فُقئت عينا الحمراء (1)
تاريخ النشر: 25th, February 2024 GMT
سالم بن محمد العبري
بوفاة الأستاذ ناصر بن محمد بن عامر بن سليم العبري، غَفَت آخر عين من أعين الحمراء المبصرة، ودسَّها التراب، لينقطع ذلك الذى كان امتدادًا لجيل الكبار من رجال ولاية الحمراء العِظام وغيرها من بلدان عُمان، أجيال وراء أجيال بدأها بقية السلف الشيخ ماجد بن خميس العبري ووالده الشيخ خميس بن راشد العبري المُكنّى بـ"ذى الغبراء"، وتوَّجَه المفتي الأول لسلطنة عُمان الشيخ إبراهيم بن سعيد العبري الذى خلف أستاذه العلَّامة ماجد بن خميس.
وقبل وفاته بسنوات لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، توَّجَه شيخًا للعبرين باختياره وتقديمه، فلم يناقشه أحد؛ فمن ذا الذي يعترض على شيخ في العمر والعلم، وقد قدَّم تلميذه وهو لم يكمل العقد الثالث من عمره، ولم يكن هناك من يعتقد أو اعتقد بأنه أولى بمشيخة القبيلة بديلا عنه، وحُقَّ الأمر وانعقدت المشيخة للتلميذ، الذى تأتي لشيخه الوفود يوميا مستفتيةً أو متعلمة أو طالبة للرأي، كما كان الشيخ عبدالله بن حميد السالمي، وهو يُكرِّر الزيارات للشيخ ماجد العبري، الذي تتلمَذ عليه بولاية الرستاق في مرحلة تعلميه الأولى، لرُبَّما كان أولى ان يكون خليفة الشيخ ماجد بن إبراهيم بن سعيد العبري في موقع أستاذه، فسيتزيد علما وتبحُّرًا في طريق العلم والتمحيص والمقارنة.
وكما بلغني عن الأخ محمد بن عامر العسيري الباحث والمحقق أنه كان يرى أن يبقى العلَّامة إبراهيم في مجاله العلمي ولا ينشغل بأمور قَبَليّة، ولولا انشغاله بأمور الرئاسة والإدارة لبلغ في العلم منزلة الأقطاب، ولعلا عن شؤون قبلية بها ما بها ولها ما لها، وربما يسند هذا الرأي ما حصل بينه والإمام الخليلي من لبس وسوء فهم نسجته أيدٍ مغرضة وتوجهات قبلية؛ حتى إذا ما تبيَّن للإمام الخليلي هذه الأمور جلية أخذ يحاول مع الشيخ إبراهيم بن سعيد لإعادته؛ وقد تحاور الشيخ والإمام في سجال كان ضروريًّا للشيخ إبراهيم لإبراء ذاته وتوجّهاته. وعن ذلك السجال، قال لي الشيخ يحيى بن عبدالله بن سليمان النبهاني: إن الشيخ إبراهيم وهو يمثل بين يدي الإمام الخليلي بدا الحوار بينهما علميًّا رائعًا، وقطع لي بالقول المعتاد أنَّ حوار الشيخ إبراهيم مع الإمام الخليلي كان صريحًا لأبعد الحدود. وفي آخر المساجلة رفض الشيخ قبول العودة.
وفي ظنِّي أنَّ تقديم العلامة إبراهيم بن سعيد واليًا على عبري خلفا للشيخ الرقيشي، إنما كان سعيًا من الإمام وحرصا منه على إبراء ذمة الشيخ إبراهيم العبري؛ وذلك بعد أن عيَّن معه نائبا له والدي محمد بن أحمد بن سعيد العبري، ويبدو أنهما اتفقا أن يقيم بالولاية وأن يراجع العلامة من فترة لأخرى، وقد يكون ذلك ليبقي الشيخ العلَّامة إبراهيم في خدمة القضاء والقيام به لدى السلطان سعيد بن تيمور الذى ربط العلامة قبوله بموافقة السلطان، والتكفُّل برواتب الموظفين بـ"الحصن"؛ ولعل الشيخ إبراهيم بهذا الشرط أراد التوثق من بقاء الرواتب منتظمة وليس كما يُسار عليه في نزوى إذا يبقى الوالي يموِّل نفسه أو يقترض باسمه ويستوفي مخصصاتهم في "القيظ" بعد "الطناء"، وربَّما قصَّ عليه الشيخ سالم بن حمود بن شامس السيابي قصته حين وُلِّي جعلان بني بوحسن؛ فمع انتهاء موسم القيظ بُلِّغَ أن يدبِّر نفسه ويقبض من الغلة القادمة، لكنه أُعفِي قبل حلول الصيف بعد أنْ كان قد اقترض لتدبير رواتب موظفيه ونفقات الحصن؛ فلما أُعفي لم تُرسل له مُخصَّصات فترة عمله بالولاية، وقد يكون النقل أتى عاجلا. إلا أنَّ بعض المتصيدين في ماء السياسة العكر أثار فريةً بين الناس؛ قال فيها: إن الشيخ سالم السيابي قد خرج من الولاية وعليه دَيْن، ولم يوضِّح للناس أن له أُجرة وراتبًا فترة توليه الولاية، لم يحصل عليه وغمغم على الإمام الخليلي؛ فأمر ببيع ماله بسمائل وصارة قصة نكتفي منها بهذا القدر كدليل أو تسبيب لاشتراطة العلّامة إبراهيم العبريّ تمويل نفقات الحصن من السلطان وبواسطة ابن خالته الشيخ سلطان بن سيف الحوسني.
ونتساءل هنا: هل العلامة الشيخ إبراهيم العبري قد استشعر أو تنبأ أن الولاية وعُمان كلها من أقصاها إلى أقصاها صائرة للسلطان وتحت يده، وإن لم يذهبوا إلى عقد الولاية والسلطة للسلطان بالإجماع، وعدم الذهاب لتجديد البيعة لإمام جديد لا يرى أن الأمور ستستتب له بكل المعطيات والمحددات وموافقة ميول الغالبية بعُمان كلها شرقها وغربها، خصوصا أنَّ الشيخ علي بن هلال بن زاهر الهنائي حين بُلِّغ بعقد الإمامة لابنه غالب، قال ما معناه: بليوه. وهل من نبوءة عارف بشؤون العمانيين وتقلباتهم أدق وأصدق من هذه، وله أن يقول ذلك وأبناء عمومتهم وأخوالهم متضعضعون!
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
وردة سعيد البحيري: فتاة البحر والجبل
فتحي أبو النصر
خبر محزن ترك أثرا عميقا في قلبي: رحيل الفنانة العدنية وردة سعيد البحيري، هذه المرأة التي رسمت بفنها وجمال روحها ملامح من العطاء والإبداع.
كانت وردة بدأت مسيرتها الفنية في نهاية سبعينات القرن الماضي، في فرقة الانشاد، وقد ارتبطت في أذهان الكثيرين بجمال صوتها وأدائها المتميز، وكانت واحدة من أبرز وجوه الفن والثقافة في عدن.
عرفت وردة وشبهتها ب”فتاة البحر والجبل”، فهي تلك التي نشأت في مدينة عدن، المدينة التي تجمع بين البحر والجبل، فكان هذا التنوع البيئي الحيوي هو انعكاس لحياتها المثابرة واهتماماتها الطيبة.
تربت وردة على حب البحر، الذي أضفى عليها الهدوء والنقاء، وعلى الجبل الذي علمها الصمود والصلابة في مواجهة المصاعب.
حقيقة لقد تركت وردة بصمة فنية واضحة، فقد سجلت العديد من الأعمال في إذاعة وتلفزيون عدن، والتي ارتبطت بمشاعر الحب والحنين للماضي. كما كانت ممثلة وعضوا مؤسسا في المسرح العسكري.
وفي عام 2018، تولت منصب المدير التنفيذي لصندوق التراث، مما جعلها قريبة من قلوب المبدعين، حيث كانت دائماً داعمة لهم، ومهتمة بالمبدعين والمرضى منهم.
كان إسهامها في دعم الثقافة والفن في عموم اليمن واضحاً، بل وملموساً في كل خطوة من خطواتها.
عرفتها مع أني لم أكن استلم من ذلك الصندوق منذ تأسيسه وقد تخاصمت معها بشأن ذلك.
ولكن وردة رغم صراعها مع المرض، فإنه لم يثنيها عن مواصلة مشوارها، وظلت على الرغم من المتاعب تعمل بجد وإخلاص في خدمة الفن والمجتمع.
على إن وفاتها خسارة كبيرة للثقافة والفن في عدن، ولأهلها وذويها، الذين سيفتقدون إبداعها وحضورها الساحر.
وأنا أمام هذا المصاب الجلل، اعزي نفسي وكل محبي وردة. وادعو الله أن يغفر لها ويرحمها، ويسكنها فسيح جناته، وأن يلهم أهلها وذويها الصبر والسلوان.
وداعا وردة
و
إنا لله وإنا إليه راجعون.