الوطن:
2024-10-02@01:26:06 GMT

في ذكرى عامين على الرحيل.. «الكردوسي» حيّ على الكتابة

تاريخ النشر: 25th, February 2024 GMT

في ذكرى عامين على الرحيل.. «الكردوسي» حيّ على الكتابة

في البدء كانت أمه.. «زينب البكرى»

هل يستحق الواحد أن يكون ابناً لمثل هذه السيدة؟

ستة وثمانون عاماً صرّتها -بحلوها ومرها- فى طرحتها الشيفون السوداء.

أعطت أخى حذر الفقير وطيبة قلبه وثبات قدميه فى الغربة، وأعطت شقيقاتى بياض بشرتها وهوسها بالخصوبة وعمار البيوت، أما أنا فلم تعطنى سوى عشق الحكى وصنعة الكتابة.

هل كانت تعرف أن الحياة لن تعجبنى ولن أقدر عليها إلا بالكتابة؟.. هل كانت تشفق علىّ من هذا العشق؟.. هل كانت تدرك أن الكتابة صخرة وأننى «سيزيف»؟.

كانت تشعر أننى سأكون مهضوماً وصوفياً والناس مقتلى، فكان دعاؤها: «ربنا يحبب فيك القريب والغريب والنصرانى أبوصليب».

الثلاثاء 19 مايو: «أمك توفّت.. البقاء لله».

هل جربت أن تكون ممزوعاً بين الإحساس بالندم والإحساس بالغيظ من نفسك؟.. يظل الواحد مطمئناً لوجود أحبائه، ويظل يماطل ويبخل عليهم بالسؤال ويضحى ولو بخمس دقائق من وقته المهدر أصلاً.

فجأة.. يلتفت إلى الوراء فلا يجدهم.

تسرقه السكين، ويعتقد لوهلة أن غيابهم لن يطول.

أمى ماتت؟.. أعرف، لكنها ستخرج من غرفتها لتأخذ مكانها بين حريم الجنازة. ستسألنى: هل أكلت؟.. متى تسافر؟.. ما أخبار «بيسان ويارا»؟.. الحقيقة أننا لا نعرف معنى أن يموت شخص: معناه أنك لن تراه إلا إذا مت، لكن المشكلة أن «معرفة» الموت أضعف من أن تنسيك شخصاً «عاش» معك، فما بالك إذا كان هذا الشخص أمك!.

«المصرى اليوم».. 25 مايو 2009  يوم كان شابا.. حد عايز قلب فاضى!

كانت لنا مقاهٍ وشوارع وأرصفة، وكان الشعر يُكتَب هكذا: يصعد شاعر «حداثى» شاب من «خرتية» وسط البلد فوق المنصة. يتحدّب ويتقعر وينبعج ويتقيأ مقطعاً من قصيدته الجديدة.. (سرسوب عرق ماشى ورايا م الحسين للسيدة.. وتمر حتة من امرأة).

يقرّر صديقنا محمد البرغوثى -وكان هو الآخر شاعراً عامياً قبل أن تتحلل قريحته الواعدة فى «حبر» السبابيب وتتبخر فى «فضائها»- أن يقارعه ويدحض حداثته السرسوبية. يكتب قصيدة بعنوان «رقصة حداثية»، يقول فى أحد مقاطعها: (على قهوة البستان.. شاعر بيسألنى/ الناس وشوشها مجنزرة.. وللا النهار متنى/ والجثة دى مستنظرة.. وللا الوضوء فاتنى/ أنا قلت له: يا شاعر الأرض الخراب.. كوع الماسورة بيندهك).

كان الطعام سيئاً إلى حد ينبغى أن يكون شهياً، وإلا مُتنا من الجوع. أذكر ذلك جيداً: مطعم متواضع فى شارع المبتديان، يديره أعمى مولع بإصلاح الساعات، يساعده صعيدى هاربٌ على ما يبدو من ثأرٍ قديم: «حاسب.. هناك ذبابة ميتة على ورك الفرخة» -يقول صديقى «باسم»، خريج معهد السينما والمولع بـ«فللينى».

أزيحها غير عابئ وأكمل طعامى وأترك ساعتى رهناً. لم نكن فى حاجة إلى الوقت: أن نجلس على مقهى ونُثرثر، ويمر الوقت من أمامنا ملقياً تحية المساء.. هذا يكفى.

ليس مهماً ماذا أفعل: «افعل العكس دائماً لأنه يقيناً صواب» -تقول «أمل» قبل أن تصارحنى بحبها وبرغبتها فى السفر إلى نيكاراجوا للانخراط فى صفوف الثوار.

ليس مهماً أين أسكن: «ألا أكون بعيداً عن هرم الجيزة وحديقة حيواناتها، لأن الصعيد يبدأ من أحدهما أو من كليهما». ليس مهماً أين أعمل: «أى كافيتريا فى أى مؤسسة صحفية فى أى ساعة بين الخامسة والثامنة مساءً».

ليس مهماً إن كان الآخرون يحبوننى أم لا.. فـ«الآخرون هم الجحيم».

«المصرى اليوم».. 8 مارس 2010  حلم العمر الضائع.. أحدهم خطف الثورة وخبأها فى «لحيته»

بعد مد وجزر بين الميدان وقصر العروبة، وفى السادسة تقريباً من مساء الجمعة، الحادى عشر من فبراير، انتهى مخاض أطول «حمل سياسى» فى تاريخ مصر الحديث. سقط النظام، وسمعت الدنيا صرخة الثورة: «بشكر الجزيرة.. بشكر تونس.. مفيش ظلم تانى.. مفيش خوف تانى».. قالت الناشطة نوارة نجم لقناة «الجزيرة» وهى تبكى فى أول تعليق على إعلان الطاغية «تخليه عن منصب رئيس الجمهورية» حسب نص نائبه.. «الواقف أمام الرجل الواقف وراء عمر سليمان».

بعد أسابيع، ذهبت السكرة وجاءت الفكرة.

خف ألم الولادة وفتحت الأم عينين متعبتين، ثم صلبت طولها وطلبت «ثورتها».

كانت الثورة لا تزال لحماً أحمر يلفه بخار الأفواه الغاضبة وغبار البلطجية ورائحة احتراق البنايات والمصفحات الزيتى، وكان حشد المتظاهرين غارقاً فى احتفالاته، عندما تبين للأم أن مولودها اختفى، فتأملت الحشد مبتسمة وخمنت: «لابد أن أحدهم خطف الثورة.. وخبأها فى لحيته».

لم أنزعج فى البداية، لكننى رحت أتعقب شكوكاً كانت قد بدأت تخايلنى.

تراجع شبان «تويتر» و«فيس بوك» وبدأ صوت الإخوان يرتفع.

انهالت مطالبهم على رأس المجلس العسكرى، والمجلس يلبي.

ثم خرج «الزمر» من السجن -بـ«عبوده» و«طارقه»- ليتحولا بين يوم وليلة إلى «بطلين»، ويقتحم أولهما لائحة المرشحين للرئاسة، ثم خرج «السلفيون» من أرشيف «أمن الدولة» ليُحرِّموا ويُحلِّلوا ويُكفِّروا ويشعلوا حرباً ضد الأقباط.

«المصرى اليوم».. 18 أبريل 2011 سيرة ألم بالقلم.. فص كبد وداب

قال لى أحد أساتذة الجراحة قبل بضعة أسابيع من «الزرع»: «الكبد مدينة صناعية متكاملة، كلما تعطل مصنع مات جزء من جسدك».

لكنه لم يكن موتاً تقليدياً.

كان رحلة ألم ساعتها بألف سنة، وكانت الروح تتقلب فى وعائها هذا كطائرٍ أثقلته خطاياه.

تتأمل المسكينة حصونها وهى تنهار حصناً وراء الآخر: سيولة فى الدم يعقبها نزيف.

دوالى مرىء تقابلها بواسير.

ستة كيلو جرامات من المياه الصفراء تحت الجلد وفى فضاء البطن.

قلب مضطرب وذهن كسول وعينان غائمتان تتطلعان إلى خمسين عاماً مضت فلا تريان يقيناً أو جدوى.. ولا أمل.

كنت أتألم والناس حولى صامتون.

أعض لحم الوسادة وعظام السرير وهم يرطنون: اثبت.

تَحلَّ بصبر الأنبياء.

كلما تألمت خفّت ذنوبك.

وكنت أقول لهم: «خذوا ما بقى من عمرى واتركوا لى ساعة واحدة بلا ألم.. خذوا هذا الألم واتركونى أدخل جهنم بكامل إرادتى».

كنت أتأمل روحى وهى تشب من وعائها، لتغفو قليلاً على كتف هذا وتختبئ فى حضن ذاك.. فأبكى: «كيف يكون الألم طوق نجاة؟.

كيف يكون الله رحيماً وثمن الجنة باهظ هكذا؟».

فجأة.. أصبح الزغب ريشاً واكتست العظام لحماً فطارت الروح.

لم تصدق أن الله قريب إلى هذا الحد، إلا حين قرأت بيانها فى اللوح: «الكبد أيقونة الجسد».

[2] عادوا بعد الجراحة.. قالوا كلاماً جميلاً وذهبوا إلى أشغالهم. كانوا يتحدثون من أعماقهم، لكنهم يطلون على جسدى -وهو يتأرجح بين هبو جهنم وعطر الجنة- من كوة صغيرة فى باب «زنزانة الألم».

«الوطن».. 12 يناير 2013 فلسطين فى القلب.. أهل غزة أدرى بـ«حماسها»

تزوجت فلسطينية، ومن أين؟.. من «غزة»، أكبر «تجمع دموى» فى فلسطين: كان ذلك فى عام 1993، وكان القلب الذى أحب جمال عبدالناصر، وآمن بحلمه «القومى»، وصدق شعار «سنحارب إسرائيل ومن يقف وراء إسرائيل».. لا يزال مفعماً بـ«القضية»، من دون أن يقف ليسأل من الذى «يقاوم»: «عرفات» أم جورج حبش أم أحمد ياسين؟

كانت فلسطين قد أصبحت «معنى» فى بطون شعرائها، وكانت المقاومة تخبئ رصاصها وجثث أبطالها فى قصائد محمود درويش.

كانت الشوارع فى مصر تقرأ القصيدة، فتلتئم وتزدحم وتنتفض وترفع صور الشهداء، ثم تتفرق فى الحوارى والأزقة، وتنام على دموعها وحسرتها وخيبة أملها بعد أن ضاق المدى وانحسر ليصبح طاولة مفاوضات فى «أوسلو».. هكذا لم يعد متبقياً لنا سوى أن نعزى أنفسنا بآية من كتاب الشعر: «من دمنا إلى دمنا حدود الأرض».

كانت الشوارع فى مصر تلعن «السلام» الذى يموت الفلسطينيون تحت رايته، وكلما ماتوا وزهد ثمنهم تآكلت القضية وطرح السلام جثثاً لأنبياء جدد.. هكذا لم يبقَ لنا سوى أن نعزى أنفسنا بتلك الآية الكريمة: «وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً».

كنا نتبرع من لحم أكتافنا لندفع للشهداء تكاليف عبورهم إلى الجنة، ونشد وتراً فى غنائنا لنؤانسهم، ونجمع أشلاءهم على قمصاننا، ونقول لهم ونحن نحرق عَلَم قاتليهم: «هذا والله كل ما لدينا».

«الوطن».. 16 يوليو 2014 

خلّى بالك: أنا من قرية بائسة فى منتصف صعيد مصر، سمّاها رجل بائس: «المدمر». ولا تسألنى: «يعنى إيه مدمر؟»، لأننى سأسألك: «يعنى إيه بؤس؟»!. اسمع الحكاية من «الوجه» إلى «القفا»، واترك «المدمر» لربٍ يحميها، لأن أقصى عمق تحت «خط فقر» العاصمة أن يخلع البنى آدم بُرقع الحياء، ويقف بـ«فوطة زفرة» فى إشارة مرور.. و«كل سنة وانت طيب يا باشا»!. وأعلى سقف لـ«تنمية المدمر» أن يخبز الناس «عيشهم» على صهد «بلاط» فرن، ويطبخوا سير أنبيائهم وأبطال مواويلهم على «كوانين» صغيرة، ويموت العدل بينهم ليعيشوا كراماً تحت رايته.

من أيام الجامعة: أنا وغالبية أبناء سوهاج نخوض حرباً يومية طاحنة لنثبّت أقدامنا فى أسفلت العاصمة، ونلحق بفتات موائدها. سوهاج تتحول مع الوقت إلى حِمْل ثقيل على كواهل أبنائها، ثم إلى فولكلور، ثم يسافر الواحد منا إلى قريته فلا يعرفها. يسأل أخاه أو ابن عمه أو صديق طفولته: أين مكان الجرن؟. أين الحوش؟. أين نخيلنا وسنطنا ونبقتنا؟. أين البئر والعديد وقربة اللبن؟. يوم.. يومان.. ثلاثة.. ثم يعود إلى لغط العاصمة وضجيجها. يعود وهو يحجل كالغراب: لا قلّد مشى العصافير ولا استرد مشيته.

لا أعرف مساحة سوهاج على خريطة عشوائيات العاصمة، لكن السوهاجية متغلغلون فى كل نتوء: من «عرب حلوان» إلى عين شمس، ومن «يمين فيصل» إلى «يسار أبوزعبل»، ومن «بولاق أبوالعلا» إلى «دكرورها».

تختلف الملامح والمطامح ومحافظ الفلوس.. لكن رائحة العرق واحدة.

هذا الصوت.

هذا النوع من الغناء.

هذا الجسم الممصوص، الداكن كلون الطين.

هذا الشعر «الهايش» كابتهاج النجوع والكفور بالموت.

هاتان العينان اللتان تلمعان كحجرين كريمين.

هذا ما كنت أحتاج إليه دوماً، لألتهم العاصمة رصيفاً فشارعاً فجسراً، وأحارب طواحين هواء: (بلاد ما اعرفش ناسها/ ولا عارفانى بيبانها/ ماليش شبر ف أساسها/ ولا طوبة ف حيطانها/ وخطاويا غريبة).

هذا الصوت يعرفنى أكثر مما أعرف نفسى.

ألاحقه أينما ذهب.

لكنه يُبطِّن القلب الممتلئ يقيناً بغلالة شك: «ده حزن ولا وتر.. ده قلب ولا حجر.. ده دمع ولا مطر؟».

ويملأ عقلى بالسؤال المستحيل: (مين اللى بيبيع الضمير/ ويشترى بيه الدمار؟).. وبالإجابات القديمة نفسها: (المهنة بناضل.. بتعلم/ تلميذ فى مدرسة شعبية/ المدرسة فاتحة على الشارع/ والشارع فاتح فى قلبى/ وأنا قلبى مساكن شعبية).

هذا الصوت يحرسنى ويؤانسنى منذ أربعين عاماً بالتمام والكمال (مسَّنى لأول مرة فى 1979).

يلمع فى ليل الغربة كنجمة حائرة، محيرة.

كنصل رقيق ذى حدين، يجرح فى الحزن كما يجرح فى البهجة.

أقتبس منه شعارا أضعه تحت زجاج مكتبى، أو ضوءاً خفيفاً يبدد كآبة الوحدة والألم وانتظار الموت: (بعد ما لفّ وبعد ما دار/ بعد ما هدّى وبعد ما ثار/ بعد ما داب واشتاق واحتار/ حط الدبلة وحط الساعة/ حط سجايره والولاعة/ علّق حلمه على الشماعة/ شد لحاف الشتا على جسمه/ دحرج حلمه وقلمه واسمه/ دارى عيون عايزين يبتسموا/ اللى قضى العمر

الوطن.. 10 مايو 2017 ساحرة ومستديرة ومعشوقته ..«الكورة»صاحبة السعادة

لحظة الانتصار فى كرة القدم تشعل فى النفس نشوة لا تسبقها سوى نشوة الانتصار فى معارك الوطن العسكرية. كرة القدم فى لحظات مجدها تذيب كل الفوارق السياسية والاجتماعية والثقافية والطبقية، وهى أضخم وأوسع حزب سياسى فى مصر، والحزب الواحد الوحيد فى دول وممالك لا تعرف أو لا تعترف بالحياة الحزبية.

وقاعدة الكرة، فى مصر كما فى البرازيل وغيرهما، هى «الشارع»، بتفرعاته الضيقة، الخانقة، وميادينه، وساحاته، وأحواشه الرثة.

ففى هذه الأماكن يولد «الحريفة».. يولد أصحاب المهارات، ويولد عشق هذه اللعبة والشغف بها.

فى هذه الأماكن وُلد جوهرة الدنيا «بيليه».. البرازيلى الأسمر الذى جعل لكرة القدم سعرا، وسوقاً لا تهدأ، وحقيبة وزارية، ووُلد «محمد صلاح»، ابن الدلتا الذى فتن الإنجليز.

حتى سنوات قليلة مضت كان هؤلاء الموهوبون حراساً لـ«سُمعة» كرة القدم، وكانوا عنواناً لكل جيل.

ولأن كبرياء الموهبة ونظرة المجتمع المتدنية للعبة كانتا تحولان دون «ذهاب» أصحاب المواهب إلى الأندية.. اخترعت الأندية وظيفة «كشاف مواهب».

لكن طوفان الاحتراف وأنهار الفلوس التى تتجمع فى غرف وبارات الفنادق الفخمة، وتجرى فى «تراكات» الملاعب.. غمرت كرة القدم بكل عناصرها.

أشعلت بورصة اللاعبين، وأغرقت الساحات القديمة، وساوت بين الحريف والمجتهد، وأوقفت تصنيف مصر بين القوى الكروية عند الرقم «صفر»، وتركت فى أذهاننا سؤالاً محزناً: هل كرة القدم حرفنة.. أم بيزنس؟!

«الوطن».. 5 أغسطس 2018 حدوتة كل يوم .. ليه خجلان تقول إنك سعيد يا ولد؟

زمان.. كانت كلمة «بحبك» رباطاً مقدساً، وكان الوطن والحبيبة وجهين لعملة واحدة، حتى إننا كنا «ننده» على مصر بأسماء بناتنا: «يا جميلة ومريم وبهية».

الآن أصبح «الفلانتين» دم غزال على أزرق داكن، وسقف الحب خمس دقائق سلام فى أربع وعشرين ساعة حرب، تبدأ صباحاً بـ«نكد الوظيفة»، وتنتهى مساءً بـ«نكد المدام.. التى كانت يوماً حبيبة».

يقول متأسياً: القلوب التى صنعت ثورات وصدّت موجات عدوان ورفعت سداً وأبدعت أدباً وفناً، وعبرت هزائمها.. لم تعد تحب.

لم تعد تعرف كيف تحب، ولم يعد لديها حافز أو وقت لتلك الكلمة الطيبة العذبة: «بحبك».

القاهرة شتاءً.

العاشرة والنصف من صباح يوم جمعة.

الشوارع هادئة، والشمس تسيل على رؤوس المحبين حليباً وبرتقالاً، والناس يتقلبون أحراراً فى دفء العاصمة.

بنات وشبان يتنزهون على كورنيش النيل أو يتهامسون فى حدائق الميادين.

البنت سافرة (أو محجبة.. لا فرق) وعيناها تتوسلان، وعلى صدر الـ«تى شيرت» سهم كيوبيد، بينما قوس الولد مشدود، والنار مشتعلة فى خلاياه.

ابتكر الولد «قصيدة» فأغمضت البنت عينيها وتأرجح رأسها طرباً: «عايزة بيت».

وبعد ساعة أو أكثر بدأت بشائر صلاة الجمعة. ذاب الجزء فى الكل والحسى فى المقدس.

فجأة.. اكتشف الاثنان أنهما معتقلان فى «كردون أمن»، وأن الشوارع ليست هادئة، والناس ليسوا أحراراً، والفضاء ليس دافئاً، والشمس ماسخة.. فتزوجا.

«الوطن»... 12 فبراير 2020

فى الختام

أحب أقولك: ناس كتير فهموك غلط!

قال إيه:

ما دام حضورك شعر..

يبقى بالتأكيد غيابك موت!

اللى زيك كيف يموت!

الموت جبان..

وقلبك يشبهك فى العند.

تتعب شوية!.. ماشى

تسكت وتقفل وشك ع الخصوم!.. ماشى

لكن تموت!

المستحيل أقرب

الكاتب الراحل

محمود الكردوسى

 

 

 

 

 

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: الوطن المصرى اليوم الأهرام کرة القدم لیس مهما فى مصر بعد ما

إقرأ أيضاً:

لا شيء يثبت أني أحبك غير الكتابة.. يوميات معتقل (11)

ابني الحبيب..

قلبي "بيطبطب" عليك..

عثرت على هذه الكلمات التي كتبتها منذ سنوات، وهي تعبر عن شخصيتك المسالمة.

لم أكن أدري أني سوف أفترق عنك في يوم من الأيام، وأخاطبك عن بعد بالكلمات المكتوبة، لكنها إرادة الله، ولا أملك لك سوى الدعاء إلى الله عز وجل أن يفك أسرك الجائر، وأن يعيدك قريبا بإذنه سالما، لتسعد قلبي وقلب أمك وقلوب أولادك وزوجتك الوفية، بإذن الله تعالى تكون معنا في القريب العاجل.

من القلب إليك تحياتي وتحيات أحبابك الكثيرين الذين يسألون عنك دائما..

كن قويا وصبورا وراضيا حتى نلتقي بخير قريبا..

ولا تنسى أن تقرا القصيدة للأستاذ.. الذي أحببته من كلامك عنه في رسائلك..

وفي المقال المقبل نواصل حكايات السجن..

(أبوك)

هذه رسالة من شاعر وطني شارك في المقاومة الشعبية في حرب السويس، أرسلها إلى ابنه "جاسر" في سجن طرة، وكان جاسر منذ اليوم الأول لدخولي العنبر مسؤولا عن تدبير كل شيء في معيشتي. لم يكن يعرفني من قبل، لكن زميلا من المحامين الشرفاء السجناء، كان معه في عنبر آخر قبل تفريقهما، ولما علم بقدومي حاول مع إدارة السجن نقلي إلى العنبر المحبوس فيه، ولما تعثرت محاولته أوصى جاسر بالاهتمام بي، ولم يتأخر جاسر الشهير بلقب "القبطان".

أما قصيدة والده التي قرأها لي بعد أن جفت دموعه بعد الزيارة فهذا نصها:

حاشا و كلّا.. كلّا وحاشا
تكون في قلبي ذرة وحاشة
لأي كائن: مسلم.. مسيحي..
يهودي حتى من الفلاشا
لا فرق عندي بين أبيضاني
وحبشي أسود من النجاشا
وإن شوفت بوذي.. ما أقلبش بوزي
وأقول في بوزه شبهة عفاشة
الكل عندي من نسل آدم
للكل عندي ود وبشاشة
خلقهم المولى، وكافل
لكل واحد رزق وإعاشة
وإن حد جاب لي سيرة السياسة
أقفل وداني وأسوق الطناشة
لا كنت وفدي ولا كنت سعدي
مع احترامي لسعد باشا
ولا يوم سمعت عن عمرو موسى
ولا تابعت توفيق عكاشة
وجاي تقول لي: بتسيء لبلدك!
اسمح لي أقول لك غلطان يا باشا
بحب بلدي
وحب بلدي
بيجري في الدم والحشاشة
قلبي المسالم ع الحب دايم
والحقد منه متشال بماشة
للسجين في سجنه عيدان، عيد التلاقي في يوم الزيارة كل أسبوعين، وعيد الوصال لحظة النداء على اسمه بعد عودة "النوبتجي" من الإدارة حاملا الرسائل اليومية، وتمضي الأيام في السجين بين الأمل والقلق، وهذه وذاك من فرح وأحزان، أسئلة وإجابات، حكايات وطلبات، شكاوى وأشواق، تحملها الرسائل
انتهت القصيدة التي ذيلها الأب بتوصية للابن أن يصبر ويتحمل ولا يكرر الانفعالات التي أدت إلى نقله من العنبر السابق بعد مشاجرة مع سجين آخر:

ابني الغالي ونور عيني..

أعرف أنك عصبي ولا تتحمل الظلم، لكن عشان خاطري وخاطر أمك وأسرتك اهدأ وتحمل ولا ترد الإساءة بالإساءة حتى يزيح الله هذه الغمة، وذلك على الله ليس ببعيد. أعرف أنك تتصرف تحت ضغط الإحساس بالظلم، واسأل الله أن يلطف لنا وبك " إن بعد العسر يسرا..

للسجين في سجنه عيدان، عيد التلاقي في يوم الزيارة كل أسبوعين، وعيد الوصال لحظة النداء على اسمه بعد عودة "النوبتجي" من الإدارة حاملا الرسائل اليومية، وتمضي الأيام في السجين بين الأمل والقلق، وهذه وذاك من فرح وأحزان، أسئلة وإجابات، حكايات وطلبات، شكاوى وأشواق، تحملها الرسائل "جواب رايح وجواب جاي".

كانت رسالة الأب لابنه السجين نموذجا للجواب الجاي، أما نموذج الجواب الرايح فهو قصيدة أخرى بالعامية كتبها السجين الشاب أحمد المنزلاوي لحبيبته التي تمنع قوانين السجن زياتها له، لعدم وجود صلة قرابة تسمح بالزيارة، والجواب القصيدة بعنوان "عصفور بدور":

"صباح الورد يا عمري / على لون خدك المورود
صباح العهد يا عمري / على القلب اللي كله وعود
هحكيلك على حلمي / اللي خلّى القلب بيرفرف ونفسه يعود
حلم بلون عينيكي البُنّي.. بيحضني
وياخدني لبحر الحب جوه النني.. بشوق وحنين
على شط عيونك اللولي حكايات مرسومة بالنرجس
ورموشك محاوطاهم كما البساتين
وبر عينيكي كان حاجب
عليه قارب
مفروش عيدان ياسمين
واقف عليه عصفور
عصفور جميل.. لكن حزين
يا حبيبتي
قلبي فايض بالأنين
بس صابر
ع الليالي لسه صابر.. ع السنين
عصفور بدور.. عمال يدور
حوالين عينيكي
حاير وداير
قاطع مَسَاير
نفسه يطّمِن عليكي
وفوق كفوفك.. ينقش حروفك
وبريش جناحه يكتب قصيدة
باسمه وسعيدة
لأنك برغم البعد والمسافات
بس مش شايفك بعيدة

* * *
السجن يعلّم الرومانسية ويفتح أبواب القلوب المغلقة، ويحرك المشاعر الراكدة تحت ركام الحياة اليومية المكررة
السجن يعلّم الرومانسية ويفتح أبواب القلوب المغلقة، ويحرك المشاعر الراكدة تحت ركام الحياة اليومية المكررة، وكانت متعة السجناء بعد ثقتهم بي أن يعرضوا عليّ ما يختارون من رسائلهم المرسلة والواردة، ليشعروا بفخر أنهم محبوبون ويحبون، معظمهم تعلم رسم القلوب الحمراء وميمز الابتسام في الرسائل المكتوبة، وكلهم كانوا يستعدون للزيارة بالاستحمام والتمشيط وارتداء الملابس النظيفة كأنهم ذاهبون إلى موعد غرامي. وفي نهاية العنبر تخصص الشيخ سمير في تصميم أوراق الجوابات الملونة ورسم الورود والعصافير عليها، ويتزاحم عليها عدد من السجناء يملون عليه أسماء الزوجات والأولاد دون خجل ليدونها بخط جميل في الرسائل.

وقد احتفظت بنماذج من هذه الرسائل لأنه من الصعب وصفها بالكلمات، فهي نوع من التعبير بالفن التشكيلي، الذي يمكن تسميته بفن السجون، حيث تخصص عدد من السجناء في صناعة البهجة بالفن.. فوانيس رمضان من الكرتون، وباقات ورود مصنوعة من المناديل الورقية، ولوحات تشكيلية بأحجام مختلفة وتصميمات مدهشة من مخلفات الأشياء المسموح بدخولها إلى السجن. وهذا النوع من التعبير يحتاج لمقالة مصورة لكي تتضح قيمته التعبيرية والجمالية، وحتى يتيسر ذلك سنعود إلى التعبير بالكتابة، ونتناول في المقال المقبل إبداعا عريقا من أدب السجون، وهو قصائد "العنبرة"، الموروث منها والمبتكر، وكله يسمع.. حتى الحديد يسمع.

وفي المقال المقبل نواصل يوميات الاعتقال..

* * *
* العنوان مقتطف من مراسلات محمود درويش وسميح القاسم، وكنا نطلق عليها في شبابنا "مراسلات شطري البرتقالة" حينما كما نتابعها في مجلة عربية تصدر في فرنسا، وقد كثف درويش روح المراسلات في قصيدة بعنوان "أسميك نرجسة حول قلبي" خاطب فيها القاسم قائلا:

سنكتبُ، لا شيء يثبت أني أُحبك غير الكتابة
أُعانق فيك الذين أحبوا ولم يفصحوا بعد عن حُبِّهم
أُعانق فيك تفاصيل عمر توقَّفَ في لحظةٍ لا تشيخ.

وللعنوان ودرويش وسجننا قصة أطول سأحكيها لاحقا في مقال آخر..

[email protected]

مقالات مشابهة

  • بعد ضجة فيديو والدها..الحبس عامين للبلوغر "سوزي الأردنية"
  • عن سؤال الكتابة
  • 4 ورش في مجال الكتابة المسرحية بمهرجان آفاق
  • الحكم على سوزي الأردنية بالسجن عامين بتهمة سب والداها
  • الحبس عامين للمتهمين بالتعدى على سائق تاكسى فى سموحة بالإسكندرية
  • سيد نيمار: أجبرت علي الرحيل عن الزمالك بسبب ما حدث معي
  • خالد عبدالفتاح يطلب الرحيل عن الأهلي
  • خالد عبد الفتاح يطلب الرحيل عن الأهلي
  • لا شيء يثبت أني أحبك غير الكتابة.. يوميات معتقل (11)
  • الهلال يجدد عقد أبوعشرين لمدة عامين