الأسئلة العشرة وأخواتها التي وجهها محمد جلال هاشم للوليد مادبو
تاريخ النشر: 24th, February 2024 GMT
الأسئلة العشرة وأخواتها التي وجهها محمد جلال هاشم للوليد مادبو:
□ أولا:
○ النخب هي النخب، ونفس هذه النخب، بصرف النظر عن مرجعياتها الإثنية، هي التي دأبت على تجييش المليشيات والتنكيل بالمدنيين، دون أي مدعاة منطقية لأي فرز إثني بين هذه النخب.
□ ثانيا:
○ متى كانت هناك قوة تحارب من أجل اهداف نبيلة مثل رفع التهميش تتجه للانتقام من المدنيين العزل الأبرياء وكمان من النساء وانتهاك أعراضهن؟
○ هل من النبل وبغرض رفع التهميش أن يتم بالاغتصاب والنهب واستهداف المدنيين، واتباع سياسة الأرض المحروقة؟
○ هل يمكنك أن تسمي لي حركة تناضل من أجل رفع التهميش تفعل هذا؟
□ ثالثا:
○ هذا ما رأينا مليشيات الجنجويد المجرمة تفعله منذ لحظة تشكيلها وإلى الآن.
○ فهل لا زلت تعتقد بأنها فعلا تخوض حرباً نبيلة من أجل أهداف نبيلة هي ما أشرت لها قبل أيام؟
□ رابعا:
○ هل هذه الأفعال بدأت بعد قصف الضعين؟ ○ أولم تحدث هذه الانتهاكات المركبة خلال هذه الحرب من قبل ميليشيات الجنجويد المجرمة في الجنينة ونيالا وزالنجي والخرطوم وامدرمان وبحري ثم مدني وقرى الجزيرة، وكل هذا قبل قصف الجيش للضعين؟
□ خامسا:
○ وبموجب نص كلامك، إذن فهذه الانتهاكات قبل يوم لأعراض الحرائر في قرى اللعوتة والرِّبْع العوامرة وتخوم أبقوتة وغيرها، قد ارتكبتها ميليشيات الجنجويد المجرمة انتقاما لما جرى من قصف للضعين.
○ حسنا!
○ إذن !
○ هل هذا أنه اعتراف منك بمشروعية الانتقام من المدنيين وانتهاك أعراض الحرائر؟ ○ خاصةً وانك قد ذكرته دون أن تصدر منك ولو كلمة إدانة واحدة له، بينما ينضح أسلوبك بالأسى والغضب لما حدث في الضعين؟
□ سادسا:
○ هل نفهم من محمل موقفك هذا أنك بتصريحاتك الأخيرة من حيث إضفاء النبل وكل مخايل المقاصد السامية لحرب مليشيات الجنجويد المجرمة ضد الشعب السوداني وتوصيفها بأنها حرب تهدف لتحرير السودان من نخب بعينها، أن ميليشيات الجنجويد المجرمة هي التي شنت هذه الحرب؟
○ أم أنها بعد اندلاع الحرب قد اكتسبت نبل مقاصدها هذه التي تجلت في مجمل الجرائم النكراء التي ارتكبتها بقلب بارد ضد الشعب السوداني ممثلا في المدنيين وممثلا في معالم نظامية الدولة order of State حيث قامت هذه المليشيات بتجريدها من كل هذه المعالم؟
□ سابعا:
○ هل موقفك هذا من مليشيات الجنجويد المجرمة هو نفس موقفك منها من قبل، وأثناء الحرب، وإلى الآن، وهو موقف تقفه بالأصالة عن كونك تنامي إلى أرومة الرزيقات بخاصةٍ ومجموع ما يسمى بالعطاوة بعموم؟
□ ثامنا:
○ هل تعني بموقفك الأخير هذا، وما انطوى عليه من حمية قبلية لا تخفى، ولا أظنك بمنكرها، اعترافا صريحا بأن مليشيات الجنجويد هي الرزيقات بخاصةٍ ثم العطاوة بعموم؟
□ تاسعا:
○ أنت تقول: “… وأنا أرفض المفاضلة بين إثنين هما البرهان وحميتي. وهذا موقفي ظللت متسقا معه طيلة العشرة أشهر.”، وهذا يعني أن موقفك هذا رهين هذه الحرب، بحكم هذه الأشهر العشرة.
○حسنا!
○ فهل انت أيضا ترفض المفاضلة والممايزة بين الجيش السوداني ومليشيات الجنجويد وتنظر إليهما كشيء واحد؟
○ دعنا، بموجب انحصارك في هذه أشهر الحرب العشرة هذه، نستكشف خفايا موقفك.
○ الجيش الآن موجود في سنار وفي الدمازين وفي امدرمان وفي شندي وفي كريمة وفي الفاشر وفي القضارف وفي كسلا وبورسودان …، وقبلها كان في الضعين نفسها … إلخ.
○ في هذه الحرب تحديدا، وخلال هذه المدة:
○ هل هناك أحداث قام فيها الجيش بقصف الضعين قبل أن تستعصم مليشيات الجنجويد بأحيائها المدنية وبمدنييها، بالضبط مثلما فعلت هذه المليشيات الجبانة في الخرطوم وبحري وامدرمان، ثم في الجنينة ونيالا ومدني؟
○ لماذا لا تسال نفسك عن سبب امتناع مليشيات الجنجويد المجرمة في المكوث بالحاميات العسكرية التي أخلاها لها الجيش؟
○ لقد ظل الجيش ولأشهر في الجنينة ونيالا وزالنجي يتلقى القصف اليومي المدعوم بإمدادات دويلة الإمارات، دون أن يفكر أن يخليها ويحتمي بالمساكن وبالمدنيين، كما تفعل مليشيات الجنجويد المجرمة الجبانة. وقد تعرضت مناطق سكنية في الخرطوم وبحري وامدرمان ونيالا إلى القصف بعد أن ثبت لدى الجيش أن مليشيات الجنجويد الجبانة تحتمي بها وتتخذ من المدنيين دروعا بشرية.
○ فلماذا هذه الغضبة المضرية حال قصف الضعين؟
○ هل لأنها حاضرة أهلك الرزيقات الكرام؟ ○ وعلى من يفترض أن تتوجه غضبتك المضرية هذه؟
○ على الجيش الذي هدفه قصف مليشيات الجنجويد الجبانة المحتمية بالمساكن والمدنيين، أم كان ينبغي لغضبتك أن تتوجه إلى هذه المليشيات الجبانة التي زعمت أنك (ومعك من معك ممن تعنيهم بصيغة الجمع في حديثك) تمسك بقرونهم وتهدد بعاقبة إطلاق هذه المُقرنات المستوحشة، كما لو كانوا ثيرانا إسبانية قد أوغروها فاستوحشت؟
○ ثم هل لك، في هذه الحرب تحديدا، أن تذكر لنا أحداثا بعينها في كل المدن التي يوجد بها الجيش السوداني تحكي عن الاغتصابات الممنهجة لحرائر السكان المدنيين تحت تهديد السلاح كما ظلت تفعل مليشيات الجنجويد منذ اندلاع هذه الحرب؟
○ ألا ترى يا صديقي أنه هكذا ينبغي أن تنعقد المقارنات، أي بالإمساك بقرون الأحداث ومضاهاتها مع بعضها بعضا، ثم الخلوص إلى مثل مقولتك المقتبسة أعلاه، وليس عبر الإمساك بقرون أهلنا “البقّارة” كما لو كانوا هم أنفسهم البقر وليس ما يرعونه؟
□ عاشرا وأخيرا (وليس آخرا)،
○ أفلا ترى أنك بموقفك هذا هنا وفي مقولات أخرى، فيما فهمه قطاع عريض من الناس بأنك قد كشفت عن حقيقة اصطفافك الجنجويدي المتخفي وراء الانتماء الإثني الرزيقي، قد اتخذت من أهلك دروعا بشرية تتوقى بها دون اصطفافك الجنجويدي هذا ولو كان فيما تفعله تعريض لأهلك كيما يتحملوا جرائم مليشيات الجنجويد المجرمة والجبانة؟
○ فقد ظلت صوت العقل الوطني والحضاري والإنساني يكرر ويقول بأن مليشيات الجنجويد هي مليشيات إجرامية، ومن يقاتلون في صفوفها مجرمون، ولا يمثلون خلفياتهم الإثنية بأي حال من الأحوال، ذلك لأن المجرم لا قبيلة له ولا حاضنة له.
○ وقد تبنت قيادات الجيش نفسها هذا الخطاب الوطني والحضاري والإنساني.
○ ثم ها أنت كما لو كنت تريد أن تنتكس بكل هذا إلى عصبية القبيلة، وهي عصبية منتنة، تنبي عن تخلف، ولو كان المتخلف هذا متقدما بأعلى الشهادات. فكما يقول أهلنا: “قلم ما بزيل بلم”، وكم صدقوا وأيم الله! فعل هذا ما انت عليه، يا صديقي، وما أنت بصدده؟
○ هل هذا ما يقوله المثقف ويتبعه ولو كان على حساب نفسه، أم هذا هو ما يقوله النخبوي الأفندوي صاحب الامتيازات التي هو مستعد للتضحية بأهله وشعبه ليستأثر بها ويستزيد منها؟
○ أمثقفٌ إنت يا الوليد أم مجرد أفندي نخبوي؟
○ فالظنُّ بك كان دائما أنك تقف على سنام مثقفينا، فهل كنا مخطئين في ذلك، لا قدّر الله؟
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: هذه الحرب
إقرأ أيضاً:
المدينة الآثمة بوصفها سردية العار المؤسس: الوليد مادبو وتفكيك الجنسانية السلطوية
(( المدينة الآثمة: "حديث الجنسانية" للدكتور الوليد مادبو نص يتجاوز التنظير إلى مساءلة الذات السودانية من خلال تشريح علاقتها بالجنسانية والجسد والسلطة )).
ليست هذه المدينة التي يصفها الوليد مادبو مكانًا بعينه، بل وعيًا مكسورًا يمشي على قدمين. مدينة لا تُبنى من حجارة، بل من وجوه، من نفاقات صغيرة، من خيانات ناعمة، من تلك الجُمل التي نتلفّظ بها ونحن نُخفي رغبتنا ونبتسم، من اللغة نفسها وقد صارت خادمة للسلطة وأداة للتبرير. المدينة الآثمة ليست هي الجغرافيا، بل هي المعجم حين يصير في خدمة القهر. إنها التجلي اللغوي للعار حين يُصبح نظامًا، للذة حين تتحول إلى حقل ألغام، وللأجساد حين تُعاد صياغتها لا بوصفها كيانات تشتهي وتُحب، بل كأوعية للسلطة، وساحات للعقاب.
في هذا النص المدهش، لا يكتب مادبو عن الجنسانية كما يُكتب عنها عادة، بوصفها تيمة بيولوجية أو مجازًا اجتماعيًا، بل بوصفها العقدة العصبية التي تتقاطع فيها السياسة، والدين، واللغة، والتاريخ، والطبقة. كتابه أشبه بتشريحٍ حارٍّ لجسدٍ مصلوب في قلب مدينة بلا قلب. جسد لم يُمنح أن يتكلّم، بل أن يُقال عنه، أن يُقرأ من أعلى، أن يُفسَّر دائمًا بغير لسانه، وأن يُطوى داخل أخلاق ملفّقة ليست سوى تجميل للهيمنة، وإعادة إنتاج للسيطرة.
في فضاء مثل الفضاء السوداني، حيث الجنسانية تُختزل في “الحياء”، ويُدار الجسد كملف أمني، ويُحوَّل الجمال إلى إثبات إدانة، فإن الكتابة عن الجنس ليست تجرؤًا، بل مساءلة للبنية الأخلاقية نفسها. مادبو لا ينطلق من فضيحة، بل من سؤال: من الذي يحق له أن يعرّي من؟ من يملك تعريف الحياء؟ من يصوغ اللغة التي نعبّر بها عن رغبتنا؟ ولماذا تكون الفحولة، حين ترتدي بزّة العسكر أو جبّة الإمام، محلّ احترام، بينما الحنان يُعدّ هشاشة؟ لماذا الفجور المنظَّم هو ما تمنحه المدينة شرعيتها، بينما الحب المتلعثم هو ما تسخر منه؟
هنا، تستدعي أطروحة مادبو استبصار بيير بورديو في “العنف الرمزي”، حيث تتحول أدوات التعبير إلى أدوات للهيمنة، وتُعاد صياغة الرغبة ضمن شروط السلطة. الجسد لا يُمنَع فقط، بل يُعلَّب. لا يُراقب فحسب، بل يُحتَقر.
لا يُخنق فحسب، بل يُختزَل. ولذلك، فإن اغتصاب النساء والأطفال – الذي يناقشه النص بشجاعة وصرامة – ليس انحرافًا فرديًا، بل ذروة نظامية لانهيار الرمز، وانكشاف الكبت كأداة سلطوية تُمارس بوَجهَيْن: الطهارة المدّعاة في العلن، والتوحش المؤسسي في الظل.
لكن ما يستدعي وقفة أطول في نص مادبو هو اشتغاله على اللغة ذاتها، لا بوصفها حاملًا للمعنى، بل بوصفها بُنيةً تشريحيةً للجسد الاجتماعي. هنا، لا يكون النص تفكيكًا لما هو مفعول به في الواقع فحسب، بل أيضًا لما هو مفروض علينا في المعجم. إذ لا يمكن للجنسانية أن تتحرّر ما دامت مفرداتها تُصاغ من داخل مخيلة القامع، ولا للجسد أن يسترد حقه في اللذة ما دام يُكتب بلغة العار.
في هذا السياق، يبرز استخدام لفظ “النياكة” بوصفه مركزًا دلاليًا يُلخّص كيف تتحوّل اللغة نفسها إلى أداة من أدوات الإخضاع.
لا يتحدث مادبو عن هذه المفردة بوصفها فعلًا جنسيًا، بل كمفردة ثقافية، كنظام لغوي متكامل يُعيد تشكيل الجسد ضمن علاقات الخضوع. وحين يستعمل هذا اللفظ، لا يفعل ذلك بهدف الإثارة أو الصدمة، بل ليكشف المسافة الفاجعة بين لغة الرغبة ولغة السيطرة، بين الجسد كحاجة بشرية، والجسد كأداة استعراض سلطوي.
يشير مادبو صراحة إلى أن هذا اللفظ كان ينتمي إلى بنية تعبيرية مشروعة، لكنها أُفرغت من معناها الديني، وصارت تُستخدم لاحقًا للتصنيف والازدراء، كما في قوله: “منيكة ساكت”. وهذا ما يستدعي قراءة سيميائية للنص، لأن اللغة هنا ليست وعاءً بريئًا، بل طرفًا أصيلًا في الجريمة.
إنها اللغة نفسها التي، حين تقول “شرف”، تُخفي اغتصابًا؛ وحين تقول “عفّة”، تُبرّر قتلًا؛ وحين تقول “رجل”، لا تعني نضجًا بل سطوة.
هكذا يتحوّل المعجم من أداة تواصل إلى سلاح تأديب، وتتحول الكلمات من علامات إلى قيود، من رموز للحياة إلى نصوص للعقاب.
المدينة الآثمة، إذن، ليست التي “يحدث فيها الفساد”، بل التي تمنح للفساد لغته النبيلة، وتسميه “مروءة”، وتُنتج خطابًا مخصيًّا، ثم تسميه دينًا. ولذلك، فإن السؤال الجوهري الذي يسكن النص هو سؤال العدالة الرمزية: كيف يمكن أن نعيد للغة بريقها، للأنوثة معناها، وللرغبة لغتها، في مجتمع يجلد الجسد بتواطؤ من النصوص، والشعائر، والميكرفونات؟
أحد أقوى مواضع الكتاب، حين يصف مادبو اغتصاب الأطفال بوصفه “مرآة المدينة” لا استثناءً منها. إنها لحظة سقوط جماعي. لحظة تتكشّف فيها البنية كاملة: الأب الذي لا يُصغي، الأم التي لا تجرؤ، الجار الذي يصمت، الخطيب الذي يحرّض، الدولة التي تبرّر، والصحف التي تهمس.
إنها لحظة تواطؤ لا يمكن تبريره، وهنا يُستدعى تحليل من علم النفس التحليلي الجمعي، حيث يتحول المجتمع إلى “أنا كليّة خائفة” تهرب من اعترافها، وتختبئ خلف قيم مصطنعة. يشبه الأمر ما أشار إليه إريك فروم عن “الشخصية السادية” التي تتلذذ بالسيطرة حين تعجز عن الحب.
ولا يمكن فصل ذلك، كما يرى مادبو، عن سقوط المشروع السياسي ذاته، لا لأن السياسة فشلت في منع الجريمة، بل لأنها أُعيدت صياغتها بوصفها تكنولوجيا للفحولة، حيث السلاح لا يُستخدم لحماية المدينة، بل لإخضاعها. الإنقاذ لم تكن مجرد نظام سلطوي، بل نظام لغوي أيضًا، نظام أعاد تعريف الشرف والخوف والمواطنة والفضيلة، حتى صرنا نُصدّق أن الجمال خطر، وأن المرأة فتنة، وأن العناق خيانة، وأن الجسد عورة، وأن القُبح فضيلة!
وحين يتحدث الكاتب عن زيارته للجنوب، فإن اللغة تهدأ فجأة، وكأن النص يتحول من سِفر الاحتجاج إلى نشيد اعتراف.
يعترف: لقد خذلنا الجنوب. ليس لأننا لم نحافظ على وحدته فحسب، بل لأننا صدّرنا إليه وهم الطهر، بينما كنا نغتصب ذواتنا في الخفاء. الجنوب، في هذا المقام، ليس إقليمًا، بل مرآة. مرآة كنا نخاف أن ننظر فيها لأننا سنرى ملامح الوحش الذي صنعناه، وسنسمع صراخ الأنوثة وهي تُسحق تحت عمامة الفقيه، وفوهة البندقية.
وفي لحظة نادرة من الحفر، يربط مادبو بين انهيار الزواج كمؤسسة، وبين تدمير القدرة على الحميمية. ليس لأن العلاقات انتهت، بل لأن الثقة ماتت. لأن المدينة، حين تتحول إلى مراقب، تقتل الحميمية، وحين تُحاكم اللمسة، تزرع فينا الخوف من أن نُحب. ويكتب: “ما عاد بالإمكان القبول بمحاولات الإصلاح التلفيقية”، وكأن كل محاولة للتجميل ليست سوى تجديد لقناع الجريمة، وأن أول خطوة نحو النجاة هي الاعتراف بأن الجسد لا يُصلح من فوق، بل يُحرّر من الداخل، من المعنى، من الرغبة.
في قلب هذا النص، يتبدّى أن الجنسانية ليست مجرد مسألة رغبة أو تابو اجتماعي، بل هي البنية العميقة التي يعيد النظام من خلالها إنتاج نفسه، وتوزيع الخوف، وتمويه الخضوع.
لقد أدرك الوليد مادبو أن الجسد ليس ساحة هامشية في خطاب السلطة، بل هو المسرح الأساسي للعقيدة السلطوية. تمامًا كما ذهب إتين دو لا بويسيه حين قال إن الطغيان لا يحتاج إلى القمع وحده، بل إلى الخنوع المُستبطن. والمدينة الآثمة ليست سوى التعبير المكثّف عن هذا الخنوع وقد صار سياسة، وصار أخلاقًا، وصار ديكورًا يوميًا للحياة.
لماذا لم يُسمّها “المدينة الساقطة”؟ ولماذا اختار “الآثمة”؟ الكلمة نفسها محمّلة برنين لاهوتي، تحيل إلى الخطيئة، إلى الذنب، إلى لعنة مؤسسة. وكأن مادبو يريدنا أن نعيد تأويل نصنا الأخلاقي الجمعي من جديد: أن نعيد تسمية ما نظنه فضيلة، ونُدقق في ما نظنه إثمًا. ليس الآثم من يرغب، بل من يكبت ويقتل. ليس من يُحب هو المجرم، بل من يجرّم الحب ويُشيد حوله أسوار الحذر. في هذه التسمية يكمن البُعد الما-ورائي للنص، حيث المدينة ليست “مدينة دنيوية” فحسب، بل كيان لاهوتي فاسد، كما تصوّرها أدورنو حين قال: “حيث تغيب الرحمة، تبدأ السياسة”.
والرحمة هنا ليست شعورًا فرديًا، بل هي نظام حياة. ولأن الرحمة لا تُمارَس، فإن الجميلات، في هذا النص، لسن مجرد نساء. هن استعارة مكثفة لمفهوم الجمال حين يتحول إلى عبء. الجمال، في المدينة الآثمة، ليس امتيازًا، بل خطر دائم، يُراقَب، يُشتم، يُزدرى، ويُقمع. يكتب مادبو: “الجميلات هن الجميلات”، جملة تتكرر بشكل شبه جنائزي، وكأنها نشيد لجنازة علنية لحق الجمال في أن يُرى دون أن يُنتهك، وفي أن يُعاش دون أن يُحتقر.
في المجتمعات التي تنتج ذكورة مخصيّة، حيث يُربّى الذكر على الخوف من الحنان، والخجل من الاعتذار، والتباهي بالعنف، تصبح الجميلة هي العدو، لأنها تذكّر هذا الذكر بعجزه، وتمنحه مرآة لا يريد أن ينظر فيها. وهكذا، لا يعود الجمال إغواءً للذات، بل فضحًا لخللها، ومصدرًا لاحتقار الذات المُستلبة، كما عند بول ريكور حين يتحدث عن “الشر الذي لا يُغتفر”: أن تكره من يُظهر لك هشاشتك.
ولعل أكثر ما يُحسب لهذا النص، أنه لا يُحمّل الذكر وحده مسؤولية الخراب، بل يرى أن المنظومة بأكملها ـ من المدرسة إلى المسجد، من الأم إلى الخطيب، من القانون إلى الحي الشعبي ـ قد اشتركت في إنتاج هذا العنف المقنّع. الكل، بدرجات متفاوتة، شارك في تربية الذكر بوصفه مشروع اغتصاب محتمل، والأنثى بوصفها مشروع لوم جماعي. ولهذا لا يتردد مادبو في أن يقول: “لقد ساهم أكثرنا بالأنانية والتجاهل والجبن في تشييدها”؛ المدينة، أي مدينة، لا تُبنى فقط بالحجارة، بل بما نمرره من سكوت، وبما نباركه من لغة، وبما نتغافل عنه من فجور مقنّع.
وهنا يجب أن نستعيد البعد الطبقي للنص. فالمتحرش ليس فقط منتجًا فرديًا لاختلال جنسي، بل ابن نظام طبقي يُشعره يوميًا بوضاعته، وبلا جدواه، وبأن المدينة ليست له. وحين لا يستطيع أن يملك المدينة، يملك الجسد. وحين يُقصى من السلطة، يبحث عن ضحية. هذه ليست سردية لتبرير العنف، بل لتفكيكه. وكما يقول إرنست بلوخ: “حين لا يجد الإنسان معنى، يبدأ في تعذيب مَن حوله”. والسوداني المقموع، كما يصفه مادبو، لا يعذّب فقط، بل يعيد إنتاج العذاب تحت اسم الشرف.
ووسط كل هذا الظلام، لا ينعدم الأمل، بل يتخذ شكلاً مراوغًا. الأمل، في هذا الكتاب، ليس شعارًا، بل فعل مقاومة رمزية، تبدأ من استعادة اللغة، ومن استعادة الحق في الكلام عن الرغبة دون أن نُشعر بالذنب. يبدأ الأمل من الاعتراف، لا من الخطابة. من الحنان، لا من الطهرانية الزائفة. من القدرة على أن نقول إن الجسد ليس مؤامرة، وإن الحب ليس خيانة، وإن الحياء لا يُبنى بالجهل، بل بالمعرفة العميقة بالنفس.
وربما يكون أكثر ما يمكن أن يُقال عن هذا النص، أنه يكتب من نقطة في القلب ليست محايدة. فمادبو لا يُحلل فقط، بل يُحاكم. لا بوصفه قاضيًا أخلاقيًا، بل بوصفه واحدًا من الذين ساروا في شوارع هذه المدينة، سمعوا أنينها، وشاركوا – بدرجة ما – في صمتها، ثم اختاروا أن يتكلموا. أن يضعوا الكلام في مواجهة الخوف، وأن يقولوا إن الجنسانية ليست عيبًا، بل العيب أن نعيش عمرنا نرتجف كلما نطقت الرغبة فينا.
في لحظة ما، وأنت تقرأ المدينة الآثمة، تدرك أن الجنوب، ذلك الذي أفرد له مادبو فصلًا شفيفًا، لا يتكلم. الجنوب يُحكى عنه، يُروى بوصفه مكانًا للحظة استبصار، أو كمرآة تعكس تشوهنا في المركز، لكنه لا يظهر كذات. وهذا ليس سهوًا شكليًا، بل فجوة رمزية، تستحق أن تُقرأ في ضوء تحليل الخطاب. إذ لماذا لا نتخيل الجنوب ناطقًا؟ لماذا نظل نضعه في خانة المتلقي الأبدي للخذلان؟ أليس في هذا التوزيع الصامت للتمثيل، ما يعكس استمرارًا خفيًا لمركزية لغوية تتنكّر لما تدّعي تجاوزه؟
قد يكون هذا الغياب، هو أكثر ما يجعل من نص مادبو نصًا صادقًا: لأنه لا يتجمّل. لا يدّعي العدالة المطلقة، بل يترك في سرده فجوات يمكن أن تدخل منها الأسئلة. وهذا ما يجعلنا نتساءل: ماذا لو كتب هذا النص بجسد جنوبي؟ هل كانت المدينة ستكون آثمة بذات الطريقة؟ هل كان الشرف سيتجلّى كخطاب مخصي بنفس التركيب؟ هذه الأسئلة لا تنقض النص، بل تُتمّه. لأنها تُظهر أن ما لم يُكتب، لا يقل أهمية عن ما كُتب. الصمت ليس فراغًا، بل جزء من المعمار الرمزي.
وعليه، فإن الرهان الأكبر لهذا النص هو على إمكانية الاعتراف. ليس الاعتراف الجنسي، بل الاعتراف بالانحراف البنيوي في فهمنا للذات. حين يتحول الاعتراف من فعل فردي إلى ممارسة جماعية، يصبح الجسد ليس فقط موضوعًا للرغبة أو العار، بل موضوعًا للعدالة. العدالة بوصفها استردادًا للغة. فالذي يُحرم من التعبير عن رغبته، يُحرم من اسمه. ومن هنا نفهم كيف أن المدينة الآثمة لا تقتل بالجسد، بل بالصمت.
ما يطرحه مادبو ليس مشروع إصلاح سلوكي، ولا دعوة لمزيد من التنوير المدرسي. إنما هو دعوة لتغيير جذري في الخيال الاجتماعي. الخيال الذي يشكّل تصوراتنا عن الأنثى، عن اللذة، عن الحياء، عن الحب، عن الذكر، عن الغواية. هذا الخيال – كما يرى كورنيليوس كاستورياديس – لا يتغير بالمواعظ، بل بالثورات الرمزية، بتغيير اللغة، وتكسير الصور، وإعادة رسم المتخيَّل العام. والمدينة لا تُشفى بإصلاح البنية التحتية، بل بإعادة صياغة المعنى الذي نحيا به.
وربما هنا، في هذه النقطة تحديدًا، يصبح لهذا النص ضرورة. لأنه لا يقول لنا فقط أن المدينة آثمة، بل يضعنا، نحن القراء، موضع التورط. نحن لسنا خارج النص. نحن لا نقرأه من علٍ. بل نحن أحد أشكال هذه المدينة. صمتنا جزء منها، حذرنا، تهذيبنا المصنوع، سكوتنا حين يُذكر الجنس، تلك الابتسامة المتواطئة حين تمر امرأة جميلة في شارع مليء بالذكور، تلك الغمزات، تلك النكات، ذلك العجز عن قول “أنا أحتاج” دون أن نخاف من أن نُجرَّم.
لذلك، فإن هذا النص لا يطلب إعجابك، بل يُحرّضك على الخوف من نفسك. لا يطلب التصفيق، بل يجعلك تسأل: هل أنا أحد هؤلاء الذين بنوا هذه المدينة؟ هل كنت فاعلًا أم متفرجًا؟ هل أُحب دون أن أُسيء؟ هل أُرغب دون أن أمتلك؟ هل أستطيع أن أرى جسد الآخر دون أن أختزله؟ هل أملك الشجاعة لأقول إنني أريد، دون أن أُستدعى إلى محكمة الأخلاق؟
وأنت تخرج من هذا النص، لا تحمل حلاً. بل تحمل مرآة. لكن هذه المرآة لا تعكس ملامحك فقط، بل تعكس المدينة بكاملها، وأنت فيها. هذا ليس كتابًا يُقرأ، بل يُنصت إليه كوشوشة آخر الليل، حيث تعود رغباتك القديمة لتقول لك: لم تكن آثمًا حين أحببت. الآثمة كانت المدينة.
هذه المدينة الآثمة لا تحتاج إلى إسقاطٍ جديد، بل إلى اسم جديد للبوح المُحرّر من الوصاية.
zoolsaay@yahoo.com