الأخلاق في السياسة الخارجية العُمانية
تاريخ النشر: 25th, February 2024 GMT
د. عبدالله باحجاج
تواردَ إلى ذهني موضوع عنوان المقال أعلاه من خلال مشاركتي في الحوار الوطني "معًا نتقدَّم" وتحديدًا في محور الاعلام والهُوِيَّة العُمانية، وما كشف فيه عن توجهات الحكومة لتعزيز منظومة القوة الناعمة العُمانية لتمتين الجبهة الداخلية، وجعلها من وسائل مواجهة المهددات العابرة للحدود، وتعززت لدى الرغبة للكتابة عن مكانة الاخلاق في السياسة الخارجية العُمانية في ظل استمرارية ثابتة ومميزة للممارسة السياسية والدبلوماسية للمبادئ والقيم في قضايا مصيرية تمر بها الامة الإسلامية بصورة غير مسبوقة وتحت ضغوطات غير مسبوقة أيضًا من قبل أمريكا، وظهرت من خلالها سلطنة عُمان كنموذجٍ غيَّرت فيها المفاهيم المعاصرة التي ترى العلاقات الدولية ما هي إلّا صراع من أجل المصالح، وأصبحت تعلي من قيمة الاخلاق والمبادئ دون الافراط في المصالح.
هذا يعني أن المُمارِس السياسي والدبلوماسي العُماني، قد وصل إلى مرحلة من الذكاء والنضوج والخبرة والثقة، ما تجعله ينجح في التوفيق بين المبادي والمصالح؛ فلم يُفرِّط في أيٍ منهما في وقتٍ انحازت الدول الى المصالح، ومالت كل الميل ضد شعوبها، وأصبحت مواقف جبهتها الداخلية مُتعارضة مع مواقف أنظمتها! وكل من تابع تعاطي المُمارسة السياسية والدبلوماسية العُمانية منذ بدء "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر الماضي، وحتى الان، سيرى نجاحها في التوفيق بين المبادئ والمصالح. ولنتدرج في الأمثلة من أخر المواقف، وهى مرافعتها الشفهية في محكمة العدل الدولية يوم الجمعة الماضية، فقد تجلّى نجاحها في الوقوف القوي مع القضية الفلسطينية وفق مقاربة الواقع الدولي، فهى بعد أن اعتبرت الفظائع التي يرتكبها الصهاينة في غزة من أسوأ ما يشهده العالم اليوم، وأن الاحتلال يعمل على تغيير التركيبة الديموغرافية في الأراضي المحتلة.. طالبت المجتمع الدولي والمنظمات الدولية الإسراع في مساعدة الشعب الفلسطيني على تحقيق تطلعاته من خلال إقامة دولته المستقلة، ووضع حد فوري وغير مشروط للوضع غير القانوني في الأراضي المحتلة.
وقبله بأيام، صعّد معالي بدر بن حمد البوسعيدي وزير الخارجية من وتيرة الممارسة السياسية والدبلوماسية العُمانية عندما دعا إلى إلغاء حق النقض "الفيتو" في مجلس الامن، بعد أن خرجت واشنطن عن إجماع أعضاء المجلس التابع للأمم المتحدة، وأحبطت قرار الجزائر في مجلس الامن الذي كان يدعو الى وقف اطلاق النار في غزة. وهذه هي المرة الثالثة على التوالي للفيتو الأمريكي. هذا الموقف العُماني يتناغم مع مواقف قديمة لدول العالم الثالث، وكذلك مواقف حديثة مع دول صاعدة مثل البرازيل وجنوب افريقيا، ومواقف دولية مثل الصين، وحتى الان لا تزال هذه الدول تمارس الضغوطات بتوسيع عدد الدول ممن يحق لهم الفيتو وكسر قاعدة الاحتكار الخماسي.
كما طالب معاليه بإصلاح المؤسسات الدولية من منظور تفعليها لايجاد حلول لمشاكل اليوم عوضا عن أحداث الامس، ورأى أن هذه العملية يمكن البدء بها من خلال اجراء جماعي عاجل لإقامة دولة فلسطينية وتحقيقها على وجه السرعة.. وهنا تستفرد مسقط برؤية برجماتية في منظور اصلاح المؤسسات الدولية، وهي تنطلق من الواقع الممكن عبر تغيير ماهية التفكير من الإغراق التاريخي للحل الى الحل من منظور الاني دون الانجرار الى الماضي المعيق للحل، ويوم 16 من فبراير الماضي، أي قبل هذه المواقف التي عبر عنها معالي وزير الخارجية العُماني في محاضرة في مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية ببريطانيا.
وعلى صعيد رصدنا للمواقف العُمانية القوية، تجدر الإشارة الى مطالبتها بمحكمة دولية لجرائم الصهاينة في غزة، والى وصف معالي وزير الخارجية العُماني حركة حماس بحركة مقاومة وليس حركة إرهابية في وقت لا يتجرأ فيه أحد على ذلك.. واثناء مثل هذه المواقف المتفردة، تلجأ مسقط الى المطالبة بالحلول السياسية وضرورة تدخل المجتمع الدولي لوقف الحرب على غزة، وقد أصبحت هذه المواقف متصاعدة، وتبرز في الأوقات المناسبة للاحداث في غزة، وتكون دائما في مستوى المواقف الشعبية والفكرية العُمانية، وفي حالات أقوى منها، مما تصبح منتجة وقائدة للاستيعاب الاجتماعي حتى في اقسى انفعالاته.
وتُكرِّس تطبيقات تلكم الممارسة بشقيها السياسي والدبلوماسي الصورة النمطية التاريخية عن أهل عُمان كهُوِيَّة تاريخية عالقة في الاذهان والتي تؤطرها الحديث النبوي الشريف الذي أخرجه الإمام مُسلم في صحيحه من حديث أبي برزة الأسلمي؛ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بُعث إلى حي من أحياء العرب مبعوثاً فسبوه وضربوه، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "لو أنَّ أهل عُمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك". من هنا تظهر هذه الهُوِيَّة كامتداد زمني لأنها تعبر عن أصل كينونة الانسان العُماني المتجذرة والثابتة، فرسولنا الأعظم عليه افضل الصلاة والسلام ما ينطق عن الهوى إن هو الا وحى يوحى.
ومن خلال مواقف مسقط- حكومة وشعبًا- لن نبالغ اذا ما قلنا إنها استثنائية في نصرة الأخوة الإسلامية والأخوة الإنسانية سياسيًا وماديًا ومعنويًا، والمجاهرة بها.. لن نجد لها مثيل بتلكم الثنائية المتماهية بين الحكومة والشعب والتي تتفاعل مع أحداث غزة في كل مفاصلها وأولًا بأول، وبصورة تلقائية واستقلالية تامّة، ومعها يتكامل المشهد التصويري التاريخي عن الانسان العُماني مصداقا للرؤية النبوية عن أهل عُمان، وكم يتولد لدينا الوعي بهذا المشهد الان في ظل حالة الخذلان والمؤامرة ضدهم التي تؤلم أهل غزة أكثر من جرائم الإبادة والتدمير والتجويع والتهجير.. الخ.
المفارقة العقلانية المُدهشة أن مواقف سلطنة عُمان تحظى بالتقدير والاحترام من الكل في ظل ديمومة مصالحها مع الكل، ولم نسمع حتى أي ملاحظات على ممارستها السياسية والدبلوماسية، وهذا ليس له من تفسير سوى الشعور بمصداقية ما تطرحه مسقط من قضايا عادلة وفق مقاربة التوفيق بين المبادئ والمصالح، وإن بدأت للأولى أكثر وضوحًا على المشهد من جهة، وأن هذه القضايا تتماهى مع قضايا شعبها المتفاعل بقوة الافراط السيكولوجي مع مشاعره وروابطه الإسلامية والإنسانية من جهة ثانية، وأن الغرب الأمريكي لا يُريد أن يخسر مسقط، فهى ليست دولة عادية أو اعتيادية مثل غيرها، فهى دولة جيوسياسية واستراتيجية فريدة من نوعها: ديموغرافية وجيوسياسية، ومحط تقاطعات إقليمية ودولية؛ فاستمرار علاقاتها معهم غير قابلة للتفريط بها، من هنا ستظل مسقط دولة استثنائية في ذاتها وداخل محيطها، ولا تقارن بغيرها.
لذلك لا تحاول عُمان أن تُسجِّل انتصارات إعلامية لتسويقها واظهارها بحجم وأوزان تنافسية إقليميًا وعالميًا، وإنما تجعل من آليات وميكانزمات (مُحرِّكات) ممارستها السياسية والدبلوماسية تعمل بصورة ميكانيكية محكومة بالثلاثية التالية: الدوافع والوسائل والنتائج. وقد تجلت هذه الثلاثية فيما سبق ذكره، وقد يثور هنا تساؤل حول النتائج، صحيح لم تظهر على وقف الحرب ولا الإبادة الجماعية ولا التدمير ولا التجويع ولا التهجير.. لكنها تظهر في وحدة الدولة وتماسك كل مكوناتها الديموغرافية والفكرية، وتظهر في تحويل البوصلة الفكرية والديموغرافية الى الخارج، وتظهر أنها تعطي للرؤية النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام صفة الحكم المستدام على الكينونة العُمانية الإنسانية، وتظهر كدافعية للأخرين لاستدراك الخطأ والخطايا. ونخرج من كل ما تقدم أن عُمان قد تلتقي مع غيرها من الدول في التنظيرات السياسية، لكنها تنفرد عنها بالممارسة السياسية والدبلوماسية وفق واقع الممكن، فمبادئ وقيم الدول تكادُ تكون واحدةً أو متشابهة، وما قيمتها اذا لم تقترن بالتطبيق ومصداقيته؟
ويرى علماء السياسة أن التنظيرات السياسية أسهل بكثير من الممارسة السياسية والدبلوماسية؛ فنجاحها يكون محكومًا بمدى التوفيق بين المبادئ والمصالح، فلا تفريط في أي منهما- نكرر- ومن دون شك أن هذه المُمارسة العُمانية للسياسة الخارجية تجعل من عُمان أفضل مكان وأكثر أمنًا لشعبها، وأكثر ثقة في ذاتها.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
السياسة.. طبخة تحتاج لطباخ ماهر
بقلم : جعفر العلوجي ..
السياسة ليست مجرد قرارات وخطابات ، بل هي فن بحد ذاته تمامًا كالفنون الأخرى ، لكنها تختلف في طريقة عرضها ، هناك ما هو علني يُصقل ليبدو براقًا وجذابًا ، وهناك ما هو مخفي يُطبخ على نار هادئة خلف الكواليس ، حيث لا يرى الناس سوى النتائج ، بينما تظل الوصفات والأسرار حبيسة الغرف المغلقة .
السياسة كأي طبخة تحتاج إلى طباخ ماهر يعرف ماذا يضع في القدر ويدرك جيدًا التوقيت المناسب لإضافة كل مكون ، ويفهم النكهات التي ستروق للذوق العام .
القائد السياسي هو ذلك الطباخ الذي لا يستعجل نضوج الطبخة ، بل يتأنى، يقرأ المواقف جيدًا ، ويختار ما يخدم شعبه ، حتى وإن اضطر لتجرّع المرارة مرحليًا
ولعل تاريخ العراق الحديث يقدم درسًا واضحًا ، فبعد حربٍ ضروس استمرت لثمان سنوات مع إيران في عهد النظام البائد ، وسقوط نظام صدام حسين ، عادت العلاقات العراقية الإيرانية أكثر قوة ، ولم تكن هذه العودة نتيجة انصياع أو ضعف بل ثمرة لقراءة سياسية عميقة أدركت أن المصالح المشتركة والجغرافيا والتاريخ تحتم على البلدين تجاوز الماضي والانطلاق نحو المستقبل ، رغم ما سال من دماء وما خلفته الحرب من جراح .
ومع ذلك لم يخلُ المشهد من أصوات نشاز ، اعترضت واحتجت لكنها كانت في الغالب أصوات من فقدوا امتيازاتهم ومواقعهم ، أولئك الذين يرتزقون من الأزمات ، ويقتاتون على بقايا الخلافات
واليوم ، تتكرر المعضلة السياسية لكن مع جار آخر ، سوريا فزيارة وزير الخارجية السوري إلى بغداد ولقاؤه برئيس الوزراء والتأكيد على التعاون في كافة المجالات تطرح أسئلة جريئة ومؤلمة هل سيغلق العراق صفحة الماضي ، رغم الجراح النازفة جراء العمليات الإرهابية التي عصفت بأبناء شعبنا ، والتي لم يكن للشارع السوري يدٌ مباشرة فيها ، لكنها جاءت كجزء من حرب بالوكالة فرضتها الظروف السياسية والأمنية؟
هل سيكون العراق قادرًا على تجاوز الأحزان والبدء بمرحلة جديدة من العلاقات مع الحكومة السورية ، خاصة في ظل التحولات الإقليمية والدولية؟
القرار هنا يتطلب حكمة سياسية لا تعني النسيان ، بل تعني التطلع للمستقبل ، فالمواقف لا تُبنى على العواطف وحدها ، بل على المصلحة الوطنية العليا ، وعلى استيعاب أن الشعوب لا تختار دائمًا حكامها ، وأن الشعوب سواء في العراق أو سوريا دفعت أثمانًا باهظة بسبب صراعات تتجاوز حدودها .
السياسة لا تعني التنازل عن الحقوق، لكنها أيضًا لا تعني البقاء أسرى الماضي والمصلحة الوطنية قد تتطلب أحيانًا فتح صفحة جديدة دون أن يُمحى ما كُتب في الصفحات السابقة .
إن العراق اليوم بحاجة إلى سياسة تجمع لا تفرق ، تبني لا تهدم ، تقرأ المتغيرات لا تتجاهلها فهل سنشهد عراقًا يطوي جراح الأمس ليرسم خارطة جديدة من العلاقات الإقليمية ، أم سنظل ندور في ذات الدائرة ، نحمل أوزار الماضي ونعجز عن المضي قدمًا؟
الجواب مرهون بمهارة الطباخ السياسي الذي عليه أن يحسن اختيار المكونات ، ويدرك متى يضع الملح ، ومتى يطفئ النار ، ومتى يقدم الطبق لشعبه .