الأمة وغزة: من الانفعال الموسمي إلى العمل المنهجي
تاريخ النشر: 25th, February 2024 GMT
مَثَّل الإنجاز الكبير الذي حققته معركة "طوفان الأقصى"، حالة إلهام غير مسبوقة للأمة العربية والإسلامية بإمكانية هزيمة المشروع الصهيوني وإنهاء الاحتلال.
كان انفعال الشعوب العربية والإسلامية هائلًا؛ فقد تعززت القناعات بخط المقاومة وبالمشروع الإسلامي لفلسطين، وتأكّدت مركزية القدس في قلب الأمة كجامعة موحّدة لشعوبها وتياراتها وأعراقها، وكموجِّهة لبوصلتها نحو عدوها المشترك (العدو الصهيوني) المعادي لنهضتها ووحدتها، وكرافعة لمن يرفع شأنها ويعمل لأجلها، وخافضة فاضحة لمن يُقصِّر في حقها ويتعامل مع عدوها.
وضربت هذه المعركة مشروع التطبيع، وأثبتت أنه لا يمكن تجاوز شعب فلسطين، ولا يمكن تهميش قضية فلسطين، ولا إغلاق ملفها حسب الرؤية الصهيونية.
استحقاقات المعركة والمرحلةثمة إجماع على أن ما بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول (يوم انطلاقة المعركة) ليس كما قبلها، وأنه حدث تاريخي مفصلي غير مسبوق. حتى العدو الإسرائيلي نفسه أدرك مغزى المعركة التي حطّمت نظريته الأمنية، وضربت دوره الوظيفي والأساس الذي قام عليه وجوده كـ"ملاذ آمن" لليهود الصهاينة، وكقلعة متقدمة للإمبريالية الغربية وكشرطي للمنطقة.
ولذلك، تحدث قادته عن "حرب الاستقلال الثانية"، وقاموا بحملة هستيرية وحشية دموية على قطاع غزة؛ لاستعادة بعض هيبتهم، واستعادة الثقة بمبرر وجودهم ودورهم الوظيفي في المنطقة.
لقد أدت معركة "طوفان الأقصى" إلى تعطيل المشروع الأميركي الصهيوني في الهيمنة على المنطقة، وسحق وتذويب هُويتها وتراثها ومشروعها الحضاري؛ وأعطت فرصة للقوى النهضوية في المنطقة لتسلُّم زمام المبادرة واستعادة عافية الأمة ودورها.
وعلى هذا الأساس نفهم وجود تحالف عالمي غربي بقيادة الولايات المتحدة يساند الصهاينة في عدوانهم على غزة؛ لا يريد الاكتفاء بإخضاع قطاع غزة، وإنما سيتابع السير حثيثًا بعد ذلك لـ"ترويض" الأمة واقتلاع روح الجهاد من نفوسها، ومحاربة التيارات الإسلامية والوطنية الصادقة، وإفساد مجتمعاتها، وإدخال المنطقة في العصر الإسرائيلي – الأميركي.
ولذلك، أيًا تكن نتيجة الحرب على غزة، فإن الأمة قد وجدت نفسها مدفوعة دفعًا لتحمّل مسؤولياتها، بعد أن فرضت المعركة الاستحقاقات عليها، فلو صمدت غزة وانتصرت، فتلك بشائر النصر والعد العكسي للمشروع الصهيوني (كما قال وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت؛ إنه إذا لم يُفكّك الجيش قدرات حماس بشكل كامل، "فلن نتمكن من العيش في إسرائيل").
وبالتالي يأتي استحقاق مشاركة الأمة في مشروع التحرير؛ وإذا ما سيطر الصهاينة على القطاع، فإن استهداف الأمة وتياراتها الإسلامية والوطنية والنهضوية سيكون محطتها التالية، وبالتالي يأتي استحقاق مواجهة الاستهداف. أي أن دور الأمة الجوهري سيكون استحقاقًا مفروضًا، أحبت قوى الإصلاح والتغيير ذلك أم كرهت.
وهذا يذكرنا بقوله سبحانه: "وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم، ويريد الله أن يُحِقّ الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين" سورة الأنفال: 7.
ولذلك، لم يعد يجدي الانفعال الموسمي العاطفي، إذ إن فرض العين في مواجهة العدو الصهيوني أصبح ضرورة مُلحَّة وواجبًا مستحقًا وأولوية كبرى.
نحو عمل منهجي مستمرإن أحد أبرز التحديات التي تواجه الأمة هي كيفية تحقيق حالة التفاعل المنهجي المستمرّ والمتصاعد، بما يتناسب مع عظمة التَّحدي بخطورة المعركة.
فقد اعتدنا منذ عشرات السنوات على التفاعل الآني مع الحدث، وبحسب مدى سخونته وخسائر العدو والمجازر والشهداء والدمار تكون درجة التفاعل، وهو سرعان ما يخبو مع توقف الحدث أو اتخاذه نسقًا مستمرًا معتادًا "رتيبًا". إذ تضعف تدريجيًا المظاهرات والفعاليات وحملات جمع التبرعات وحملات المقاطعة… إلى أن تتوقف.
وربما كان ذلك طبيعة بشرية، خصوصًا مع وجود أنظمة عربية وإسلامية فاسدة ومستبدّة، يهمّها صرف انتباه جماهيرها عن هكذا معارك وانتفاضات وأحداث؛ لأنّها تكشف وتفضح عورات هذه الأنظمة وضعفها وخذلانها وتقصيرها، وتكون عنصر تثوير للشعوب ضدّ أنظمتها العاجزة أو المتواطئة.
وفي المقابل، فإن الكيان الصهيوني وحلفاءه يعملون بشكل منهجي متواصل، وضمن رؤية محددة تلقى دعمًا غربيًا عالميًا لإغلاق الملف الفلسطيني، وإفراغ انتصارات المقاومة ومنجزاتها من محتواها، وتشويه نماذج البطولة والتضحية، وتحميل المقاومة مسؤولية معاناة الشعب وظروف القهر والدمار تحت الاحتلال؛ مع المراهنة على ضعف ذاكرة الشعوب، والمراهنة على "منظومات التّفاهة" السائدة في عالمنا العربي والإسلامي.
لقد تكررت ظاهرة "الموسمية" والتعوُّد في وسط الأمة على مدى عشرات السنوات، فقد حدث ذلك في الانتفاضة المباركة 1987-1993، وفي انتفاضة الأقصى 2000-2005، وتكرر ذلك بعد حروب غزة الأربعة 2008-2009، و2012، و2014، و2021.
وعلى سبيل المثال، فقد كانت حملات مقاطعة البضائع الأميركية هائلة وعظيمة النجاح في انتفاضة الأقصى، لكن سرعان ما عاد الناس إلى عاداتهم الاستهلاكية القديمة. وكذلك، كان التفاعل العربي والإسلامي والعالمي هائلًا مع معركة "سيف القدس" 2021، وكسب الفلسطينيون المعركة الإعلامية بشكل ساحق في أوروبا وأميركا، وتراجعت نسبة التأييد للكيان الإسرائيلي إلى نسبٍ غير مسبوقة.
غير أن الجانب الإسرائيلي عاد بعد المعركة لتسويق نفسه عالميًا ولاستئناف التطبيع، وقام بإجراءات أشد خطورة في القدس والأقصى من تلك الأسباب التي أدّت للمعركة؛ وهو ما كان سببًا رئيسيًا لمعركة "طوفان الأقصى".
وإذا كان ثمة إجماع على أن معركة "طوفان الأقصى" كانت حدثًا مفصليًا غير مسبوق في التاريخ الفلسطيني، فإن طول أمد المعركة، والخشية من "التعوّد" والرجوع للحياة السابقة المعتادة يبقى أمرًا قوي الاحتمال لقطاعات كبيرة من الناس.
وتكمن خطورة ذلك في تراجع مظاهر الدعم الشعبي والرسمي المالي والتعبوي والإعلامي والسياسي، وتراجع مجرد متابعة أخبار المعركة ومجازر الاحتلال، وتراجع الأجواء الشعبية الضاغطة على الاحتلال؛ في الوقت الذي يتابع عدوانه مع حلفائه بوتيرة عالية مستمرة، وبمنهجية منظمة مُهدَّفة؛ سعيًا للاستفراد بالمقاومة وضربها.
وعلى سبيل المثال، فإن شهداء معركة "سيف القدس" طيلة أيامها كان 260 شهيدًا، بينما زادت وتيرة الاستشهاد اليومي في "طوفان الأقصى" في بعض الفترات عن 700 أو 800 شهيد.
وفي الوقت الذي هدأت فيه معظم الفعاليات المساندة للمعركة في عالمنا العربي والإسلامي، وتراجعت التبرعات المالية وحملات التعبئة، ما زال يستشهد كل يومٍ نحو مائة شهيد في قطاع غزة، وما زال أهل غزة وخصوصًا شمالها، يتعرضون لمجاعة غير مسبوقة، وما زالت منطقة رفح حيث يتكدس نحو مليون و400 ألف فلسطيني معرضين في أي لحظة لمجازر بشعة، وحملة تهجير قسري دموي خارج القطاع.
وثمة إدراك خاطئ لفكرة "القيام بالواجب" أو "الاستطاعة"، إذ ينتشر بين الكثيرين في عالمنا أن مجرد الدعاء أو الخروج في مظاهرة في أحد الأيام أو التبرع بمبلغ محدد في وقت ما، هو الواجب المطلوب وفيه الكفاية، وأنه "عمل اللي عليه"!!.
بينما يرى العلماء أن مفهوم الاستطاعة "وأعدوا لهم ما استطعتم"، ومفهوم بذل الوسع "لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها"؛ يقتضي في حال فرض العين (المطلوب من كل مسلم في حالة فلسطين) استنفاد الجهد وكافة الإمكانات بشكل مستمر إلى أن يتم النصر والتحرير، وأننا سنحاسب على كل شيء كنا نستطيع عمله ولم نعمله.
إن حالة التراخي والتّعود تذكرنا بتحذير الخليفة الراشد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – الذي كان يستعيذ بالله من "جلد الفاجر وعجز الثقة".
رفع السقففي بيئات أمتنا، يصعب ترجمة فكرة "تحمل المسؤولية" تجاه فلسطين، خصوصًا أن المقاومة في فلسطين قطعت شوطًا كبيرًا في مسار "ذات الشوكة" أو المقاومة المسلحة، بينما تركن بيئاتنا العربية والإسلامية إلى "غير ذات الشوكة".
ولم تُكيّف التيارات الإسلامية والقومية والوطنية نفسها على ذلك أيضًا، وأصبح سقف مشاركة معظمها لا يتعدى العمل السياسي الاحتجاجي والعمل الخيري والتعبوي، والتحرك السلمي الناعم، الذي يسهل ضبطه وقمعه من الأنظمة.
بينما يستطيع المشروع الصهيوني أن يجند تحالفات عالمية لنصرته عسكريًا وأمنيًا، كما يستطيع استجلاب المتطوعين الصهاينة وحتى المرتزِقة من كل أماكن العالم.
ولذلك، فإن نداءات المقاومة الفلسطينية لهذه الحركات بالانخراط في معركة التحرير لا تجد أرضية صلبة للاستجابة والانطلاق بشكل فعَّال؛ خصوصًا بعد أن جرى ضرب هذه الحركات وتهميشها ومطاردة ناشطيها خلال الموجة المضادة لـ"الربيع العربي".
ولم يبقَ سوى المشاركة ضمن "قواعد اشتباك" مُحدَّدة لـ"محور المقاومة" المدعوم من إيران، نظرًا لنفوذه القوي أو سيطرته في عدد من الدول كلبنان والعراق واليمن.
وكانت مشاركة كتائب "القسام" وقوات "الفجر" التابعة للجماعة الإسلامية، في لبنان حالة مُعبّرة، ولكن محدودة التأثير، قياسًا بالدور المأمول.
ليس المطلوب بالضرورة أن تتحول الحركات والتيارات إلى العمل المسلح مباشرة، فلكل بلد ظروفه وأولوياته وقدراته وإمكاناته؛ غير أن هذا لا يمنع من محاولة رفع السقف، خصوصًا في البيئة الإستراتيجية المحيطة بفلسطين، بما يتناسب مع خطورة المشروع الصهيوني على المنطقة وضرورة مواجهته؛ ولا يمنع من نشر ثقافة الجهاد والتضحية وتجهيز النفس للجهاد، ففي الحديث الصحيح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه "من مات ولم يغزُ ولم يُحدِّث نفسه بالغَزْو مات على شعبة من النفاق"؛ كما لا يمنع من المشاركة حيثما أمكن للقادرين بالوسائل المتاحة.
من القُطرية إلى الأمةتظل عقلية الدولة القُطْرية والانكفاء المحلي، وما أحدثته من أثر سلبي تجاه القضايا الكبرى للأمة، إحدى أكبر العوائق في نصرة فلسطين بالشكل الصحيح. ولذلك تضطرب المفاهيم الإسلامية، والمعاني المرتبطة بهُوية الأمة، وفقه الأولويات، وفقه المصلحة، وفقه النوازل؛ عندما تُصبح المحددات القُطرية المحلية متقدمة على القضايا الكبرى.
وتَحدُث ضبابية وفقدان بوصلة في كيفية تنزيل الرؤية الإسلامية (أو حتى الرؤية القومية) على بيئات غارقة في حساباتها وأولوياتها القُطرية.
والخطير في الأمر، أن المنكفئين على حساباتهم المحلية الداخلية، لا يدركون أو لا يريدون أن يدركوا أن المشروع الصهيوني لا يستهدف الفلسطينيين وحدهم، وإنما يستهدفهم جميعًا، وهو ما ثبت طوال 76 عامًا من قيام "إسرائيل"، إذ لا نهضة ولا وحدة ولا قوة للمنطقة ما دام هذا الكيان قائمًا، لأن شرط بقائه مرتبط بضعف ما حوله، وشرط نهضة ما حوله (خصوصًا البيئة الإستراتيجية) مرتبط بإزالته.
ولأن فلسطين لن تحرر من داخلها، بالرغم من الدور الجوهري والمحوري لشعب فلسطين في الداخل في الصمود والمقاومة ومشاغلة العدو، فلا بدّ من الانتقال من القُطرية إلى الأمة في مشروع التحرير؛ ولا بدّ من مشروع نهضوي وحدوي موازٍ ومتكامل مع المقاومة الفلسطينية، يستجمع عناصر القوة ويرتقي إلى مستوى التحدي مع المشروع الصهيوني الغربي.
وإذا كان المشروع الصهيوني يستهدف الأمة، فلا بدّ أن تكون الاستجابة على مستوى الأمة؛ وإذا كان المشروع الصهيوني عالميًا فلا يمكن أن يكون مشروع التحرير قُطريًا، ومن بيئة تعيش تحت الاحتلال. ولذلك، يصبح الانتقال من القُطرية إلى الأمة شرطًا من شروط التحرير.
وأخيرًا؛ فليس السؤال المتعلق بتأثير "طوفان الأقصى" على الأمة مرتبطًا فقط بالزلزال الذي أحدثه في ذلك اليوم، ليتحول إلى ذكرى جميلة وأثرٍ عابر؛ وإنما بثلاثة مستويات أساسيّة؛ أولها مدى عمقه وتأثيرِه في الوجدان، وثانيها مدى اتساع أثره في الأوساط الشعبية والجماهيرية وقطاعاتها المختلفة، وثالثها مدى تحوُّله إلى حالة مستمرة مستدامة في منظومات البناء النفسي والفكري، والممارسات الحياتية، والمنظومات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية… وغيرها.
وهنا لا بدّ من "مأسسة التأثير"، وتحويله إلى ثقافة وتربية ومنهج حياة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: المشروع الصهیونی طوفان الأقصى خصوص ا
إقرأ أيضاً:
ما الذي يمكن أن تغيره انتصارات سوريا وغزة في المشهد المصري؟
في 8 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، نجحت المعارضة السورية في الإطاحة بحكم بشار الأسد الذي فر إلى روسيا، وتولى رئيس هيئة تحرير الشام أحمد الشرع الإدارة الجديدة، التي لاقت اعترافا دوليا وتلقت اتصالات واستقبلت وفودا من أغلب دول العالم، وبينها السعودية والإمارات ومصر على مضض.
كما أنه بعد نحو 470 يوما من حرب الإبادة الدموية الإسرائيلية على قطاع غزة، فقد نجحت المقاومة الفلسطينية في فرض هدنة بوساطة دولية على الكيان المحتل، تبدأ الأحد، في تطور اعتبره مراقبون خضوعا من "تل أبيب" وانتصارا للمقاومة، وهزيمة لمحور التطبيع العربي.
وهو ما عبر عنه الكاتب الصحفي وائل قنديل في مقال له، بعنوان "انتصار غزّة... هزيمة العرب"، مؤكدا أن انتصارها حال "دون سقوط ضحايا جدد في بئر التطبيع"، وأعاد "إعمار الروح العربية".
سياسيون ومعارضون ونشطاء مصريون تحدثوا لـ"عربي21" عن ما يمكن أن تغيره انتصارات سوريا وغزة بالمشهد المصري، واحتمالات أن يغار النشطاء والمعارضون المصريون مما حققته معارضة سوريا، وما تلا نجاحها من خضوع الإمارات والسعودية ومصر للأمر الواقع.
وأشاروا إلى تأثير الظروف الإقليمية والدولية على الحالة المصرية ومدى قبول العالم لمصر ولرئيس نظامها عبدالفتاح السيسي بما قبله لبشار الأسد وسوريا، مشيرين إلى معوقات تكرار المعارضة المصرية انتصارات سوريا وغزة.
ورصدت منظمة "هيومن رايتس ووتش" في تقريرها السنوي، انتهاكات النظام المصري في حقوق الإنسان، مؤكدة أن حكومة السيسي دخلت عقدها الثاني في السلطة وسط مواصلة سياسة القمع الشامل، باعتقال ومعاقبة المنتقدين والنشطاء السلميين بشكل ممنهج، وتجريم المعارضة السلمية.
"أضعف من الأسد والكيان"
وفي تقديره لما يمكن أن تغيره انتصارات سوريا وغزة بالمشهد المصري، قال السياسي المصري أحمد عبد العزيز، إن "انتصار الثورة السورية، بإزاحة جزار الشام الطائفي بشار الأسد، وانتصار المقاومة الفلسطينية على عدد من القوى العظمى بالعالم، وإرغام العدو الصهيوني على الخروج من غزة بشروط المقاومة، حدثان عظيمان فارقان".
المستشار الإعلامي للرئيس الراحل محمد مرسي، أضاف لـ"عربي21" أن ما حصل في سوريا وغزة "جاء بعد إحباطات وانكسارات متتالية دامت لأكثر من عقد؛ إذ رفعَ الحدثان كثيرا من معنويات المصريين، وأحيَيَا بنفوسهم الأمل بإمكانية الخلاص من سلطة الانقلاب على الرئيس الشرعي المنتخب الدكتور مرسي، فلا نظام السيسي أقوى من الأسد الذي أخضع السوريين 60 عاما، ولا أقوى من الكيان الصهيوني وداعميه مجتمعين".
وتابع: "قطعا يغار المصريون من أشقائهم السوريين، وأرجو أن يستفيد مناهضو الانقلاب في مصر من تجربة الثورة في سوريا، مع الإدراك الكامل لاختلاف البيئتين، السورية والمصرية، في كثير من الأمور الجوهرية؛ من حيث الجغرافيا، والطبوغرافيا، والتركيبة الاجتماعية، وإمكانية العمل المسلح من عدمه... إلخ".
وفي تقديره لما يمنع المعارضة المصرية من تكرار انتصارات سوريا وغزة، قال: "إذا بقي مناهضو الانقلاب في مصر يصرون على وصف أنفسهم بـ(المعارضة) فلا يمكنهم أن يحذوا حذو الأشقاء السوريين والغزيين".
وأوضح أن "المعارض لا يجوز له الخروج على النظام الذي يعارضه؛ لأن المعارضة هي الوجه الآخر للنظام الذي يتطلع للوصول إلى السلطة عبر الوسائل الدستورية".
وواصل: "أما (الثائر) فهو لا يعترف بالنظام القائم، وإنما يسعى، بكل الوسائل الممكنة لإسقاطه؛ لأن هذا النظام (في نظر الثائر) أخل ببنود العقد الاجتماعي الذي ينظم العلاقة بين السلطة والمجتمع، ومن ثم فهو نظام خارج على الدستور والقانون، أي فاقد للشرعية".
وفي نهاية حديثه، يعتقد أن "واجب الوقت على المعارضة المصرية الآن، أن تتخلى عن وصف (المعارضة)، وتنتهج مسار الثورة".
"عواصف تغيير وجب استغلالها"
وفي قراءته، قال الباحث السياسي يحيى سعد: "بلا شك سيكون لما حدث بغزة وسوريا انعاكسات وارتدادات على المنطقة كلها"، مضيفا لـ"عربي21" أن "سنة التدافع سنة كونية فضلا عن كونها سنة إلهية حتى لا تفسد الأرض".
وأضاف: "كما أن الأحداث الكبرى في التاريخ تؤثر بوجدان الشعوب وتغير من قناعاتها وميولها وثقافتها"، مؤكدا أن "الثورات فعل اجتماعي يرتبط طرديا بدوافع اجتماعية واقتصادية وسياسية، كما أن الشعوب تراقب التجارب المجاورة وتتعلم منها".
ولفت إلى أن "ما حدث في 2011 يصدق على تلك النظرية؛ حيث انتقلت شرارة التغيير التي انطلقت في تونس إلى أقطار أخرى كمصر وليبيا واليمن وسوريا".
وأكد أن "الروح واحدة، والغاية واحدة، وهي التخلص من الاستبداد والتبعية، والتطلع نحو الحرية والكرامة والعدالة وامتلاك الإرادة؛ غير أن الوسائل والآليات تحكمها اعتبارات كثيرة ومعقدة".
ويرى أن "كل ما تشابهت ظروفه وتوفرت معطياته يمكن أن يُستنسخ، والعكس صحيح؛ فربما نجحت تجربة في قطر من الأقطار لتوافر معطياتها ولكن لم تنجح في قطر آخر لانعدام تلك الظروف والمعطيات".
وختم بالقول: "نحن أمام موجة جديدة من رياح وعواصف التغيير، ومن لم يستثمرها ويحسن إدارتها من الطامحين إلى التغيير فلا يلومن إلا نفسه وعجزه".
"طرق التغيير ثلاثة"
وأكد السياسي المصري والقيادي في حزب "الأصالة" حاتم أبوزيد، أن "جديد مشهد الذكرى هذه المرة أنه يأتي مصحوبا بحالة تفاؤل عارمة بعد نجاح الثورة السورية في الإطاحة بالنظام الحاكم، وتعززت بنجاح غزة في معركة الصمود والتصدي للعدوان الصهيوني".
وأضاف لـ"عربي21": "إضافة لحالة بؤس يحياها الشعب نتيجة سوء الأوضاع الاقتصادية وسوء الإدارة، أو بالأحرى أن الإدارة لا تراهم من الأصل"، ملمحا إلى أن "واقع حال المعارضين والحالمين بالتغيير يشير إلى أنه لا جديد لديهم سوى المراهنة على لحظة انفجار الغضب المكتوم والظلم المتراكم".
وقال: "كثيرون يتحدثون عن التغيير والثورة، ولكن لا أحد يجيب بوضوح عن السؤال: كيف يتم ذلك؟"، مؤكدا أن "التغيير سواء كان للأسوأ أو الأفضل له 3 طرق، الأولى: بالنظم المستقرة المتوافقة مع مواطنيها وشعوبها؛ ويجري عبر الانتخابات، وهذا طريق مغلق في مصر لما يزيد على الـ75 عاما".
وبين أن "الانقلاب الأخير وتصرفاته تؤكد على استمرار ذات النهج"، موضحا أن "الذهاب إلى خيار الانتخابات أو إجبار النظام على الخوض فيه بطريقة عادلة؛ فبقدر ما يحتاج لجهد وبناء داخلي فهو بحاجة أكبر لرضا دولي وإقليمي، ومن ثم ففي الغالب هذا التغيير لن يكون المأمول".
ويرى أبو زيد، أن "الطريق الثاني: طريق الثورة الشعبية الجماهيرية العارمة، وهو يحتاج لقيادات وزعامات ذات فكرة أيديولوجية متصالحة مع أغلبية الجمهور وقادرة على التواصل معهم وبناء حالة من الوعي، تدفعهم للنضال والتضحية".
ولفت إلى أن "الحالة السورية ظلت أعواما تناضل وتقاوم، والفعل الفلسطيني الذي صبر على الأدواء أكثر من 15 شهرا لم يكن وليد لحظة بل سبقه عمل وصبر وتضحيات، فالنجاحات ليس مردها للتفاؤل أو البذل في ساعة من نهار، بل نتاج جهد وعمل ومتواصل".
وأشار إلى ضرورة "النظر في التجارب والاستفادة منها، لأن العمل الثوري يحتاج لجهد ووقت وتخطيط حتى يؤتي ثماره، ويحتاج إلى جماهير مؤمنة بما تعمل ولديها وعي حتى تثبت في الانكسارات، وتصبر على الشدائد".
وعن الطريق الثالث، قال السياسي المصري إنه "التغيير عبر التسلل لمؤسسات القوة واستخدامها في انتزاع السلطة بالقوة، وفي النهاية بصورة أو أخرى ستضطر القوى الإقليمية والدولية للرضوخ بقدر ما أمام الحالة الجديدة".
وأكد أن "السلطة إما أن تُنتزع بقوة الجماهير أو بسطوة السلاح كما فعل النظام القائم حاليا، وهناك طريق رابع لكنه ليس بمحل للطرح لأنه خارج عن الإرادة الداخلية للشعوب أو الحكام على السواء"، و"لعل طوفان الأقصى الذي هبط عام 2023، وما آل إليه يصبح بداية وخارطة طريق نحو الحرية والتخلص من الاستبداد والهيمنة الخارجية".
وختم مبينا أن "الأمر يحتاج إلى عمل جاد وضروري لأننا أمام حالة تشكيل صورة جديدة للمنطقة (شرق أوسط جديد)؛ فإما أن نكون أحد أطرافها الفاعلين، أو نظل في وضع الخاضع المشاهد لما يجري من حوله".
"معنى الثورة ومعنى التغيير"
وقال السياسي المصري وعضو حزب "الوسط" المصري المعارض وليد مصطفى: "هناك 14 عاما من ثورة يناير ولنعترف بأن الثورة محاولة لإحداث التغيير وليست التغيير، وبثورة يناير نجح الشعب والقوى السياسية في الضغط على النظام وفرض مسار الديمقراطية حتى 11 شباط/ فبراير 2011؛ لكن بعدها الشعب والقوى السياسية لم يكونا على نفس القدرة لإحداث التغيير، ولم يكن لديهم الخبرة، ولا القدرة على مواجهة تغلغل النظام بأركان الدولة".
وفي حديثه لـ"عربي21"، أكد أن "القوى السياسية بمختلف أطرافها التي وصلت للسلطة أو التي رفضت وصول غيرها للسلطة، كلاهما كان لديه مشكلة، فالأول عندما وصل كان لديه طمع بالسلطة وحلم بأنه القادر على ذلك ولما اكتشف أنه غير قادر فشل التغيير، والطرف الثاني مشكلته وحتى الآن أن غيرهم لا يصل للسلطة، دون أن يفكروا في تجهيز أنفسهم ويحصدوا نقاط قوة، والنتيجة أن المحاولة الثورية نجحت ولكن الثورة فشلت".
ولفت إلى أنه "بعد 13 عاما جاء أمل (طوفان الأقصى) عندما أذهل الشعب الفلسطيني العالم وكشف حقيقة العالم، وبين أن الشعب صاحب الحق عندما ينظم نفسه جيدا يقدر، لولا اعتقاد المقاومة الخاطئ بأن الأنظمة العربية الحالية رغم أنها امتداد لدكتاتوريين ستقف معهم وفوجئوا بأنها وقفت مع العدو وبذلت كل جهد كي لا تنجح".
وأوضح أحد نشطاء ثورة يناير، أنه "بعد الربيع العربي اختلفت الأرض والأنظمة العربية ترى محاولة أي شعب للتحرر، حتى ولو من محتل، خطر عليها، وأن مكاسبهم مع المحتل؛ ولكن الشعوب العربية في المقابل رأت القوة والقدرة ورأت النذالة والخسة في الوقت ذاته".
ويرى أن "من توابع (7 أكتوبر) وانتصار الثورة السورية وفرار بشار الأسد الذي لا يقل عن أي نظام ديكتاتوري عربي يتغلف بالقوة المجحفة أنه في وجود مقاومة حقيقية من الشعب يصبح الديكتاتور مجرد ورقة هشة، ويتراجع دعم باقي الديكتاتوريين له، كما أن الأنظمة علمت أن الشعوب رأت نتائج (طوفان الأقصى)، الثورة السورية، والدول الكبرى والحليفة السابقة تقبل بالإدارة الجديدة لدمشق".
"تأخير مكلف"
وعن الحراك المصري والثورة المصرية، يعتقد مصطفى، أن "كل يوم يمر مع عدم البدء في التغيير يكلف مصر والأجيال القادمة سنوات من ضياع الدور والانهيار الاقتصادي والديون وإعادة الإصلاح وإعادة بناء اللحمة الوطنية".
وأكد أنه "لو ما زلنا نفكر بنفس الطريقة فهذه مشكلة، يعني أن الثورة بدأت 25 يناير فلا بد أن يكون التغيير في 25 يناير فهذه مشكلة في التفكير، أو أن تتخذ نفس الطريقة بالمظاهرات أو التغيير المسلح كما دعا البعض فهذه مشكلة".
ويرى أن "المعارضة المصرية لم تعد نفسها حتى الآن للتغيير؛ وخاصة معارضة الخارج، وخاصة أقوى قوة بالمعارضة، حيث إنه منذ 11 عاما لم يتم الإعداد للتغيير وأي حدث يحدث نقول سوف يتغير المشهد لدينا كما غيرنا لكن لا يحدث التغيير".
وقال إن "المعارضة توجه اللوم للشعب؛ والحقيقة أنها لم تعدّ للتغيير حتى يسير الشعب خلفها؛ فالتغيير تقوم به قوى المعارضة بإعداد نفسها للتغيير ولقيادة الدولة وليس بدعوة الناس للخروج على الحاكم، ولكن عندما تكون المعارضة قادرة على اتخاذ قرارات مماثلة لما قامت به المقاومة الفلسطينية والمعارضة السورية وأعدت نفسها".
وأوضح أنه "يتكلم هنا عن الإعداد وليس عن وسيلة التغيير السلمية أو المسلحة"، مؤكدا أن "الأخيرة لا تصلح أبدا في مصر رغم أن النظام فاشي ومستبد، لأن الجيش المصري في بيت كل مصري، وهو منا، ومحاولة إغراقه بجريمة فض اعتصام رابعة العدوية والخصومة مع الشعب لن يكون مقابلها الكفاح المسلح".
"هذا هو الطريق"
واستدرك: "ولكن طريقنا هو الإعداد للمعارضة وزيادة جاهزيتها لتولي الحكم، وفي هذا الوقت يقدر الشعب على رؤيتها، وهنا يحدث التغيير في الوقت الذي تحدده المعارضة"، مبينا أن "كل مقومات التغيير في مصر موجودة وجاهزة منذ أعوام 2017 و2018".
وأشار إلى أنه "على المعارضة أن تفهم أن النجاة جماعية ولا يمكن لأي فصيل في الظروف الطبيعية أن يقوم وحده بمهمة حكم مصر، وفي الظروف الحالية أي فصيل أو 2 أو 3 يظنون أنهم قادرون على الحكم فهذا مستحيل لأن النجاة جماعية".
ولفت إلى أنه "إن لم تتكلم المعارضة بشكل جدي، وتكون الرموز الفقيرة في أفكارها قادرة على التواصل مع الغير، وتقدم مصلحة الوطن على أي شيء؛ سيتم استبدالهم لأن من كانوا في ثورة يناير 2011 بعمر العشرينيات، الآن هم في الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات".
وألمح إلى "خروج أجيال جديدة قد تتعاون سويا وتتخلى عن أيديولجياتها التي تؤمن بها؛ لأنهم سيرون الوضع بصورة أفضل عندها، وعندما يكون هناك شكل أفضل سيرى الشعب أشخاصا تدعو للتغيير وليس الثورة ولكن تغيير ما بعد الثورة".
وختم بالقول: "سيرى الشعب أنهم قادرون على إحداث هذا التغيير وأنهم سيكونوا بديلا لهذه السلطة وقادرون على العبور بهذا الوطن للأمان خلال فترة انتقالية ودستور انتقالي وعدالة يظهر فيها الجميع قدراته في خدمة الوطن، وقتها التغيير يأخذ وقتا أقل من وقت تغير المشهد السوري، ولكن على المعارضة أن تعد نفسها".