انتقادات براقة للعولمة لكنها خاطئة
تاريخ النشر: 25th, February 2024 GMT
ترجمة: أحمد شافعي -
بتنا نعرف الآن أن انتقاد العولمة مساير للعصر ومقبول أيضا، ذلك أن ماريو دراجي* يفعل ذلك.
ففي خطاب له أمام اتحاد اقتصادي مرموق في الولايات المتحدة، انضم دراجي (1) إلى الكثير للغاية من الشخصيات الأقل خبرة ممن يوجهون اللوم في انتشار الشعبوية والاتجاهات المنافية لليبرالية في البلاد الديمقراطية الغربية إلى آثار العولمة.
بإلقائه خطابا على أرض الرئيس جو بايدن التي تشهد الدعم الصناعي الحمائي والتهديد بانتخاب الرئيس دونالد ترامب في نوفمبر وهو الأكثر ميلا إلى الحمائية، كان من الصواب ولا شك أن يعترف دراجي ببعض المشكلات الاجتماعية والاقتصادية العميقة التي تسعى هذه السياسات المنافية لليبرالية المناهضة للتجارة أن تعالجها.
لكن هل تلام العولمة حقا على هذه المشكلات؟ لا بد أن دراجي يعلم، وهو الاقتصادي الكفء، أن الإجابة هي لا.
لقد قال مصيبا في ما قال إن جوهر المشكلة هو أن كلا من التفاوت في الدخول وانعدام الأمن الوظيفي تزايدا، وتسببا في شعور لدى الكثير من أهل الطبقتين المتوسطة والعاملة بأنهم «مهملون» لا في الولايات المتحدة وحدها ولكن أيضا في كثير من البلاد الأوروبية بل وفي اليابان.
وقد تجلت هذه الظاهرة في انخفاض حصة «دخل العمل» ـ بحسب اصطلاح الاقتصاديين ـ أو «الأجر» بحسب اصطلاح عوام الناس، وارتفاع نصيب أرباح الشركات.
غير أن هذا ليس نتيجة من نتائج العولمة. فالبحوث الاقتصادية تنبئنا بالأساس أن هذا هو نتيجة للتكنولوجيا، ولأتمتة التصنيع، بل وأتمتة الخدمات نفسها في الآونة الأخيرة.
وهو، فضلا عن ذلك، نتيجة لسياسات حكومية عمدت إلى تقليص مخصصات الرفاه وقلصت القدرة التفاوضية للاتحادات العمالية أيضا بإلغائها القواعد الحمائية الحاكمة لأسواق العمل.
ثمة زاوية أخرى للنظر إلى هذا الأمر وهي أن التفاوت وانعدام الأمن الوظيفي تزايدا خلال العقد الأخير من القرن الماضي والعقد الأول من القرن الراهن، وأنه كان ينبغي على الحكومات أن تطرح إجراءات لتقليل هذا الاتجاه.
وذلك ما حدث مرارا في عقود ما بعد الحرب، إذ هددت المنافسة والابتكار بقسمة المجتمع، فبذلت جهود عامة لمجابهة هذه الانقسامات أو لتقليصها على أقل تقدير.
لكن خلال تسعينيات القرن الماضي وبدايات القرن الحادي والعشرين، رأينا أن حكومات كثيرة للغاية إما عجزت عن إدارة هذه التأثيرات أو طرحت سياسات زادت الطين بلة.
والسؤال المهم واجب الطرح هو: لماذا؟ من إجابات هذا السؤال أن هذه الحكومات ربما لم تفهم ما الذي يجري إلى أن فات الأوان. ومن الإجابات أن المشكلة التقليدية في البلاد الديمقراطية أن الشركات القوية وجماعات أصحاب المليارات تحزبت ضد السياسات الرامية إلى إدارة التفاوت وانعدام الأمن، وكثيرا ما كانت تفعل ذلك باستعمال تبرعاتها السياسية لتعزيز رغباتها.
كانت الديمقراطية تباع فاشترتها أول ما اشترت الشركات الصناعية وتشتريها الآن بصفة خاصة شركات التكنولوجيا.
فماذا إذن عن العولمة؟ يصيب دراجي في قوله إن التجارة الحرة لا يمكن أن تعمل بكفاءة وديمومة إلا حينما توجد قواعد متفق عليها لحكمها ومناهج متفق عليها لتعزيز هذه القواعد وتسوية النزاعات.
غير أن السبب في الاحتفاء بتأسيس منظمة التجارة العالمية سنة 1995 هو على وجه التحديد أن التجارة صارت أخيرا ـ في ظل منظمة التجارة العالميةـ في طريقها إلى الخضوع لحكم نظام لتسوية المنازعات ووفقا لقواعد متفق عليها.
حينما انضمت الصين إلى منظمة التجارة العالمية ودفعت مع ذلك حزم دعم ضخمة لم تلتزم بتلك القواعد، كانت تلك مشكلة واضحة مثلما قال دراجي. والسؤال الصحيح واجب الطرح هو لماذا لم تقم حكومات أخرى ـ ومنها حكومة الولايات المتحدة وحكومات الاتحاد الأوروبي ـ بفرض تلك القواعد.
هل كان سبب ذلك ـ مثلما يزعم بعض الأمريكيين ومثلما ألمح دراجي في خطابه ـ هو أنهم توقعوا من العولمة أن تحول الصين إلى بلد ديمقراطي مذعن للقواعد؟ أم كان السبب في واقع الأمر مزيجا من التواطؤ ومن جهود جماعات الضغط القوية ـ مرة أخرى ـ التي أرادت أن تجني المليارات من السوق الصينية؟
الحقيقة هي أن العولمة، وكذلك الظاهرة الاقتصادية العامة التي أضفت عليها تلك الكلمة فتنتها، وهي ظاهرة التنافس، تتلقى نقدا مضللا وغير منصف. والمشكلة التي تواجه البلاد الديمقراطية الليبرالية تنتج عن عجز الحكومات عن التحرك للتعامل مع التفاوت وانعدام الأمن، وهذا التقاعس ليس إلا مشكلة سياسية محلية، ولا علاقة له بالتجارة، أو بالصين، أو بالعولمة في واقع الأمر.
صحيح، مثلما يقول دراجي، أن العولمة تتغير، وذلك جزئيا بسبب الأوضاع الجيوسياسية وبسبب الحرب في أوكرانيا. ولكنها ليست في طريقها إلى الزوال. فالكثير للغاية من البلاد تستفيد من أنماط جديدة من الإنتاج والتجارة، ومن هذه البلاد الهند وإندونيسيا والكثير من البلاد في جنوب شرق آسيا التي تحقق الآن نموا أسرع من سرعة النمو في الصين. والرأسمالية دائما نزاعة إلى الابتكار والتكنولوجيا تيسر الابتكار أكثر وأكثر.
إن المشكلة التي تواجهها البلاد الديمقراطية الليبرالية تكمن في تشتت أنظمتها السياسية بسبب قوة الشركات المركزة، لكنها تكمن أيضا في ارتفاع مستوى ديونها العامة. وفي ظل ارتفاع مستوى الديون بهذا القدر، ومع شيخوخة الشعوب بما يتطلبه ذلك من المزيد من الرعاية الصحية والإنفاق الاجتماعي، فإنها في طريقها إلى أن تجد أنفسها وقد صعب عليها أن تدير التفاوت وتأثيرات التكنولوجيا. وهنا تكمن الحاجة إلى العثور على حل.
أما إلقاء اللوم على العولمة فلا يفيد إلا في الإلهاء وصرف الأنظار عن المشكلات الحقيقية، وذلك ما يحلو لدعاة الشعبوية أن يفعلوه.
(١)ماريو دراجي اقتصادي وأكاديمي ومصرفي ورئيس وزراء سابق لإيطاليا في الفترة من 2021 إلى 2022
بيل إيموت رئيس التحرير السابق لمجلة إيكونوميست، وهو حاليا رئيس (جمعية اليابان في المملكة المتحدة) و(المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية) والمعهد الدولي للتجارة.
عن آسيا تايمز
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: البلاد الدیمقراطیة وانعدام الأمن
إقرأ أيضاً:
باحث سياسي: أمريكا لا تريد دعم نتنياهو وجالانت.. لكنها ترغب في الحفاظ على هيبة إسرائيل
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
قال زهير الشاعر، الكاتب والباحث السياسي، إن الولايات المتحدة الأمريكية لا تريد أن تدعم رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف جالانت بالتحديد ولكن تريد أن تحافظ على هيبة إسرائيل كحليف استراتيجي بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية.
وأضاف «الشاعر»، خلال مداخلة عبر شاشة قناة «القاهرة الإخبارية»، أن الولايات المتحدة الأمريكية تساهم بـ50% من ميزانية محكمة الجنايات الدولية بالرغم من أنها ليست عضو كامل في هذه المحكمة، وإنما عضو مراقب وبالتالي هي تريد أن تسجل موقفًا واضحًا أمام المحكمة وجميع الجهات الدولية بأنها لن تتخلى عن إسرائيل بالمطلق.
وتابع «ما سبب توقيت هذا القرار الآن هل أعطت أمريكا ضوءً أخضر لهذه المحكمة لتمضي قدمًا في اتخاذ قرارها ضد نتنياهو وجالانت كون هذه الفترة بالغة الأهمية والحساسية للرئيس جو بايدن من جهة ومن جهة أخرى، بايدن لا ينسى أبدًا عملية أفشال نتنياهو لكل جهوده التي حاول أن يقوم بها خلال الفترة الماضية والتي كانت مصاحبة لعملية الحرب في قطاع غزة».