مراكش الحمراء.. وسوسيولوجيا الجذب والانفتاح
تاريخ النشر: 24th, February 2024 GMT
أريد لمدينة مراكش الحمراء (عمارتها ذات اللون الأحمر اقتراناً بتربة جبالها)، أن تكون مدينة دبلوماسية بامتياز، لجهة المؤتمرات واستقبال الوفود والتظاهرات العالمية الثقافية والفنية.
هكذا، تمّ إعداد المدينة كي تكون جاهزة لاستقبال أي مؤتمر دولي أو عربي استثنائي وطارئ، لجهة الفنادق الفخمة، والمقاهي الجميلة، والشوارع المُشجّرة، ناهيك عن السمعة الجاذبة لساحة جامع “الفنا”.
يشهد على ذلك اجتذاب المدينة الكُتّاب والفنانين والمشاهير للسكن والاستيطان فيها، كاستثمار ثقافي، لما للمدينة من حمولة تاريخية، واستثمار اقتصادي، نظراً للتسهيلات التي يوفّرها المغرب لرأس المال الأجنبي، واستثمار في المناخ المشمس الساطع والمعتدل برداً وشتاءً، خلافاً للعواصم الأوروبية المحيطة بها.
“الشرق” عاينت أبرز قصور مراكش الشهيرة، وخصوصاً قصرَي “البديع” و”الباهية” وساحة جامع الفنا وغيرها، ورصدت السيّاح وهم سعداء بالشمس، وبأهل مراكش الطيبين، ذوي الأتيكيت السياحي، يتكلّمون لغات عدّة، مثل الفرنسية والإيطالية والبرتغالية والإسبانية والإنجليزية.
عاصمة الثقافة الإسلامية 2024
تمّ اختيار مراكش عاصمة للثقافة في العالم الإسلامي لعام 2024، ما جعل وزارة الثقافة والإدارات المعنية بالأمر، تضع أرضية ثقافية فنية، لتنظيم المهرجانات والندوات واستقبال العالمية منها، مثل “المهرجان الدولي للضحك”، وراهناً نشاهد حملات إعمار وتشجير وتزيين المدينة ضوئياً.
الكُتّاب الأجانب في مراكش
اعتبرت مراكش مدينة للكُتّاب المنفيين عرباً وأجانب، استوطنوا وأبدعوا فيها كوطن بديل؛ لِما لها من جو فكري وثقافي متسامح، غني بالمصادر التراثية والكتب المترجمة، علاوة على الانسجام مع المجتمع المراكشي المغربي، لجهة الكفاءات الأكاديمية، والتحدّث بلغات عدّة.
هذا كله يأتي بموازاة شغف المغاربة بالثقافة تنظيماً للندوات والمهرجانات الفنية والفكرية، وتقديراً للأجنبي، وكأن مقولة جوليا كريستفيا “الغريب، هو الذي يسكُننا على نحو غريب”، حاضرة بينهم، وكذلك مقولة دريدا “أما أن تكونَ الضيافة لا نهائية أو لا تكون، فإنها مُتّفقة مع استقبال فكرة اللانهائي، أي اللا مشروط”.
تؤكد المدن على كونيتها، بمقدار جذب الأجنبي إليها، في علاقة تداولية، ثقافية أو اجتماعية، وأيضاً في علاقة قصّ وحكي؛ أي كلا الطرفين يروي عن الآخر.
يُقارب الكاتب والمترجم محمد آيت لعيمم مراكش على خطى الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو، في روايته “مدن لا مرئية”، ويقول لـ”الشرق”: “مراكش هي عصارة حضارات تتابعت عبر أزمنة مختلفة، ما جعلها مدينة تحتوي مدناً غير مرئية. مدينة ذات مزاج روحي، لا يزال عبق التاريخ يفوح من بين جدرانها العتيقة، تحافظ على ساحتها العمومية السماوية المليئة بالفرجة والمتعة والأطباق الشهية”.
مفتخراً بجاذبيتها للكُتّاب والفنانين، شبّه الأديب الأرجنتيني بورخيس مراكش عندما زارها “بكثبان رملية في صحراء لا تستقرّ على قرار”.
هكذا، استقطبت مراكش الكاتب الإسباني خوان غويتيسولو منذ عام 1975، وهو الروائي والصحفي والمستشرق، ويعتبره البعض من سلالة الموريسكيين رمزياً، أي عرب الأندلس اللذين تمّ تهجيرهم وطردهم من إسبانيا.
في هذا السياق، يتأسّف غويتيسولو قائلاً: “إن إسبانيا فقدت بعضاً من روحها حينما طردت العرب والمسلمين”. ويقول مستشرق إسباني آخر “عندما تحكّ جلد أي مواطن إسباني، ستجد عربياً تحته”.
غويتيسولو وساحة “الفنا”
اعتبر الكاتب ساحة جامع “الفنا” حاضنة للتراث اللامادي، من باب السرد الشفاهي وحلقات الحكواتيين، أسهمت بازدهار السرد والقصص والروايات شعبياً، إذ إن السرد أو الحكاية، يحتاج إلى جماعة لكي يحقّق غايته، “فلا يروى أو يقصّ إلا على جماعة من الناس”، مثلما يقول الكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو.
من هنا جاءت فكرة الحكواتي، بل إن المقهى نشأ كمكان حضري مديني تلبية للسرد والقصّ: ساهم ازدهار المقهى في مدينة اسطنبول عام 1554 قبل قرن من وجوده في مدن مهمّة مثل لندن باريس وأمستردام، بتأسيس نواة المدينة الحضرية، إذ تأسّس في المقهى مسرح الدمى، (قرقوز التسمية التركية)، ومهّد بدوره لانطلاق مسرح المدينة، وظاهرة الحكواتي لاحقاً.
تكلّلت جهود خوان غويتيسيلو في روايته “المقبرة” نجاحاً، عندما اعتبرت اليونسكو ساحة جامع “الفنا” تراثاً شفوياً عام 2002، وهو الذي عاش في أزقتها، وجلس في مقهاه الشهير “مقهى فرنسا”، حيث كان يستقبل المثقفين العرب والأجانب.
دُفن غويتسيلو في “مقبرة الغرباء” في مدينة العرائش، التي تضمّ قبر صديقه الكاتب الفرنسي جان جنيه، صاحب النصّ الشهير (أربع ساعات في صبرا وشاتيلا)، الذي نشر في مجلة الدراسات الفلسطينية عام 1983. ويُقال إنه أوصى أن يُدفن مع المغاربة في مراكش.
تشرشل رساماً في مراكش
عاش رئيس الوزراء البريطاني تشرشل في بداية الأربعينيات في مدينة مراكش، في فندق “المأمونية” الشهير. كان يرسم الثلوج على قمم جبال “أوكايمدن”، كما رسم لوحة “برج مسجد الكتبية” عام 1943، التي عُرضت في مزاد “كريستيز”، وتحوّلت غرفته هناك إلى متحف صغير للوحاته (رسم في مراكش 7 لوحات).
كان تشرشل يحبّ التجوال في المدينة القديمة، مستمتعاً بأشعة الشمس، التي أسهمت هي الأخرى بنتاجات كل من الرسّام الفرنسي بول كلي، في تونس وطنجة وماتيس.
ومن بين الأجانب اللذين استوطنوا المدينة الحمراء، علماء وكُتّاب وفنانون، من بينهم الأنثروبولوجي الهولندي بيرت فلينت، مدير متحف للأنتيك، ومؤلف كتاب “الشكل والرمز في فنون المغرب: المجوهرات والتمائم”، الصادر عام 1973.
كما أقام فيها الكاتب الألماني إلياس كانيتي، الحاصل على نوبل (1981)، فكتب روايته “أصوات مراكش” عام 1958، مسجّلاً انطباعاته عنها قائلاً: “هي عملٌ أقرب إلى معمار موسيقي شديد الرهافة والدقة، يشفّ حد الشجن، يصخب حد العنف، يسافر راحلاً في الفرح، يتماوج مع المدينة، ثم ينساب مختزلاً نبض مراكش في دقة مذهلة”.
زفاف ابنة بوتين
استضافت المدينة حفل زواج ابنة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كما زارها الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي لتوقيع كتابه في مقهى”البريد”. وتعلّق بالمدينة المطرب الفرنسي من أصل أرمني شارل أزنافور، والرئيس الجزائري السابق أحمد بن بلا، ولاعب كرة القدم زين الدين زيدان.
يقول المثل المغربي “مراكش ولّافة من الألفة، والرباط مقناطة من الضجر”؛ لكن الأهم، أن لكلّ مدينة طرازها المعماري، وأزياؤها، وموسيقاها، ومطبخها. وعليه، تختلف طنجة المدينة العالمية المفتوحة، عن أكادير، وهذه عن الدار البيضاء والرباط، ما يكسب المغرب تنوّعاً في نواحٍ كثيرة.
ومن أبرز الأجانب الذين استوطنوا مراكش، وشيّدوا فيها مشروعات رائعة، الفنان الفرنسي جاك ماجوريل؛ إذ رمّم حديقة “جنان الصفصاف”، وهي تحمل اسمه راهناً “حديقة ماجوريل”. لا يستغني السائح عن زيارتها، وهي حديقة أركيولوجية فيها أنواع نادرة من النباتات، ومعمارها على الطريقة المغربية (زليج بلدي، أي موزاييك، ونقوش شهيرة في المغرب تسمّى التسطير).
تضمُّ الحديقة أيضاً المتحف الأمازيغي الذي يتميّز بالإخراج السينوغرافي الجميل، ومتحف إيف سان لوران المولود في وهران، وهو من أشهر مصمّمي الأزياء العالمية والعطور والحقائب.
لوران والقفطان المغربي
شغف لوران بمراكش قائلاً عنها “إنّها الجنة”، سحرته الألوان المغربية، فاستعملها في تصاميمه، مخترقاً التناسق التقليدي اللوني في نماذج راقية من القفطان المغربي، بألوان صارخة مدهشة، لا يزال حضورها لافتاً.
في السياق ذاته، عاش الإيطالي لاورو ميلان، مُرمّم وصاحب “الحدائق السرية”، وهي تحفة معمارية أركيولوجية ذات معجزة مائية وقتذاك، إذ جُلب لها الماء من الجبال بحسب نظام “الخطّارات”، وهو عبارة عن نظام مائي شهير في المغرب، يعتمد على سواقي تأخذ المياه من الجبال المحيطة بالمدينة، عبر هندسة دقيقة، تعتمد على الانحدار الذي يعمل بدوره كمضخة مائية.
فضلا عن الفندق الشهير “الفصول الأربعة”، للاعب كرة القدم كريستيانو رونالدو، وفندق “نوبو” الفخم بديكور مغربي ياباني، للممثل الأميركي روبرت دنيرو، وهناك قصور وفيلات، ومتاحف لمشاهير وسياسيين عرب وأجانب.
تاريخ حافل
تأسست مراكش على يد السلطان الأمازيغي يوسف بن تاشفين 1071، واتخذها عاصمة له، ومنها انطلق بجيشه لنصرة الأندلس، وقيادة معركة مشتركة مع حاكم أشبيلية الشاعر المعتمد بن عبّاد، منتصرين على الإسبان في معركة “الزلاقة”.
هكذا، أسهمت المدينة بتأخير سقوط الأندلس قرابة قرن. تولّى حكمها لاحقاً الموحّدون، فالمرينيون والسعديون، ثم آلت أخيراً إلى حكم العلويين منذ القرن السابع عشر.
كانت المدينة في تاريخها عاصمة سياسية وثقافية، أسهمت بشكل بارز في تحوّلات المغرب الحديث، وفي تاريخ موريتانيا والجزائر بل وإفريقيا، إذ انطلق منها إلى هناك، أبو بكر بن عمر اللمتوني زعيم وابن عم ملك المرابطين بن تاشفين .
تسمّى مراكش أيضاً مدينة النخيل، ومدينة” السبعة رجال”، وهم سبعة من الفقهاء والقضاة والمتصوّفة تقع أضرحتهم فيها.
العراقيون في مراكش: وطن بديل
المنفي هو عراقي بامتياز، والعراقيون هم أكثر الشعوب بحثاً عن وطن بديل، على الرغم من تعّلقهم بالعراق. تنوّعت أسباب النفي لديهم، من السياسي إلى المنفى الثقافي، وهم دون سواهم، من أكثر الجاليات العربية التي سكنت المغرب عامّة ومراكش خاصّة.
يعود ذلك إلى وقت مساهمتهم في حملات التعريب بعد استقلال المغرب، فآثروا البقاء فيه حيث كوّنوا عائلة عراقية – مغربية، وأسسوا مشاريعهم الاستثمارية، ومنهم من جاء لائذاً بالمغرب وطناً بديلاً.
الروائي والشاعر وعالم اللسانيات
عاش الروائي عبد الحقّ فاضل سفير العراق في الصين يومذاك، لاجئاً في مراكش (30 سنة) منذ عام 1963، ولغاية وفاته في العراق عام 1992. كان مشرفاً على مجلة “اللسان العربي”، التي يُصدرها مكتب تنسيق التعريب التابع لجامعة الدول العربية.
من مؤلفاته “مجنونان” (1939)، “مزاح وما أشبه” (1940)، “حائرون” (1958)، “طواغيت” (1958)، فضلاً عن مؤلفات كثيرة، وهو اللساني صاحب مفهوم “العربية هي أم اللغات الآرية، لا السامية فقط، وأن أصحابها كانت لديهم حضارة عريقة”.
جاء عبد الحقّ فاضل بعلم “الترسيس”، أي ردّ الكلمة إلى رسّها، مثلما نطقها الإنسان الأوّل محاكاةً لأصوات الطيور والرياح والأشجار (نقله عنه المستشرق الفرنسي جاك بيرك)، وعلم “التأثيل” هو ردّ الكلمات إلى أمها المباشرة، أو إلى جدّتها المباشرة.
الطبيب والرسام وخبير السومريات
بهاء الدين الوردي جاءها مع ابن عمّه عالِم الاجتماع علي الوردي، فاستقرّ فيها، محبّذاً مراكش وثقافتها، وكان يستضيف المثقفين في صالونه الأدبي. نشر كتابه “حول رموز القرآن الكريم” عام 1990. اللافت، هو تجربة الفنان التشكيلي العراقي طه سبع في المدينة الحمراء، إذ يعيش فيها منذ نهاية السبعينيات، معتبراً إياها “بغداده الثانية”.
هو ذاكرة المدينة، يروي عنها بشغف واعتزاز، عارفاً كل زقاق ومقهى وناصية فيها، بحيث أصبح حدثاً من تاريخها وسجلاتها. أقام معارض تشكيلية متنوّعة وكثيرة، كما تربطه علاقات وثيقة مع كُتّاب وفناني المدينة.
الشرق للأخبار
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: فی مراکش
إقرأ أيضاً:
شـواطئ.. سفيرة النجوم فيروز وسوسيولوجيا الإبداع (1)
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
تأثرت أعمال الرحبانية بمظاهر الطبيعة والبيئة تأثرا بالغا، مما جعل هذه الأعمال أكثر إقناعا ومصداقية، وبشكل أو بأخر عززت مدركاتهم الحسية ودعمت أفكارهم الفنية، فالبيئة وما فيها من كل خصائص ومميزات أعطتهم تسليما بأن الثقافة والفن وليد البيئة والإنسان معا، وهذا ما يجعلهم يتميزون بأعمالهم وفقا للظروف الاجتماعية في الحقب الزمنية التالية لهم.
إن هذه العوامل البيئية بتعدد مفهومها وتنوع اختصاصاتها، تعد مصدرًا من مصادر التذوق الإجمالي انطلاقا من القيمة الأخلاقية في بيئة الرحبانية، وبالتالي اكتسبت ثقافة الرحبانية ديمومتها من خلال الصلة الوثيقة التي ربطتهم بكل مظاهر وظواهر المجتمع، وهذه الظواهر أعطت انعكاسات وتطورات حدثت نتيجة تحول اجتماعي في بيئتهم ارتبطت بواقع بلادهم بكاملها في ماضيها وحاضرها، ولذلك فقد فهموا واقعهم ركزوا فيه وأبرزوا مظاهره الإيجابية وانطلقوا من مبادئ حيوية جعلوها ضمن حالة التوازن مع متطلبات بيئتهم الاجتماعية الجديدة ومفاهيمها الحديثة.
وكذلك كان للثقافة أثر كبير في طرائق التعبير والتفكير الأكاديمي عند الرحبانية، فقد ساهمت في تطورهم الاجتماعي وانعكاسه من خلال المتغيرات والنزعات والميول الخيالية التي صادفتهم، وكانت سببا في الاتجاهات المتطورة في أساليبهم الفنية. وتأتى سوسيولوجيا الرحبانية في الإمعان بما تولده البيئة في أشعارهم من الحديث عن المكان والزمان وآثر ذلك على الفصول في ظل الإحساسات المتباينة بين الوحدة والتوحش والضجر، والفرح والضحك والتأمل والحب ومناجاة لكل ما في الطبيعة من تأثير مباشر. من هنا تأتى أهمية كتاب "فيروز وسوسيولوجيا الإبداع عند الرحبانية 1960 – 1980" للدكتور محمد الشيخ والصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
ولد الأخوان رحبانى عاصي 1923 ومنصور 1925 في ظل المكان الذي استأجره والد الطفلين (حنا الياس الرحبانى) والذي يقع في منطقة "الفوار" على تخوم بلدة انطلياس شمال لبنان، حيث الطبيعة الجبلية والمناخ اللبناني المعروف، مما جعله مكانا شعبيا لأولئك الذين يبحثون عن جلسة هادئة وسعيدة فى بيئة ريفية محاطة بمكونات الطبيعة الجميلة، من خلال تربيتهم في البيئة الجبلية المحاطة بجبال عالية خضراء ومناخ شهير بالجمال وهارمونية الألوان ومياه الجداول ومناطق خلابة ومزارع وأنهار وسواحل أضافت إليها أيادي البشر ما يزيد من متعة الالتصاق بها ومبادلتها المشاعر والاهتمام بمصداقية العطاء.
أما فيروز فقد ولدت فيروز لأب كاثوليكي سرياني من مدينة ماردين في تركيا حاليا، وأم مارونية، فى منطقة جبال الأرز، التي تعتبر أعلى قمة في بلاد الشام وتقع في شمال لبنان على سلسلة الجبال الغربية وتمتد على طولها بشكل يوازى البحر الأبيض المتوسط وهى أحد أبرز المناطق السياحية هناك حيث تشتهر بوجود شجر الأرز المُعمر الذي هو رمز لبنان وتسمى منطقة الدبية، وقد ولدت فيروز باسم نهاد حداد وهى المولودة الأولى لرزق وديع حداد ووالدتها ليزا البستاني، فى 21 نوفمبر 1935، أي في السن الذي ولد فيه عاصي رحبانى، كانت البنت الكبرى لوالدها لثلاثة أخوه هما (هدى وآمال وجوزيف) انتقلت بعد عامين إلى بيروت وسكنوا في زقاق البلاط الحي القديم المجاور لبيروت، حيث كان يعيش الناس من جميع الطوائف من زمن بعيد ولأجيال في حياة مشتركة وآمنة، ويعتبر هذا الحي التي سكنته فيروز وعائلتها من الأحياء المهمة في تاريخ لبنان.
عاشت فيروز في منزل متواضع مكون من غرفة واحدة، وكانوا يتشاركون في المطبخ والأدوات الأخرى، وكان وديع حداد متواضع الحال، يعمل عاملا في مطبعة وكان هادئًا، حسن الأخلاق مُحب لجيرانه ومحبوب منهم.
نشأت في معاناة معيشية ربما لم تشعر بها لوجود الجيرة التي انتسبت بها وتبادلا معزة خاصة، كما أن التركيبة الإنسانية لديها مسقوفة بالرضا والبساطة وهى لم تتطلع إلى مستويات عالية لم ترها أو تشعر بها ربما لانشغالها بشئون المنزل وبتربية أخواتها وبهوايتها اليومية، فكانت تقضى حياتها راضية غير قنوطة، بل العكس كانت تصف هذه الأيام أنها أيام سعيدة، والواقع أن هذه المعاناة لها معادل داخل النفس، فقد تركت نوعًا من الآسي والخنوع لشدة الحال، وأشعلت الشعور بالوحدة الداخلية والاستسلام كنوع من الرضا، ولكن هذه المشاعر أضاءت لها طريق العصامية، فأصبحت تُقدر معنى المعاناة وأصبح عندها حٍس معنوي وحٍس صوتي للتعبير عن كافة أنواع المشاعر، كما خلق بداخلها دوافع الجلد والإيثار، وأصبحت قدراتها الصوتية مُسلحة بهذه المعاني، وهذا هو المعنى الحقيقي لمعاناة الفنان المبدع أن تكون ظروف الحياة وملابساتها في ظل حياة كادحة بسيطة دافعًا قويًا في تكوينه الداخلي، حيث أنه لمس بحسه كل المشاعر إن كانت مادية أو معنوية. إن العلامات السوسيولوجية في حياة فيروز شكلت بداخلها نوعًا من المعاناة الإيجابية أثقلت مفهومها الإبداعي الصوتي في طرح الغناء بتلوين بسيط وسلس دون تكلف حتى في الحالات التي كانت تستدعى غناء تطريبيًا.
وللحديث بقية