عقوق في حقوق أمة
تاريخ النشر: 24th, February 2024 GMT
عمر العمر
مع تصاعد الحرب البشعة يزداد أخدود الفصام السوداني عمقا. فزهونا بسماحة أخلاقنا وطيبة طينتنا لم ينجحا في تطويق لهيب الحرب أو رقعة التدمير .كذلك اتسعت دائرة الفصام فطغى على النقدِ التجريحُ المباح والقذف الحرام للآخر أفرادا وجماعات. ثم انزلقنا من النقد الذاتي إلى لوم الآخر مرورا بالعتاب إلى جلد الذات وصولا إلى الإذلال الذاتي.
*****
هناك بون شاسع بين النقد الذاتي وكل تلك الممارسات السلبية من جلد الذات إلى إذلالها. فالنقد في العمل العام فضيلة ديدنها تقويم التجربة بغية تجاوز السلبيات مقابل تعزيز الإيجابيات. بينما جلد الذات ضرب من ممارسة التوغل في الانكسار حد الاستسلام للاكتئاب بل الهزيمة. نجاح النقد الذاتي يعتمد على تطبيق النقد الموضوعي بغية بلوغ خلاصات سعيدة. لكن عمليات رجم السابقين ،تهشيم الآخرين وتحقير المنافسين لن تفضي إلى نهايات منطقية. كما ينبغي التحرر من الأحكام الشخصية خاصة المشرّبة بالأهواء والأغراض مثلما ينبغي الفرز بين الحقائق والأوهام .تلك قواعد بسيطة من منظومة متكاملة تستهدف النأي عن الاكتفاء بإصدار الأحكام المبتسرة.
*****
فغالبية أدبياتنا السياسية المكتوبة والمنطوقة تحت غبار الحرب تصدر عن انفعالات شخصية مشحونة بعواطف وقتية ،فتتخذ طابع القنابل إذ تحدث مزيدا من التشظي الإجتماعي .فبنيانها شتائم تستهدف تحقير أفراد و أُطر إجتماعية من منظمات الشباب إلى قوام القبائل . في تلك الأدبيات تكثر مفردات استصغار صادرة من نفسيات جوفاء إلا من الاستعلاء المعرفي أحيانا والإجتماعي غالباً. في ذلك يندرج من يحاول اطلاق أحكام معممة استناداً إلى حيثيات يتم بناؤها على عجل خارج مناهج البحث والتوثيق. العديد من المثقفين وربما كل الساسة المحترفين يتبادلون السباب والشتائم بعيدا عن مبادئ و أفكار غاياتهم المطلقة التهشيم لا التقويم.
*****
هكذا تُصب اللعنات على جيل الأباء المؤسسين جملة واحدة بلا استثناء. رغم وجو د ثلة بينهم من الوطنيين الانقياء سيرة وسريرة. كذلك يتم تحقير إرثهم ضمن توصيف ظالم لما عاد يُعرف بتبخيس دولة (ست وخمسين ). هي محاكمة ظالمة تتجاهل عمدا أو تجهل بيئة المؤسسين الدراسية تحت مظلة استعمارية لغايات ليست وطنية. كما تتجاهل أو تجهل نضالاتهم الاستثنائية بغية تثقيف أنفسهم مواكبة لنخب إقليمية معاصرةً سبقتهم. بين أولئك رجال يستحقون التبجيل كما فعلت شعوب مع أمثالهم. المحاكمة الظالمة تغمض الطرف عن حال البلد و مصادره المحدودة الضيقة عشية الاستقلال ،فجره وضحاه .من أولئك المدانين ظلماً في مرحلة ما بعد الاستقلال وطنيون خُلّص يتسمون مثل أولئك السابقين بالاستقامة الشخصية والوطنية ، شغلوا مناصبهم بتفانٍ وشفافية وغادروها مثلما خرجوا من الدنيا بلا أرصدة إلا من حب الناس. لو اقتدى اللاحقون و الحاليّون بنهجهم في الولاء و السخاء المجردين من الذاتية لبلغنا شأواً وطنيا شاهقا .
*****
كل من يدين أولئك الرواد يفتقد إلى الموضوعية إذ يجنح عمدا عن الحيادية العلمية لجهة تكريس المحاكمة الظالمة والاحكام الجائرة من أجل بلوغ غايات محددة ليست وطنية البتة .محاولة شجب ماضينا القريب حد المجاهرة بإلغائه تحت لافتة إدانة دولة ٥٦ أبرز أنمذجة هذه الممارسا الخرقاء. عديد من رافعي هذه اللافتة وجدوا في وصم استاذنا الراحل منصور خالد -ملأ الله مرقده بالمغفرة- النُخب ب(إدمان الفشل) وصفة جاذبة لدمغ كل المرحلة الوطنية بالاخفاق وجميع المشاركين فيها بالغباء. على قدر ماكان منصور دقيقا في تحديد من استهدف بالوصم على قدر ما انحرف الشاجبون الجدد عن الموضوعية لجهة التعميم المخل. حتى المتورطين في الحرب البلهاء الراهنة عمدوا إلى استثمار هذا التعميم في محاولة بائسة لتبرير جرائمهم الشنعاء ضد الشعب والوطن.
*****
فالعقوق السافر الجارح لم يقتصر على جيل الآباء المؤسسين والرواد والفاشلين حاليا بل أمسى يستهدف الأمة السودانية قاطبة. إذ صار مألوفا رجم الشعب بنعوت تكرس ذلك الفصام . فالتواضع صار بلهاً، السماحة صارت سذاجة، الكرم أمسى هدرا والغيرة أصبحت حسدا . في المقابل تصبح استباحة المال العام ممارسة مشروعة ، لايغض عنها المحاسبة بل يتحلى مرتكبوها بالاشادة! الراصد للفصول السياسية في حقبة (دولة ٥٦) يجد انجازات لا ينكرها إلا مكابر .لو ترسم اللاحقون ميسم أولئك السلف الأخلاقي ونهجهم الوطني لبلغنا شأوا وطنيا شاهقا في حقول التعليم ،التطبيب والتحديث الاقتصادي والاجتماعي .أسوأ من في أولئك الراحلين لو عاد إلى الحياة لمات مجددا من هول الوقع بما فيه من حملات النهب الممنهج للدولة وكهوف التعذيب .حتى أباء الادارة الأهلية لآثروا الموت على رؤية فصام أبنائهم .
*****
توغلا في العقوق راح البعض ينقب في التقارير والرسائل مستعرضا أقاويل المستعمرين والدبلوماسيين الاجانب شهادات ضد النخب الإدارية والسياسية الحاكمة سابقا .هم يفعلون ذلك دون محاولة إعمال الذهن في تفكيك ظروف ،دوافع وغايات تلك التقارير والرسائل. بل استسهلوا تلبيسها ثم ترويجها بخبث يوازي التلويح باهداف نبيلة فوق فوهات المدافع بغية تبرير التوغل في عمليات الحرب المتوحشة الراهنة.
صحيح ماضينا لم يكن زاهيا لكن نقده لا يستوجب لعنه . فما نحن فيه أكثر بؤسا مما كنا عليه .ممارسات التهشيم والتنابذ بلغة ناعمة أو خشنة و الوخذ بالألسن على شاشات التلفزة ووسائط التواصل لن تجمّل بؤس الواقع. كما لن يشكل الهجاء الفردي والجماعي رصيدا اخلاقيا يمكن الإقتداء به أو البناء عليه .أي فكر وطني مستنير يهزأ حتما من تبادل السباب بين النخب .فعوضا عن تكريس الوعي من أجل إطفاء نا الحرب الرعناء يشتبك عديد من مثقفينا في حروب شخصية جانبية تؤجج الكراهية والأحقاد! عقوق في حقوق أمة!
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: عمر العمر
إقرأ أيضاً:
اليمن: عقيدة «الحوثي» تتنافى مع مفهوم الدولة الوطنية
أحمد شعبان (القاهرة، عدن)
أخبار ذات صلةأكدت الحكومة اليمنية أن ميليشيات الحوثي لا تؤمن بالسلام ولا بالحوار لأن عقيدتها قائمة على التحريض المتنافي كلياً مع مفهوم الدولة الوطنية والمواطنة المتساوية، مشيرةً إلى أهمية تضافر الجهود لاتخاذ التدابير كافة لإجبار الميليشيات القبول بالحل السياسي.
جاء ذلك خلال لقاء سفير اليمن لدى روسيا، أحمد الوحيشي، أمس، المبعوث الخاص للرئيس الروسي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا ميخائيل بوغدانوف.
وفي السياق، منعت ميليشيات الحوثي في محافظة ذمار، أهالي قرية «ورقة» بمديرية «ميفعة عنس» من إقامة صلاة التراويح في مسجد قريتهم، واعتقلت إمام وخطيب المسجد. وقالت منظمات حقوقية إنها «تلقت بلاغاً من أهالي قرية ورقة بمديرية يفيد باعتقال الميليشيات لإمام وخطيب مسجد القرية، منذ يوم الاثنين الماضي، ومنعهم من إقامة صلاة التراويح في المسجد». وحذر خبراء ومسؤولون من استمرار ميليشيات الحوثي في ممارساتها وانتهاكاتها باختطاف المدنيين، خاصة النساء، بجانب موظفي المنظمات الأممية، وتهديد أمن المجتمع، وزعزعة استقراره.
ووصف وكيل وزارة حقوق الإنسان في اليمن، نبيل عبدالحفيظ، جريمة اختطاف المدنيين وموظفي الأمم المتحدة بأنها «مروعة»، وحدثت في مناطق عدة، وتعكس حالة الهلع التي تعيشها الميليشيات، خصوصاً بعد الضربات المركزة لعدد من مواقعها العسكرية.
وأوضح عبدالحفيظ في تصريح لـ «الاتحاد»، أن «الحملة المسعورة لاختطاف المدنيين جاءت بادعاءات مختلفة وباطلة، فقد اعتادت الميليشيات كيل التهم جزافاً، بما يعكس حالة الاضطراب التي تمر بها في هذه الفترة، وقد قامت وزارة حقوق الإنسان اليمنية بإدانة هذه الجرائم وتوثيقها».
من جهته، اعتبر الكاتب اليمني المتخصص في شؤون حقوق الإنسان، همدان ناصر، أن عمليات الاختطاف والإخفاء القسري التي تمارسها الميليشيات مستمرة منذ سيطرتها على صعدة في عام 2011، ولن تتوقف في ظل سلبية المجتمع الدولي العاجز عن فعل أي شيء لوقف هذه الجرائم.
وشدد العليي في تصريح لـ «الاتحاد» على أنه يجب تحميل الحوثيين المسؤولية الكاملة عن هذه الانتهاكات والجرائم، والضغط عليها لتحقيق السلام والحفاظ على حقوق الإنسان في اليمن، التي ضمنتها الشرائع الدولية.
بدوره، حمّل مدير مكتب حقوق الإنسان بأمانة العاصمة صنعاء، فهمي الزبيري، الميليشيات الحوثية المسؤولية القانونية والأخلاقية نتيجة تدهور الوضع الإنساني في اليمن، بسبب انتهاكاتها واختطاف المدنيين، مشيراً إلى أن الحوثيين يواصلون انتهاكاتهم ضد اليمنيين من قتل وتعذيب وتفجير منازل ونهب ممتلكات.
وفي تصريح لـ «الاتحاد»، حذر الزبيري من استمرار انتهاكات الحوثي ضد المدنيين وحقوق الإنسان، وتحدي المجتمع الدولي والقانون الإنساني.