خلوتُ إلى نفسي وفتحتُ صفحاتها، انتابني العجز وقصور الفهم، وجدتُ نفسي ألهثُ دون أن أقبض المعنى، وفي خذلان اللحظة طويتُ نفسي كحنين غير مكتمل وبكيت!
أذكرُ جيدا بكاء تلك الليلة الغامض والحارق في آن، كان ثمّة صوت في رأسي يؤكدُ لي المسافة التي تفصل بيني وبين الكتابة. صوت مُعذب يُعمق بداخلي الفروقات. أذكر أنّي حاولتُ في اليوم التالي القراءة مجددا. بدت الأشياء أقلّ حدّة، والحذر أقل وحشة، إلا أنّ ذلك لم يُخفف للحظة من شعوري باستحالة أن أصير كاتبة! كنتُ أضع كُتّاب «نزوى» معيارا مُتطرفا لأوغل في إيذاء بداياتي الهشة والمضطربة بالاحتقان والفوضى.
عندما قُدر لي أن أدرس في جامعة «حلب» بداية الألفية، شاهدتُ أساتذتي ينظرون لها على أنها مصدر أساسي نُوثق بواسطته أبحاثنا، ينظرون لها بتقدير لا مثيل له. كان من النادر آنذاك أن يدرس العُمانيون في سوريا، ولذا كلما قلتُ «عُمان» كلما قال أساتذتي «نزوى»، هكذا تجلّى فضولهم في أبهى صوره تجاه الأنموذج المتخيّل لديهم عن عُمان ومثقفيها من خلال التصور الذي تخلقه «نزوى» فأدركتُ آنذاك أنّها علامة لا تتكرر.
في السنة الثالثة غامرتُ بإرسال نصّ لنزوى، كنتُ راغبة بكسر الرعب الأول الذي أحدثته بداخلي، في وقت كانت تلتبس فيه المفاهيم عليّ، ولم أتيقّن من نشر النصّ إلا عقب أن وصلني أول بريد من «نزوى» يطلبُ رقم حسابي لصرف المكافأة.
أخذتُ آنذاك أذرعُ الشقة ذهابا وإيابا، أصعد السلالم وأنزل، غير قادرة على ضبط إيقاع نبضي المُتسارع. كان ذلك أشبه باعتراف يكسرُ شبحية الانفصال القاسي الذي توهمته أول مرّة.
عندما عدتُ في ٢٠٠٥ للعمل في جريدة عُمان، وجدتُ نفسي أجاور المجلة مكانيًا لأول مرّة، لكني كنتُ أرغب دوما في إبقاء المسافة الآمنة بيننا.. إلا أنّ المغامرة الكبرى تمثلت في انتقالي للعمل فيها، فتخلخل الرعب وتزعزع.
وبينما تحتفل مجلة نزوى بإكمالها العقد الثالث هذا العام، كنتُ أفكر في خيوط لعبة المصائر التي قادتني بصورة لا تخلو من عجائبية لأصبح جزءا من فريق عملها. لقد تذكرتُ البنت التي كنتها يوما تذرفُ دموعها، وفهمتُ الآن أنّها كانت تريدُ من أعمق نقطة في روحها أن تنصهر في مشروع بهذه الرصانة، أن تتجذر في متنها وأن تجمح للمغاير والفارق عبرها.
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الحسد.. واقع محسوس أم وهم نفسي؟ّ!
غنية الحكمانية
الحسد آفة نفسية خبيثة تمزّق صاحبها همّا وغمّا وكمدا، تقضّ مضجعه وتشج مفرق وجعه، يودّ لو تُساق إليه تلك المزايا والعطايا والهبات باعتبار أنّ الآخر لا يستحق تلك المنالات؛ فيعيش بذلك في تآكلٍ من الداخل تفضحه العلامات بالخارج المرتسمة على ملامح وجهه وفلتات لسانه وخلسات نظراته مهما حاول الإخفاء وإظهار البراءة والوداعة، مراقبا حركات وسكنات الآخر، ومحاولا إيقاع الأذى به.
ولا يكتفي بذلك؛ بل يتمادى إلى نشر الشائعات وتزييف الأقاويل؛ تدميرا لسمعة الآخر وإنقاصا من قيمته ومكانته ومركزه الاجتماعي، وإضعافا لمتانة علاقته مع الآخرين، بإشعال لهيب الفتنة والتفرقة وتمزيق نسيج الوحدة والجماعة. فهو يعتبر الآخر تهديدا لمركزه وسوقه الشّعبوي فيعمد إلى إحالة نقاط الجذب والالتفات إليه. ولكن يبقى حسدا لا قيمة له أو تأثير ما لم يصل إلى سلب وانتشال مطامع الحاسد بالإيذاء القولي أو الفعلي، وإلا فإنّ الحسدَ طاقة سلبية وشرور نفسيّة لا تضرّ إلا صاحبها وترديَه في مهاوي الهلاك.
ما يجرّ الحاسد إلى ذلك هو الإحساس بالنقص والحرمان، والتقدير المنخفض للذات وضعف الثقة بالنفس، لعدم مقدرته على تحقيق الطموح المراد وشأوه المطلوب. وربما يكون بسبب شعور بالنرجسية والفوقية وجنون العظمة؛ فيظنّ أنه الأحق والمستحق في الاستحواذ على المبتغى. فهو يريد أن يمتلك كل شيء يزيد من رفعة رمزيته إلى مصافّ العليين. ويريد أن يستعيضَه من الآخرين عندما يفتقر إلى ذلك المراد.
إن الحسد صفة مكتسبة صنعت دمامتها بعض العوامل البيئية والتربوية والظروف المحيطة، فالإنسان يولد على الفطرة السّليمة بطبيعةٍ طاهرة لم تتلطخ بتلك الصفات المكروهة حتى يتم غرس بذورها فيه. والتنشئة الأسرية لها دورٌ كبيرٌ في رعرعة تلك الصفة الشائنة التي ربّما تم توارثها جيلا إثر جيل وقليل من ينسلّ كالشعرة من تلك العجينة التي شكّلتها الأسرة؛ فهي المسؤولة الأولى عن تحديد صفات وجينات شخصيات وعادات أطفالها وصقل معدنهم.
لكن هل الحسد يتولّد بين نفس الطبقية والفئوية؟ فقد ذكر دافيد هيوم رسالة في الطبيعة البشرية أن " الحسد لا يتولد عن التباين الشديد بيننا وبين الآخرين؛ بل على العكس الحسد وليد التقارب".
ويبدو أنه وليد التقارب والتباعد والاختلاف، فليس ضروريًا أن تكون هناك قواسم مشتركة بين الأشخاص حتى يتحققَ شرط الحسد. بل يستشري بين جميع الأفراد وعلى مختلف الأطياف والدرجات والمستويات لا يفرّق بينهم.
إنّ الاعتقاد بضرر الحاسد وقدرته على اختراق الحُجب، وأنّ له قوى خفية يمارسها وطاقة سلبية يرسلها كما قيل في الأمثال الشعبية قديما "عين الشاب كالمشهاب وعين الجارية نار وارية وعين العجوز كالرمحٍ المركوز".
ممّا يجري البحث عن طرق للوقاية وتفادي الإصابة بشظايا الحسد النّفاثة، هو للأسف ما يعزّز لدى الحاسد ظنّه بقوته الخارقة في تحطيم مقدّرات ومزايا الآخر. ويعزز وهم الآخر بقدرة الحاسد على التحكم بمصائر الناس والتصرف بأقدارهم؛ فيتمّ إخفاء جميع محصّلاته والتكتم عليها خوفا من عين حاسدة تقتنصه أو تشلّ حركته، ما يُعيّش الآخر في حالة من الخوف والقلق واضطرابات نفسية مرهقة تنعكس جسمانيا عليه وتفزعه في أحلامه ورؤاه، بسبب قوة البرمجة العصبية والربط اللاشعوري وخطأ الظن والاعتقاد بقوة عين الحاسد؛ الآخرَ حتما لا يناله الضرر ما لم يضع أدنى شكًا وارتيابًا بالحاسد، فشرر الحاسد ليس له تأثير أو سلطان على الأشخاص والممتلكات.
وإنما المتضرر الأكبر هو الحاسد الذي يعيش في دوامة من الحقد والحنق والغيظ، فهو المتضرر نفسيا وعقليا وجسديا من معمعة في التفكير ودوام في الاستنفار، وحتما سيؤدي ذلك إلى إمراضه وإهلاكه ولا يمكن نجاته من ذلك إلا بتطهير نفسه وقلبه من تلك الآفة. وكما قيل "لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله". وسُطّر فيه بيت من الشّعر:
اصبر على كيد الحسود فإنّ صبرَك قاتله.. فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله
ما يؤسف حقّا أنّ أسطورة العين الحاسدة وجدت مهجعا في وطننا العربي وتبنيّا لها، بأنها عينٌ ترمي بشرر كالقصر من عظمة قوتها وسرعة إصابتها، ومدى تحريكها الأشخاص كالدّمى يتلقون أوامر عينه وينصاعون لتوجيهاتها. فيضعون بذلك الحسد شمّاعة لتبرير الفشل والخسارة والمرض وعدم محالفة الحظّ، بالمقابل لا نراها تلاحق الأشخاص الناجحة والمتفوقة في الدّول المتقدمة التي شعارها العلم والعمل والإنجاز والعطاء، دون وضع التّحديات والتبريرات والتفاقمات في قفص اتّهام الحَسود والنّاقم ما لم يضرّه بيده ولسانه وليس بعينه.
والمؤسف الأكبر مصيبة هو تعطيل الوالدَين قدرات ومهارات أطفالهم بحجّة حفظهم من عينٍ مارّة ضارّة تصيبهم. وكالعادة إعادة دائرة التربية والموروث على أبنائهم وترسيخ فكرة الحسد والعين. فأي إصابة بالفشل أو المرض أو الخسارة فالاتهام جاهز ومعلّب يتم تقديمه لطفله عنوة وإن لم يستسغ ولكنه سيكبر والفكرة تكبر معه إلى أن يتبرمج بمصداقية المعتقد وينطرح بسببه الفراش أو الأمراض النفسية والاضطرار إلى معالجته روحانيا للرقية والتحصين، دون الاعتراف بإصابته بالأوهام والأمراض النفسية والتي سببها غرس الوالدين لذلك الفكر والخوف والتحطيم النفسي والمعنوي.
وختامًا.. لا يعتبر الحاسد أنّه سيكسدُ سوق الآخرين بعينه فيمعن في تدقيقها وزيادة حجم بؤبؤتها فإنه لا يهلكنّ إلا نفسه، ولا يعوّز الآخرون خسرانهم وفشلهم ومعاناتهم بسبب الحسد فيكسلون عن بعث روح الحياة والهمّة والتجديد لما يمتلكونه ويحوزونه. فإن التّنافسَ المحمود والغيرةَ الإيجابية مطلوبةٌ للتسابق في إظهار الأفضل والأجدى وإثبات قيمة الذات والمكانة. وإن الرّضا بالرزق المقسوم والاقتناع به، والاستبشار بما لدى الآخرين، وتمنّي الخير ودوام النّجاح والسّعادة لهم مطلوب للعيش في حالة من الوئام والصفاء النفسي تغشاهم مسحة من الحُبّ والتعايش والسّلام.