كثيرًا ما يُطرح على الروائي في عالمنا العربي سؤال: «هل هذه الرواية حقيقية؟»، أو: «هل هذا البطل هو أنت؟»، خصوصًا إذا ما وضع الروائي لهذا القارئ طُعْمًا - بقصد أو بدونه - يتمثل في تفصيلة ما، معروف أنها تخصّ المؤلف، كالاسم مثلًا، أو المهنة المتشابهة لدى الاثنين: المؤلف وبطله الروائي، فهل يسوّغ هذا التشابه - إن وُجد - أن يُطرح على الروائي ذلك السؤال؟
للإجابة سأستشهد بحكاية ذات مغزى سردها الروائي اليمني حبيب عبدالرب سروري في كتابه «الرواية مدرسة الحياة» (دار «المحيط» للنشر، 2023) ليدلل بها على أهمية وقوة فنّ التخييل، وهي أنه قرأ ذات مرة روايةً لروائي فرنسي، خلط فيها - أي سروري - بين حياة الراوي وحياة الكاتب «لفرط حميمية السرد فيها، ولوجود مطب أو مطبين افتعلهما المؤلف أو استعارهما من حياته الواقعية المعروفة» ليجعل القارئ يظنّ أنه هو الكاتب نفسه! وهو ما انطلى على حبيب سروري، الذي ظن بعدها أنه يعرف كلّ تفاصيل حياة هذا الرجل، الأكثر حميمية، عندما كان في بداية العشرينيات من عمره!
يضيف الروائي اليمني أنه بعد سنوات، قرأ لهذا الكاتب رواية أخرى، «تدور في سنوات عمره نفسها في الرواية السابقة، حشر فيها، في سياق حياة الراوي، مطبات صغيرة توهيمية أخرى»، كما اكتشف سروري بعد قراءتها، «لكن لا علاقة لأحداث الرواية الجديدة بالرواية الأولى من قريب أو بعيد، حياتان لا يربطهما رابط»! مضيفًا أنه لو كان قد قرأ الرواية الثانية، قبل الأولى، لَظنّ أنه يعرف تفاصيل حياة الكاتب في تلك السنوات، ليقرر بعدها - أي سروري- ألا يقرأ أي رواية غير مكتوب في غلافها «سيرة ذاتية» إلا باعتبارها رواية تخييلية، وإن حاول الكاتب جعل القراء يظنون أنها حياته، مؤكدًا أنه تعلّم من ذلك الدرس «مدى مقدرات التخييل الجبارة على توسيع العالم، عبر خلق حيوات جديدة تُضاف للحيوات الحقيقية».
هذه المقدرات الجبّارة للتخييل تحدث عنها أمبرتو إيكو بالقول: «التخييل الروائي قد يكون أكثر صدقًا من الحقيقة عينها، وإنه يستطيع أن يدخلنا في حالة من المطابقة مع الشخصيات لنجد أنفسنا فيها، فيجعلنا نفهم الظواهر التاريخية، ونكتسب أساليب جديدة من الإدراك الحسي».
ويتحدث إيكو في مقاله الذي نشرتْه مجلة إسبريسو الإيطالية (وترجمه إلى العربية معاوية عبد المجيد) عن الفرق بين الخيال والكذب، «فالروائي لا يرغب أن يكون كاذبًا، بل يتصور أنّ ما يقصّه قد حدث بالفعل، ويطلب منا أن نشاركه التخيّل، تمامًا كما نتقبّل طفلًا يمسك عصا ويلعب بها كما لو كانت سيفًا». ويضرب الروائي الإيطالي مثالًا بتأثرنا نحن القراء بمصير إيما بوفاري بطلة رواية «مدام بوفاري» (لفلوبير) حتى البكاء، «مع أننا نعرف أنها من صنع الخيال الذي يدفعنا إلى البحث عن ذاتنا في عمق شخصيتها، وإذا لم يكن لمدام بوفاري أي وجود، فإن الكثير من النساء يشبهنها حقًّا، وربما يشبهها بعض الرجال أيضًا، وهكذا نتعلم درسًا عن الحياة بشكل عام وعن أنفسنا بشكل خاص».
وإذن، فإن سؤالَي: «هل هذه الرواية حقيقية؟»، و«هل هذا البطل هو أنتَ؟» لا ينبغي أن يُطرحا على الروائي، مهما ظننّا أنه يتحدث عن نفسه، بل حتى إن وضع اسمه بطلًا للرواية، فما دامت كلمة «رواية» تُزيِّن غلاف الكتاب، فعلينا أن ننسى المؤلف، ونتفرغ فقط للاندماج في الحكاية وشخصياتها، والاستمتاع بقوة التخييل.
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
من دون مصارحة حقيقية لا مصالحة مستدامة
أمام مشهدية ما يجري في العمق الجنوبي لا يسع المرء إلاّ أن يتوقف عندها استنادًا إلى أكثر من معطىً، والتطّلع إلى المسببات والنتائج من زوايا مختلفة، وإن كان الشعور الأولي والمبدئي ينحو في اتجاه أحقية الجنوبيين بالعودة إلى بلداتهم وقراهم حتى ولو تحوّلت منازلهم إلى كومات من ركام. ولكن لا بدّ في الوقت ذاته الإحاطة بهذه القضية من جوانبها كافة، وبالأخصّ في ما يتعلق بعدم تقيّد إسرائيل بحرفية اتفاق وقف النار، مع استمرارها في تفجير ما تعتقد أنه سيشكّل خطرًا مستقبليًا على أمن المستوطنين شمالًا، إضافة إلى المرامي من وراء وقوف "حزب الله" في الواجهة الخلفية لعودة الأهالي إلى بلداتهم وقراهم التي أمست أثرًا بعد عين، وامتدادًا إلى العراضات الاستفزازية في مغدوشة وعين الرمانة والجميزة، التي كشفت، ولو بصورة ملتبسة، مدى الخلاف المتجذّر في القلوب المليانة في نظرة اللبنانيين إلى القضايا الجوهرية وحتى الثانوية، التي تباعد بينهم، والتي تحتاج إلى مؤتمر وطني تحت عنوان "المصارحة والمصالحة" في القصر الجمهوري برئاسة رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون. وهذا ما طالب به الرئيس نجيب ميقاتي، الذي يعرف ربما أكثر من غيرة أهمية توصّل اللبنانيين وحاجتهم إلى أن يتصارحوا على كل شاردة وواردة قبل أن يتصالحوا مصالحة حقيقية وليس مصالحة "تبويس اللحى" و"عفا الله على ما مضى".
وهذا المؤتمر الوطني مهم إلى درجة أنه يستأهل الاعداد له كأول خطوة ملحة وضرورية بعد تشكيل الحكومة ونيلها ثقة مجلس النواب. فإذا لم يتصارح اللبنانيون، جميع اللبنانيين من دون استثناء، مصارحة شفافة وجريئة ومسؤولة وهادفة، فإنهم سيطوون صفحة سوداء من تاريخهم المشترك لفتح صفحة جديدة اشدّ سوادًا، خصوصًا أن المصطلحات المفترض أن تكون موحدّة المفاهيم مختلف على تفسيرها في الوقائع اليومية وفي الدستور. والدليل أنه مع كل استحقاق دستوري يختلف اللبنانيون الممثلون بالمجلس النيابي بنواب حزبيين وآخرين مستقلين على تفسير بعض المواد الملتبسة في الدستور.
أمّا إذا تصارح اللبنانيون ووضعوا كل هواجسهم على طاولة التشريح التفصيلي فإنهم سيخرجون من هذا المؤتمر، الذي سيؤيده بالطبع كثيرون من الخارج، عربًا وأميركيين وأوروبيين، متصالحين مع ذواتهم أولًا، وبين بعضهم البعض ثانيًا، بما يؤشّر إلى إمكانية بدء مسيرة العهد الجديد على بياض ومن دون زغل في النوايا.
وبالعودة إلى ما يجري في الجنوب فإن الحكومة وافقت على القرار الأميركي بتأخير الانسحاب الإسرائيلي إلى 18 شباط لأسباب قد يراد منها أميركيًا ضمان تنفيذ اتفاق وقف النار تنفيذًا كاملًا من قِبل إسرائيل، بعدما التزم لبنان تطبيقه كاملًا، وذلك على رغم الجدل الحاصل بين اللبنانيين بالنسبة إلى التفسيرات المتناقضة لبنود هذا الاتفاق ولمقدمته، التي تُعتبر جزءًا لا يتجزأ من الاتفاق بكامله، وبالأخص في ما يتعلق بسلاح "حزب الله".
وهذه التفسيرات المتناقضة في قراءة اتفاق وقف النار كما التفسيرات الأخرى دافعٌ أساسي لعقد المؤتمر الوطني، على رغم وضوح ما جاء في هذا الاتفاق، الذي لم يكن ليبصر النور لو أن "حزب الله" لم يوافق عليه مرتين: الأولى، عبر المفاوضات التي تولاها الرئيس نبيه بري مع الأميركيين بشخص آموس هوكشتاين، والثانية، عبر وزيري "حزب الله" اللذين وافقا كما وافق بقية الوزراء على الاتفاق كما جاء حرفيًا.
كان يُفترض أن تشكَّل الحكومة العتيدة قبل ما سمي "عرس النصر" في الجنوب المخضب بدماء أكثر من 24 مدنيًا وأكثر من مئة جريح، ولكن هذه الاندفاعة الأهلية، التي نظّمها "حزب الله" وأعدّ لها بكل تفاصيلها قبل أيام، أعاقت تشكيل الحكومة، وإن كانت عقدة حقيبة وزارة المالية آيلة إلى الحلحلة. وقد تطرأ خلال الساعات الأربع والعشرين المقبلة عراقيل أخرى من قِبل الأحزاب المسيحية، التي ترفض إسناد الحقيبة المالية إلى "الثنائي الشيعي" بعدما كانت وافقت على أن يولى هذه الحقيبة شيعي غير منتمٍ سياسيًا إلى "حزب الله" أو حركة "أمل". المصدر: خاص "لبنان 24"