نساء من شمال غزة يروين مأساة النزوح ومعاناة الجوع
تاريخ النشر: 25th, February 2024 GMT
بعد رحلة نزوح شاقة أعقبت رحلات عدّة لا تقل صعوبة، وصلت نساء وفتيات نازحات من بيت حانون شمال قطاع غزة إلى دير البلح وسط القطاع هربا من الجوع الذي يهدد سكان الشمال الذي يمنع عنه الاحتلال المساعدات، ولا يسمح بأخذ القليل الذي يصل منها إلا تحت وابل من الرصاص يمزج في أكثر الأحيان الطحين بالدماء.
بعد أن وصلت ظريفة حمد (74 عاما) -التي عايشت جميع الحروب الإسرائيلية منذ 1948- إلى مكتبة مدرسة في دير البلح، أكدت أن الشعب الفلسطيني لم يشهد أقسى من هذه الحرب، كما أنها لم تختبر في حياتها جوعا كالذي عاشته في شمال القطاع، حيث توزع مساعدات شحيحة لا تسد الرمق.
أما المسنة كاملة نعيم، فقد انكسر حوضها بعد أن انزلقت قدمها وهي تركض خوفا من القصف الإسرائيلي المستمر الذي استهدف المنازل المأهولة في بيت حانون، ومنذ ذلك الحين لم تستطع أن تمشي إلا خطوات معدودة، وتقضي وقتها مستلقية على ظهرها.
وذلك ما دفع عائلتها إلى جرها بعد وضعها على لوح خشبي طول المسافة من بيت حانون إلى دير البلح، حيث لا يتوفر لها العلاج اللازم أيضا.
وصلت وحيدةوتبكي أديبة أبو عمشة التي وصلت وحيدة إلى دير البلح، بعد أن اعتقلت قوات الاحتلال في مداهمة لمدرسة تؤوي نازحين زوجها الأسير المحرر الذي قضى 7 سنوات بسجون إسرائيل أفقدته الذاكرة تماما.
وقلقة على مصير زوجها، لا تشعر أديبة بالأمان في ملجئها، مؤكدة أن مقومات الحياة في قطاع غزة معدومة تماما، وأن المعاناة "تلاحق الشعب الفلسطيني" المتروك وحيدا.
حرق الكتب ضرورةوفي أماكن النزوح، صار حرق الكتب حاجة ضرورية لإشعال النار من أجل التدفئة، وفق ما تؤكده الطفلة رهف حمد.
وقالت رهف إن عائلتها لجأت إلى مكتبة مدرسة مكتظة في دير البلح بعد النزوح من بيت حانون، حيث اضطر النازحون إلى إفراغ المكتبة من الكتب لحرقها، مشيرة إلى أنه من المفترض لجيلها أن يقرأ هذه الكتب في المدرسة.
وقد أجبرت الحرب الإسرائيلية المدمرة -وفقا للأمم المتحدة- ما يقرب من مليون امرأة وفتاة على مغادرة منازلهن في غزة، وهن يعشن الآن في شقق مكتظة وفي مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا) أو في خيام، أو حتى في أروقة المستشفيات التي أصبحت أيضا مخيمات للنازحين.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: بیت حانون دیر البلح
إقرأ أيضاً:
تقرير: الحرب أظهرت مهن جديدة .. في حياة النزوح بغزة
غزة- «عُمان»- بهاء طباسي: في زاوية من سوق دير البلح الشعبي، لا تبدو الحياة كما كانت. لم تعد المحال تكتظ بالبضائع، ولا أصوات الباعة تعلو كما في الأيام العادية. هناك، يجلس تامر بدوي، رجل في منتصف العمر، يحدق في ورقة نقدية ممزقة بين يديه كأنها كنز أثري، يتعامل معها ببطء، بحذر، كأنها روح بحاجة إلى إنعاش.
حين تنظر إليه من بعيد، قد تظنه فنانًا يُرمم لوحة عتيقة. يضع ورقًا شفافًا، يقصّ بعناية، يركب أجزاء العملة، يطابق الألوان، ثم يمرر أصابعه بخفة كأنما يزيل ألمًا قديمًا. يقول تامر: «أنا لا أصلح عملة، أنا أداوي جراح الناس في ورقٍ مُمزق».
من الجرافيك إلى ترقيع الجراح المالية
لم يكن هذا حال تامر قبل الحرب. كان يعمل في مجال التصميم الجرافيكي، يملك مكتبة صغيرة لطباعة البروشورات واللافتات، وكان يجد متعة في تصميم الأفكار وتحويلها إلى رسائل مرئية. لكن مع اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر 2023، وتوقف الدورة الاقتصادية ككل، تحولت حياته بالكامل. بعد أن أُغلقت المحال التجارية وأصبح الناس غير قادرين على دفع ثمن السلع الأساسية، توقفت أعماله بشكل نهائي.
أُغلقت البنوك، وأصبح الناس يتداولون النقود بشكل غير منظم، ما أدّى إلى تدهور الأوراق النقدية بسرعة. العملات الممزقة، التي كانت مرفوضة من التجار في البداية، أصبحت تُستخدم بشكل متزايد في المعاملات اليومية، ما دفع تامر للبحث عن حل. «لم أكن أتخيل يومًا أنني سأصبح مُصلحًا للنقود، لكن في ظل هذه الظروف، كنت مجبرًا على التفكير بشكل مختلف»، يقول تامر.
مع الوقت، بدأ يكتشف تقنيات بسيطة لترقيع الأوراق النقدية. بدأ باستخدام لاصق شفاف خاص وتقطيع الأطراف بعناية، ليتأكد من أن الورقة تعود إلى شكلها الأصلي. تدريجياً، أصبح يطور مهارته، حتى أصبح يُصلح الأوراق الممزقة بشكل محترف. «كنت أرى في هذا العمل أكثر من مجرد ترميم للورق؛ كنت أداوي جراح الناس المالية»، كما يصف تامر.
ومع تزايد الحاجة إلى هذا النوع من الإصلاح، بدأت تظهر في السوق ظواهر جديدة. أصبح الناس يفضلون التعامل مع تامر لِأنّه كان يعيد «حياة» للعملة التي كانت على وشك الزوال، في عالم كان كل شيء فيه مكسورًا ومتهدمًا».
اقتصاد الورق المرقع
«في البداية كنت أرى الناس تستخدم أوراقًا ممزقة، يرفضها التجار، ويتحسرون على فقدانها. قررت أن أجرّب. جربت ألصق ورقتين ببعض، جربت ألون الأطراف، حتى نجح الأمر. صارت العملة تبدو سليمة، والناس بدأت تلجأ إليّ»، يتحدث تامر بينما يُظهر ورقة مئة شيكل مثقوبة من المنتصف بعد أن أصابتها شظايا صاروخ.
في البدء، كان يُصلح الورقة بلا مقابل. يقول لـ«عُمان»: «كنت أعتبرها مساعدة بسيطة، لكن مع مرور الوقت، صار الناس يأتون بالعشرات، والمستلزمات غالية، خصوصًا اللاصق الشفاف الخاص الذي ارتفع ثمنه كثيرًا». اليوم، يتقاضى شيكلين فقط لكل ورقة كبيرة فئة 100 شيكل، ويصل عدد الزبائن إلى أكثر من مئة في اليوم الواحد.
حين تصبح الشرارة كنزًا
لكن ما يفعله تامر لا يقتصر على الترقيع، بل يتعداه إلى رؤية إنسانية عميقة. «هذه الأوراق ليست مجرد مال، هذه حياتنا. فيها رواتب المعلمين، ومصروف الأطفال، وتعب الأمهات. كل ورقة أصلحها، كأنني أُعيد لأسرة توازنها».
ليس تامر وحده من يعمل في هذه المهنة الجديدة. في شوارع غزة الممزقة، بزغت مهن لم تكن تخطر ببال أحد. ففي ركن آخر من السوق ذاته، يجلس شاب آخر يُصلح الولاعات التالفة.
شغف من رماد
محمد الغلبان، لم يتجاوز الثلاثين، وكان يعمل في مجال بيع الأجهزة الإلكترونية. لكن الحرب أتت على كل شيء، ولم يتبق سوى بقايا، وأفكار. يقول ضاحكًا: «ما كنت أظن أنني سأصلح ولاعة يومًا، لكننا في غزة.. كل شيء ممكن».
كانت الولاعة تباع بربع شيكل، لكن الحرب رفعت سعرها إلى أربعين شيكلا. وفجأة، صار للولاعة قيمة، وصار إصلاحها مهنة. يقول محمد لـ«عُمان»: «الناس ما عادت ترمي ولاعة، صارت تحتفظ بها، وتحاول إصلاحها أو تعبئتها. وأنا بدأت أتعلم من السوق، من محاولات بسيطة، حتى أتقنت الأمر».
يجلس بلال خلف طاولة خشبية، أمامه ولاعات بألوان مختلفة، بعضها مكسور وبعضها يحتاج غازًا. يستخدم أدوات بسيطة، إبرة حادة لتعبئة الغاز، ومفك صغير لتثبيت العجلة. وبينما يتحدث، يأتي رجل خمسيني يحمل ثلاث ولاعات قديمة. يقول له: «إحنا بنعيش على ولاعتك.. ما تبطّلش شغل يا بلال».
يبتسم بلال ويقول: «الناس وجدت في مهنتي متنفسًا، وأنا وجدت فيها حياة».
ابتكارات ولدت من تحت الأنقاض
مهن مثل تصليح النقود والولاعات، لم تكن سوى انعكاس لواقع جديد تشكّل من رحم الحاجة.
في ظل انعدام المواد، وانقطاع السلع، وتوقف الدخل، بات لزامًا على الناس أن تبتكر. أن تعيد الحياة لما كان يُرمى، أن تصنع من الخردة فرصة.
يقول أبو مهادي، تاجر بسيط في السوق لـ«عُمان»: «أنا أحيانًا أرفض أخذ ورقة مشوهة، لكن لما أعرف أنها مرقعة على يد تامر، أقبلها بثقة. عارف إنها صارت تُشبه الأصل».
أما الولاعات، فقد أصبحت، كما يصفها، «ضروريات يومية لا يمكن الاستغناء عنها، مثل الخبز والماء».
حين تصبح الحاجة أم الاختراع
الأمر لا يقتصر على السوق فقط، بل تعداه إلى البيوت، حيث بدأ بعض الأطفال بتعلّم تقنيات بسيطة في إصلاح الأدوات، وحتى نساء اخترعن طرقًا لترقيع الملابس والأحذية بمواد غير تقليدية. الكل يبتكر في غزة.
في حي الشجاعية شرق غزة، لجأ بعض السكان إلى استخدام ألواح معدنية ممزقة لإنشاء أسقف بديلة بعد أن تهدمت منازلهم. وفي بيت عائلة خليل، وضع الأب بابًا محروقًا مكان نافذة، وثبّت زجاجًا مكسورًا بلاصق طبي بعد أن عجز عن شراء زجاج جديد. أما أم محمود، فقد حوّلت تنكة زيت فارغة إلى مدفأة صغيرة تطهو عليها لأولادها وتدفئ بها الغرفة الوحيدة المتبقية من منزلها.
اقتصاد الطوارئ
الخبير الاقتصادي محمود صبرة، يرى في هذه الظواهر «أشكالًا من اقتصاد الطوارئ». ويقول: «حين تتعطل الدورة الاقتصادية الرسمية، يظهر اقتصاد موازٍ، لا يقل أهمية. بل هو في بعض الأحيان، أكثر استدامة، لأنه يقوم على الابتكار الذاتي وتدوير الموارد».
ويضيف لـ«عُمان»: «إصلاح ورقة نقدية، أو إصلاح ولاعة تالفة، يبدو فعلاً بسيطًا، لكنه في السياق الغزي، هو تعبير عن مقاومة الاندثار، عن الرغبة في الحياة رغم كل شيء».
نظرة ماهر
ويوافقه الرأي الخبير ماهر الطبّاع، مدير العلاقات العامة والإعلام بغرفة تجارة غزة، الذي يرى أن هذه المهن قد تشكّل نواة لاقتصاد بديل.
يقول لـ«عُمان»: «نحن نشهد اقتصادًا ظلّيًا فرضته الحرب، حيث يُجبر الناس على خلق وسائل جديدة للعيش. هذه المهن تُعيد توزيع الأدوار، وتمنح من فقدوا وظائفهم فرصة للاندماج من جديد».
يشير الطبّاع إلى أن الغلاء الفاحش وندرة السيولة جعلا الناس أكثر قبولًا لفكرة الإصلاح وإعادة الاستخدام: «لم تعد هناك رفاهية التبديل، بل أصبحت الحاجة أقوى من الرغبة. وهنا يظهر الإبداع الحقيقي».
درس في البقاء والصمود
في نهاية السوق، يلتقط تامر ورقة نقدية أخرى، ممزقة من الطرفين، باهتة اللون. يضعها على الطاولة كأنها جريح جديد، يتأملها طويلًا، ثم يهمس: «كل ورقة بحكاية.. مثل الناس. فيهم اللي احترق، فيهم اللي اتشرّد، بس كلهم بيستنوا حد يمدّ إيده، يُرممهم، يرجّع لهم نبض الحياة».
وهكذا، في غزة المُنهكة، التي تئنّ تحت ركامها، لا تزال الأرواح تبحث عن نور. تُخلق المهن من العدم، ويُبعث الأمل من رماد المعاناة. لا يُصلح الغزيون ولّاعات ونقودًا وبيوتًا فقط، بل يُعيدون ترميم ذواتهم وكرامتهم، التي يحاول الاحتلال انتهاكها.
هنا، لا تُقاس الحياة بعدد الأيام، بل بعدد المحاولات للبقاء. البقاء ليس مجرد قدر، بل حرفة يتقنها أهل غزة. وفي كل زاوية، في كل يد تمسك بورقة أو ولّاعة أو باب مخلوع، ثمة رسالة خفيّة تقول: «لن نموت بصمت... سنُقاوم، حتى بورقٍ مُهترئ وشعلةٍ صغيرة».