جال في ذهني مشهد من مشاهد الحضارة وأحد أسرار قوتها الذي يتعلق بالبحث العلمي، وانحسرت آفاق التطلعات التي يمكن التعويل عليها في بناء الإنسان وحضارته المرتبطة بالنهضة العلمية وفق واقع مرير يتحدث عن معوقات البحث العلمي في العالم العربي بشكل مجمل استنادًا إلى واقع علمي وصناعي ملحوظ وإحصائيات موثّقة تُخبر عن معاناة هذا القطاع الرئيس الذي يرتبط ارتباطا مباشرا بمقياس تقدم الأمم وتأخرها.
تتبنى منظومة التعليم العربية أسسا تعليمية غير منتمية -بشكل جلّي- إلى منطلقات هوّيتها وثقافتها؛ فنجد معظم المناهج التعليمية وأساليب تدريسها في
الدول العربية إما مستوردة من تجارب أمم غير عربية تعكس مدى التأخر العلمي والثقافي في مجتمعات كان في زمنها الغابر -قبل قرون عدة- السبق في صناعة المعرفة وأدواتها، وإما نجدها مفتقرةً إلى مظاهر المتانة العلمية ووسائلها، وفيما يتعلق بالحالة الأولى، فلا اعتراض من الاستفادة من تجارب الأمم الأخرى إلا أن الواقع يقول إن ما استوردته بعض هذه الدول لا يتجاوز وصف فتات التجربة التعليمية التي تجاوزتها الأمم المُستقاة تجاربُها، ما يمكن أن يكون معوقا في الحقل التعليمي وما يتشعب منه وما ينتمي من المناهج وأساليب التعليم سيكون عاكسا للبحث العلمي وتأثيراته في واقع الإنسان ومجتمعاته الذي يحكي بدوره واقع البحث العلمي في الدول العربية حتى وإن تفاوتت مستويات الدول فيما بينها فإن المنظور العام للبحث العلمي على مستوى الدول العربية يُعدّ معضلةً تعوق تقدم الحضارة وحركتها.لا أريد أن أذهب بعيدا عن مقصد هذه القضية ولب معضلتها؛ فالأرقام كفيلة أن تُبلغَ عن واقعها عبر المقارنة والنتائج الملحوظة، ولهذا لن أتشعبَ في سردٍ أدبي إنشائي بقدر ما سأدخل في لب الموضوع لأتناوله مجردا من عاطفة الانتماء، ولأصبغ عليه عنصرَ الموضوعية الناقد والباحث عن سبل العلاج المنهجية. تتحدث الإحصائيات عن واقع البحث العلمي في الوطن العربي الذي يمكن مقارنته بدول أخرى مثل الدول الغربية والكيان الصهيوني الذي تصدّر قائمة مؤشر الابتكار العالمي في منطقة شمال إفريقيا وغرب آسيا؛ فيحل في المركز الأول، وجاء في الترتيب 13 عالميًا وفقًا لمجموعة الدخل «Income Group»، بينما تأتي دول عربية مثل المملكة العربية السعودية في الترتيب الخامس في منطقة شمال إفريقيا وغرب آسيا و41 عالميا ضمن مجموعة الدخل، وسلطنة عُمان في الترتيب العاشر في المنطقة والترتيب 47 ضمن مجموعة الدخل، ويأتي ترتيب دولة الإمارات العربية المتحدة الثالث في المنطقة و31 في مجموعة الدخل -حسب الإحصائيات المنشورة في موقع «WIPO» World Intellectual Property Organization 2023»-. فيما يخص الإنفاق للبحث والتطوير من نسبة إجمالي الناتج المحلي «GDP»؛ ففي عام 2021م -وفقًا لبيانات البنك الدولي- تأتي نسب متواضعة لجميع الدول العربية مثل سلطنة عُمان بنسبة 0.29%، والمملكة العربية السعودية بنسبة 0.45%، ومصر بنسبة 0.91%، ودولة الإمارات العربية المتحدة بنسبة 1.4%، ودولة قطر بنسبة 0.70%، وتأتي نسبة الإنفاق لجميع الدول العربية مجتمعة 0.70% بينما تصل نسبة الإنفاق التي يعتمدها الكيان الصهيوني إلى 5.56%، وهذا ما يشكّل تساؤلات كثيرة وتفسيرات جلّية لضعف معدلات الابتكار والتعليم والبحث العلمي والمخرجات الاقتصادية والصناعية للدول العربية. من زاوية إحصائية أخرى -مُستقاة من موقع ourworldindata.org- تُظهر معدلات الأوراق العلمية وأعدادها المنشورة في دول العالم وفق مقارنة مخيفة أيضا مع الكيان الصهيوني الذي لا يصل عدد سكانه إلى 10 ملايين فقد بلغ عدد الأوراق العلمية التي نشرها في عام 2018م إلى 12235 ورقة، بينما نشرت دول عربية مثل جمهورية مصر العربية 13327 ورقة -في عام 2018م- في حين يتجاوز عدد سكانها حاجز الـ100 مليون، وكذلك الحال لباقي الدول العربية مثل المملكة العربية السعودية بواقع 10898 ورقة في العام نفسه، و1503 ورقة لقطر، و856 ورقة لسلطنة عُمان.تسوق المقارنة السابقة في الإحصائيات بين بعض الدول العربية والكيان الصهيوني -فيما يتعلق بنشاطات البحث العلمي وقوته عبر معدلات الإنفاق العام والمخرجات الابتكارية والعلمية والاقتصادية- أذهاننا إلى واقع يُعلل مشكلة من مشكلات الحضارة العربية وتأخرها؛ فلا تستقيم حضارة وعناصرها الاقتصادية والمدنية والسياسية دون ترسيخ قواعد صُلبة للعلم وأدواته، وإحدى أهم أدواته البحث العلمي الذي يفتقد الدعم المالي السخي، وإن وجِدَ هذا فإنه يعاني قصورًا في مخرجاته ونتائجه التي تخدم بناء الإنسان والاستدامة الاقتصادية التي تخرج من رتق عبودية الاعتماد على الموارد الطبيعية وسياسة الاستهلاك المادي غير المتوازن. لا أتعمّد سياسة النقد غير المنهجية؛ فوضع اليد على الجرح وتحديد موضع الألم أفضل من تجاهله؛ فالحديث هنا نابع من المسؤولية المشتركة التي يقع عبئُها على الجميع بما فيهم كاتب هذه السطور؛ إذ أتاح عملي في الحقل الأكاديمي خوضَ غمار البحث العلمي والوعي ببعض مواطن ضعضعته التي تحتاج إلى مضاعفة الجهود لإصلاحها، ومع ذلك لا أنكر وجود الإرادة الجادة عبر برامج الدعم الوطنية للبحث العلمي والباحثين من الجانب الحكومي وبالشراكة -في مواضع محدودة- مع القطاع الخاص. سنكمل في مقال قادم -بإذن الله- جزءًا آخر يتناول مكامن هذه القضية، وتحديد زوايا معضلتها وسبل تطويرها وتحقيق مآلاتها التي سنحاول استشفاف ملامحها التي تخدم النهضة الوطنية بشكل خاص والنهضة العربية بشكل عام.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
“الإصلاح اليمني”: التكتل الوطني مفتاح رئيسي للحل الذي طال البحث عنه
يمن مونيتور/ قسم الأخبار
قال حزب الإصلاح اليمني، الثلاثاء، إن إشهار التكتل الوطني للأحزاب السياسية والقوى في العاصمة المؤقتة عدن، جاء استجابة لحاجة اللحظة، هو حل أيضا، أو على أقل تقدير مفتاحاً رئيسيا للحل الذي طال البحث عنه.
وكتب نائب رئيس الدائرة الإعلامية لحزب الإصلاح عدنان العديني، في منشور على منصة إكس، “الواقع السياسي اليمني أثبت حاجةً ماسة منذ فترة – وليس من اليوم – لتوحيد الجهود والطاقات صوب الغاية التي يتطلع إليها شعبنا؛ وهدفه المنشود باستعادة الدولة المختطفة؛ والمسار السياسي حتماً سيقود إلى حل للمشكلات؛ وفي أسوأ الأحوال لن يكون مشكلة بذاته كما هو الحال مع ما عداه من خيارات”.
وأضاف “الأحزاب السياسية اليمنية ومثلها القوى والمكونات الأخرى الفاعلة ما زالت قادرة على إنتاج أفكارا للحل، والتوافق الذي شهدته مدينة عدن اليوم هو خطوة في الإتجاه الصحيح، وفوق أنه استجابة لحاجة اللحظة، هو حل أيضا، أو على أقل تقدير مفتاحاً رئيسيا للحل الذي طال البحث عنه” على حد تعبيره.
وفي وقت سابق، أعلن رسمياً إشهار التكتل الوطني للأحزاب والمكونات السياسية اليمنية المناوئة لجماعة الحوثي، برئاسة أحمد بن دغر، وذلك في مدينة عدن المعلنة عاصمة مؤقتة للبلاد.
وأعلن التكتل في بيان الاشهار، عن برنامج سياسي لتحقيق عدد من الأهداف، تضمنت “استعادة الدولة وتوحيد القوى الوطنية لمواجهة التمرد وإنهاء الانقلاب، وحل القضية الجنوبية كقضية رئيسية ومفتاح لمعالجة القضايا الوطنية، ووضع إطار خاص لها في الحل السياسي النهائي”.
وتشمل أهداف برنامجه السياسي “الحفاظ على النظام الجمهوري في إطار دولة اتحادية، بما يلبي تطلعات أبناء جميع المحافظات، والحفاظ على سيادة الجمهورية واستقلالها وسلامة أراضيها، والتوافق على رؤية مشتركة لعملية السلام، ودعم سلطات الدولة لتوحيد قرارها وبسط نفوذها على كافة التراب الوطني”.
كما شملت “تعزيز علاقة اليمن بدول الجوار ومحيطها العربي والمجتمع الدولي، ومحاربة الفساد والغلو والإرهاب ورفض التمييز بكافة أشكاله، واستئناف الحياة السياسية في عموم محافظات الجمهورية، ورفض فرض المشاريع والرؤى السياسية بالعنف، ومساندة الحكومة في برنامجها الاقتصادي لتقديم الخدمات ورفع المعاناة عن كاهل المواطنين، وعودة جميع مؤسسات الدولة للعمل من العاصمة المؤقتة عدن”.