عبدالله بن بجاد العتيبي*

تقديس الشيء: جعله مقدساً بعد أن لم يكن، وفي تواريخ الأمم والشعوب مقدسات كثيرة، بعضها في أصل الديانة، وبعضها من صنع التاريخ والسياسة والمؤسسات الدينية، رغبة في سلطة دينية، أو نشراً للخرافات بأسباب متعددة وأنماط متباينة، تختلف باختلاف الزمان والمكان والحال.

التراث الإسلامي مترعٌ حدّ الثمالة من ظاهرة التقديس التي جاء الإسلام نفسه للقضاء عليها: تقديس الأشخاص، وتقديس الأفكار، وتقديس الأشياء.

ويتفرع عن هذه الثلاثة كثيرٌ من المقدسات الزائفة التي أضرت بالإسلام بوصفه ديناً سماوياً كريماً، وأضرت بالأمة والدولة والبشر، وكأي ظاهرة كبرى فقد كانت لظاهرة التقديس مسبباتٌ، ولناشريها غاياتٌ، ولا تختلف المسببات إلا بقدر ما تفترق الغايات، لا في النهج والهدف وإنما في التجليات والأسماء والأفكار.

أخبار قد تهمك استدامة الرأي 23 ديسمبر 2023 - 12:41 مساءً ساحة الإرادة بلا إرادة!.. 25 أكتوبر 2023 - 9:18 صباحًا

ومن العجائب أن من حاربوا التقديس في تراثنا قد ابتُلوا بمن يقدسهم بعد وفاتهم، فأحمد بن حنبل الفقيه المعروف، كان يرفض التقديس، ثم وجد في بعض من جاءوا بعده مَن يقدسه. والفقيه ابن تيمية حارب التقديس ورفضه، ورد على بعض ناشريه، ثم ابتُلي بمن يقدسه ويقدس أقواله وأفكاره. وبعض من جاء بعدهما من أتباعهما حارب التقديس، فجاءت بعده مؤسسات تقدسه وترفض نقده، وربما ترفض ذكره بالاسم في غير سياق المديح والتبجيل والتقديس.

تقديس من يحارب التقديس ارتكاسٌ في الفكر، ورِدّة في الدين، وقد جاء في الحديث النبوي الشريف: «اللهم إني أعوذ بك من الحَور بعد الكَور» وفي القرآن الكريم: «ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً»، وتقديس من يحارب التقديس طوال عمره ظاهرة جديرة بالدرس ضمن ظاهرة التقديس العامة، فهو تقديس داخل التقديس، فهو مبحثٌ دقيقٌ لأنه يحوي تناقضاً صارخاً.

مؤسسات المصالح التي ترتبط بالرموز الرافضة للتقديس وبفكرهم، هي التي تعيد تقديسهم وترفض نقدهم، وتحول دون أي إعادة قراءة لتاريخهم وسيرتهم وتأثيرهم، وهي مصالح مرتبطة بمناصب وسلطة دينية وبأموالٍ طائلة، وحين تمتدّ هذه المصالح لقرونٍ من الزمن ثم تلتقي بحركاتٍ وتنظيماتٍ دينية سياسية ذات طموحاتٍ سلطوية، يصبح من شبه المستحيل إجراء نقدٍ فعّالٍ للتخلص من هذا التقديس، ويتمّ التحايل لمنع ذلك النقد، ويتم استخدام السلطة الدينية والمناصب والنفوذ لمنع أي قراءة نقدية أو تحليل فكري أو تمحيص علميٍ.

السيرة النبوية والفتنة الكبرى، كُتبت عنها عشرات الكتب قديماً وحديثاً، وتمّ تناولها بمناهج تاريخية وأدبية حديثة، فكتب فيها في عصر النهضة العربية طه حسين والعقّاد، وغيرهما كثير، وكتب عنها المفكرون المعاصرون، من أمثال: محمد عابد الجابري، وعبد الله العروي، وهشام جعيط، وغيرهم كثير أيضاً، ومع الإقرار بأن لا أحد من المسلمين يصل لمقام النبوة في القداسة، ولا لمكانة الصحابة في الدين، فإنه في بعض لحظات الانحطاط في التراث الإسلامي، يصبح تناول بعض الفقهاء أو «الأحبار» بقراءة نقدية وفق مناهج حديثة، وتحليلٍ علمي دقيقٍ، وطرح أسئلة مُلحّة ومنطقية، مهمة شاقة لا تجد طريقها للنشر، بحكم قوة بعض المؤسسات الدينية المهيمنة.

شهد التراث الإسلامي تقديس الأشخاص على مستوياتٍ، فشهد تقديس الحكّام والخلفاء والملوك، ومن ذلك ما نُقل عن الحجاج بن يوسف أنه قال: «رسول أحدكم في حاجته أكرم عليه أم خليفته في أهله؟» وقد علّق على هذا المؤرخ ابن كثير فقال: «فإن صح هذا عنه فظاهره كفرٌ، إن أراد تفضيل منصب الخلافة على الرسالة».

كما شهد تقديس الفقهاء، وموقف الإسلام من ظاهرة التقديس ظاهرٌ في رفضها جملة وتفصيلاً، وتحديداً رفض تقديس رجال الدين، وقد جاء في القرآن الكريم عن بني إسرائيل قوله تعالى: «اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله»، وهذه ظاهرة إنسانية وُجدت في بني إسرائيل، ووُجد مثلها في التاريخ الإسلامي وفي الحديث الشريف: «لتتبعن سنن من قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه».

وقد قدّس الناس بعض الفقهاء والأولياء في التراث الإسلامي، ومن ذلك قول الفقيه الحنبلي ابن تيمية: «فمن جعل شخصاً من الأشخاص غير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أحبه ووافقه كان من أهل السنة والجماعة، ومن خالفه كان من أهل البدعة والفرقة… كان من أهل البدع والضلال والتفرق». والعجيب في هذا السياق هو أن يصبح ابن تيمية نفسه محلاً لهذا التقديس الذي كان يرفضه ويحذر منه.

«فتنة القرّاء»، أو فتنة «ابن الأشعث»، وفتنة «النفس الزكية»، وفتنة «ابن الصبّاح» قائد «الحشاشين»، وفتنة «الإخوان المسلمين»، وفتنة «القاعدة»، و«داعش»، هي جميعاً فتنٌ وثوراتٌ قادها رجال دينٍ ودعاة، بعضهم أراد الإصلاح والصلاح، وبعضهم أراد السلطة والسياسة، وهي خطيرة في وقتها، وأكثر خطراً في آثارها، وقد غيّرت وبدّلت في التاريخ والسياسة إلى اليوم، فبعض قضايا الهوية والفكر أبلغ أثراً وأطول تأثيراً من أحداثٍ سياسية آنية، وإن كانت دموية وعنيفة.

من يقرأ تاريخ الأمم والشعوب يعرف خطورة بعض المؤسسات والتنظيمات والتيارات في التأثير على توجهات الدول ورؤى القادة، تأويلاً وتحريفاً وتزويراً، لا معارضة صريحة ورفضاً قاطعاً، حدث هذا ويحدث في شرق الأرض وغربها، وهي ظواهر معروفة تاريخياً، ومدروسة في علم الاجتماع وعلم الاجتماع السياسي، وبخاصة حين تتحرك تلك المؤسسات والتيارات عبر المناصب والمصالح والتحالفات، وتستفيد من مناطق الفراغ لتنطلق منها وتتحرك فيها، ويزيد الطين بلة حين تلتقي الآيديولوجيا بالجهل، ويتخادمان على تعتيم الحقائق ورفض البحوث العلمية والطروحات النقدية، فتوأد الأسئلة المستحقة، ويُنشر الانحراف على نطاقٍ واسعٍ ليغرق الحقائق، ويخلط عن وعي بين المعاني والأحداث وبين الأسماء والأفكار.

حين يصبح «التنوير» تهمة، و«الثقافة» أشكالاً زاهية لا أفكاراً لامعة، و«الفلسفة» علم كلامٍ، و«النقد» مجرد أداة لغوية للفذلكة لا للوعي، فإن ترقّي الأمم والشعوب في مدارج المعرفة ومعارج الكمال يصير غاية بعيدة المنال، وهدفاً عسير التحقق.

أخيراً، فإن التأمل في التاريخ والسياسة تاريخياً وفلسفياً ونظرياً حق مشاعٌ ومهمة جُلّى، ولكن التحدي الحقيقي هو في تطبيق ذلك كله على الواقع، زماناً ومكاناً وحالاً، وطرح الأمثلة والأسماء والأحداث والتواريخ، وربط القديم بالحديث، والمقدمات بالنتائج.

*كاتب سعودي
نقلاً عن: aawsat.com

المصدر: صحيفة المناطق السعودية

كلمات دلالية: مقال مقالات التراث الإسلامی فی التاریخ

إقرأ أيضاً:

المركز المسيحي الإسلامي ينظم تدريباً لبناء السلام وحل النزاعات في المنيا

نظم المركز المسيحي الإسلامي للتفاهم والشراكة التابع لأبروشية الكنيسة الأسقفية، بالشراكة مع بيت العائلة المصرية ومؤسسة مصر الخير، مؤتمراً تدريبياً حول بناء السلام وحل النزاعات للقرى المهمشة في المنيا.

و تأتي هذه المبادرة كجزء من مشروع طويل الأمد يهدف إلى تمكين سكان قرى ومدن المنيا من تعزيز الوحدة الوطنية وقيم التسامح، والمواطنة الشاملة، والتعايش السلمي في مجتمعاتهم، وذلك بحضور رئيس الأساقفة الدكتور منير حنا مدير المركز.

مفهوم المواطنة الشاملة

شملت الجلسات التدريبية مواضيع جوهرية، من بينها دراسة النصوص المسيحية والإسلامية وتعاليمها حول بناء السلام.

 كما تناول المشاركون مفهوم المواطنة الشاملة كما ورد في وثيقة الأخوة الإنسانية، وهي إعلان مشترك تاريخي وُقّع في ٤ فبراير ٢٠١٩ من قبل البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، وشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب. تدعو الوثيقة إلى تعزيز قيم الرحمة الإنسانية، والتضامن، ونشر ثقافة الاحترام المتبادل بين اتباع الأديان المختلفة.

كما تضمنت التدريبات مناقشات حول الأسباب الجذرية للنزاعات، والعوامل التي تعيق حل النزاعات، والتبعات السلبية لفشل حل النزاعات بطرق عادلة وسلمية. وشملت الجلسات أيضاً تدريبات حول مهارات التواصل الفعّال، ومفهوم الوساطة وآليات تطبيقها بشكل احترافي، والنهج المختلفة لتحقيق سلام عادل، شامل ومستدام.

ومن المقرر بعد انتهاء التدريب، أن يعمل المتدربون بالتعاون مع المركز المسيحي الإسلامي وشركائه على تنفيذ مبادرات لبناء السلام داخل المجتمعات الأكثر تضرراً في المنيا، حرصاً من المتدربين على اتخاذ خطوات استباقية لصنع السلام.و يمثل هذا المشروع جهداً مشتركاً طويل الامد بين بيت العائلة المصرية ومؤسسة مصر الخير، تأكيداً على الالتزام الجماعي بتعزيز الوئام والتعاون داخل المجتمع المصري.

اليوم الأول من زيارة الأنبا باسيليوس الرعوية لكنيسة السيدة العذراء بنزلة غطاس70 عاما من الخدمة.. الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تحتفل بذكرى نياحة هوشع النبيالطائفة الإنجيلية تناقش تحديات الكنيسة ودورها في المجتمعرئيس أساقفة الكنيسة الأسقفية يعطي ترخيصا لخادم علماني بكنيسة منوف| صور

حضر التدريب اعضاء بيت العائلة المصرية بالمنيا برئاسة الأنبا فيلوباتير مطران مركز أبو قرقاص، وإبراهيم فرج مدير مكتب مصر الخير بالمنيا، ومرشحين من مؤسسة مصر الخير بالمنيا، كما حضر الشيخ الدكتور أبو زيد الأمير، منسق بيت العائلة المصرية، بالاضافة الى فريق عمل المركز المسيحي الإسلامي للتفاهم والشراكة.

مقالات مشابهة

  • التعاون الإسلامي تعقد اجتماعًا وزاريًا طارئًا لبحث التطورات في فلسطين
  • منظمة التعاون الإسلامي تعقد غدًا اجتماعًا وزاريًا استثنائيًّا لبحث التطورات في فلسطين
  • الجهاد الإسلامي تعقب على استشهاد الأسير علي البطش
  • حوار الفكر الروحي- تأملات في تاريخ التصوف وتطوره
  • العنصرية.. ظاهرة تاريـخية مـركَّـبَـة
  • المركز المسيحي الإسلامي ينظم تدريباً لبناء السلام وحل النزاعات في المنيا
  • مصر تطلب من منظمة التعاون الإسلامي اعتماد خطة غزة في قمة جدّة
  • القمة الطارئة في القاهرة تقر "خطة عربية" شاملة لإدارة غزة وترسم مسارًا جديدًا للأمن والسياسة
  • منظمة المؤتمر الإسلامي تؤكد دعم فلسطين وتطالب بإنهاء الاحتلال
  • الذكاء الاصطناعي والسياسة.. عندما يُسيطر أحدهما على الآخر؟