سودانايل:
2025-03-18@20:22:14 GMT

عقوق في حقوق أمة

تاريخ النشر: 24th, February 2024 GMT

بقلم: عمر العمر

مع تصاعد الحرب البشعة يزداد أخدود الفصام السوداني عمقا. فزهونا بسماحة أخلاقنا وطيبة طينتنا لم ينجحا في تطويق لهيب الحرب أو رقعة التدمير .كذلك اتسعت دائرة الفصام فطغى على النقدِ التجريحُ المباح والقذف الحرام للآخر أفرادا وجماعات. ثم انزلقنا من النقد الذاتي إلى لوم الآخر مرورا بالعتاب إلى جلد الذات وصولا إلى الإذلال الذاتي.

في هذا الجب المظلم الظالم لم نستثن شريحة مجتمعية ، طبقةً او حزبا .بل طالت الألسن الأمة بأسرها. لعل هذه الحرب القذرة كشفت تماما كم هو هذا الفصام لون فاقعٌ في نسيج الشخصية السودانية. فكلنا بما فينا الفئة المثقفة المفترض فيها الوعي تضج حزنا على ما فاتها عبر التاريخ المعاصر وعلى ما أصابها وغير راضية على ما أتاها.. نحن في حاجة مسيسة إلى التطهر من كل تلك الخطايا عبر شعيرة قهر الذات إذ هي طقس من التطهر رافعته النفس اللوامة.

*****
هناك بون شاسع بين النقد الذاتي وكل تلك الممارسات السلبية من جلد الذات إلى إذلالها. فالنقد في العمل العام فضيلة ديدنها تقويم التجربة بغية تجاوز السلبيات مقابل تعزيز الإيجابيات. بينما جلد الذات ضرب من ممارسة التوغل في الانكسار حد الاستسلام للاكتئاب بل الهزيمة. نجاح النقد الذاتي يعتمد على تطبيق النقد الموضوعي بغية بلوغ خلاصات سعيدة. لكن عمليات رجم السابقين ،تهشيم الآخرين وتحقير المنافسين لن تفضي إلى نهايات منطقية. كما ينبغي التحرر من الأحكام الشخصية خاصة المشرّبة بالأهواء والأغراض مثلما ينبغي الفرز بين الحقائق والأوهام .تلك قواعد بسيطة من منظومة متكاملة تستهدف النأي عن الاكتفاء بإصدار الأحكام المبتسرة.

*****
فغالبية أدبياتنا السياسية المكتوبة والمنطوقة تحت غبار الحرب تصدر عن انفعالات شخصية مشحونة بعواطف وقتية ،فتتخذ طابع القنابل إذ تحدث مزيدا من التشظي الإجتماعي .فبنيانها شتائم تستهدف تحقير أفراد و أُطر إجتماعية من منظمات الشباب إلى قوام القبائل . في تلك الأدبيات تكثر مفردات استصغار صادرة من نفسيات جوفاء إلا من الاستعلاء المعرفي أحيانا والإجتماعي غالباً. في ذلك يندرج من يحاول اطلاق أحكام معممة استناداً إلى حيثيات يتم بناؤها على عجل خارج مناهج البحث والتوثيق. العديد من المثقفين وربما كل الساسة المحترفين يتبادلون السباب والشتائم بعيدا عن مبادئ و أفكار غاياتهم المطلقة التهشيم لا التقويم.

*****
هكذا تُصب اللعنات على جيل الأباء المؤسسين جملة واحدة بلا استثناء. رغم وجو د ثلة بينهم من الوطنيين الانقياء سيرة وسريرة. كذلك يتم تحقير إرثهم ضمن توصيف ظالم لما عاد يُعرف بتبخيس دولة (ست وخمسين ). هي محاكمة ظالمة تتجاهل عمدا أو تجهل بيئة المؤسسين الدراسية تحت مظلة استعمارية لغايات ليست وطنية. كما تتجاهل أو تجهل نضالاتهم الاستثنائية بغية تثقيف أنفسهم مواكبة لنخب إقليمية معاصرةً سبقتهم. بين أولئك رجال يستحقون التبجيل كما فعلت شعوب مع أمثالهم. المحاكمة الظالمة تغمض الطرف عن حال البلد و مصادره المحدودة الضيقة عشية الاستقلال ،فجره وضحاه .من أولئك المدانين ظلماً في مرحلة ما بعد الاستقلال وطنيون خُلّص يتسمون مثل أولئك السابقين بالاستقامة الشخصية والوطنية ، شغلوا مناصبهم بتفانٍ وشفافية وغادروها مثلما خرجوا من الدنيا بلا أرصدة إلا من حب الناس. لو اقتدى اللاحقون و الحاليّون بنهجهم في الولاء و السخاء المجردين من الذاتية لبلغنا شأواً وطنيا شاهقا .

*****
كل من يدين أولئك الرواد يفتقد إلى الموضوعية إذ يجنح عمدا عن الحيادية العلمية لجهة تكريس المحاكمة الظالمة والاحكام الجائرة من أجل بلوغ غايات محددة ليست وطنية البتة .محاولة شجب ماضينا القريب حد المجاهرة بإلغائه تحت لافتة إدانة دولة ٥٦ أبرز أنمذجة هذه الممارسا الخرقاء. عديد من رافعي هذه اللافتة وجدوا في وصم استاذنا الراحل منصور خالد -ملأ الله مرقده بالمغفرة- النُخب ب(إدمان الفشل) وصفة جاذبة لدمغ كل المرحلة الوطنية بالاخفاق وجميع المشاركين فيها بالغباء. على قدر ماكان منصور دقيقا في تحديد من استهدف بالوصم على قدر ما انحرف الشاجبون الجدد عن الموضوعية لجهة التعميم المخل. حتى المتورطين في الحرب البلهاء الراهنة عمدوا إلى استثمار هذا التعميم في محاولة بائسة لتبرير جرائمهم الشنعاء ضد الشعب والوطن.
*****
فالعقوق السافر الجارح لم يقتصر على جيل الآباء المؤسسين والرواد والفاشلين حاليا بل أمسى يستهدف الأمة السودانية قاطبة. إذ صار مألوفا رجم الشعب بنعوت تكرس ذلك الفصام . فالتواضع صار بلهاً، السماحة صارت سذاجة، الكرم أمسى هدرا والغيرة أصبحت حسدا . في المقابل تصبح استباحة المال العام ممارسة مشروعة ، لايغض عنها المحاسبة بل يتحلى مرتكبوها بالاشادة! الراصد للفصول السياسية في حقبة (دولة ٥٦) يجد انجازات لا ينكرها إلا مكابر .لو ترسم اللاحقون ميسم أولئك السلف الأخلاقي ونهجهم الوطني لبلغنا شأوا وطنيا شاهقا في حقول التعليم ،التطبيب والتحديث الاقتصادي والاجتماعي .أسوأ من في أولئك الراحلين لو عاد إلى الحياة لمات مجددا من هول الوقع بما فيه من حملات النهب الممنهج للدولة وكهوف التعذيب .حتى أباء الادارة الأهلية لآثروا الموت على رؤية فصام أبنائهم .

*****
توغلا في العقوق راح البعض ينقب في التقارير والرسائل مستعرضا أقاويل المستعمرين والدبلوماسيين الاجانب شهادات ضد النخب الإدارية والسياسية الحاكمة سابقا .هم يفعلون ذلك دون محاولة إعمال الذهن في تفكيك ظروف ،دوافع وغايات تلك التقارير والرسائل. بل استسهلوا تلبيسها ثم ترويجها بخبث يوازي التلويح باهداف نبيلة فوق فوهات المدافع بغية تبرير التوغل في عمليات الحرب المتوحشة الراهنة.
صحيح ماضينا لم يكن زاهيا لكن نقده لا يستوجب لعنه . فما نحن فيه أكثر بؤسا مما كنا عليه .ممارسات التهشيم والتنابذ بلغة ناعمة أو خشنة و الوخذ بالألسن على شاشات التلفزة ووسائط التواصل لن تجمّل بؤس الواقع. كما لن يشكل الهجاء الفردي والجماعي رصيدا اخلاقيا يمكن الإقتداء به أو البناء عليه .أي فكر وطني مستنير يهزأ حتما من تبادل السباب بين النخب .فعوضا عن تكريس الوعي من أجل إطفاء نا الحرب الرعناء يشتبك عديد من مثقفينا في حروب شخصية جانبية تؤجج الكراهية والأحقاد! عقوق في حقوق أمة!

aloomar@gmail.com  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

صندوق النقد يتلقى طلبا رسميا من كينيا لبرنامج تمويل جديد

أعلن صندوق النقد الدولي اليوم الإثنين، أنه تلقى طلبًا رسميًا من السلطات الكينية بشأن برنامج تمويل جديد.. مشيرا إلى أنه سيتواصل مع نيروبي للاتفاق في هذا الصدد.

وذكر الصندوق، في بيان له، أنه لن يُستكمل المراجعة التاسعة لبرنامجي تسهيل الصندوق الممدد وتسهيل الائتمان الممدد الحاليين.. ولم يُحدد نوع البرنامج الذي تسعى كينيا للحصول عليه.

وتسعى الحكومة الكينية جاهدةً للحصول على تمويل جديد، وذلك بعد أن أجبرتها الاحتجاجات الدامية العام الماضي على التخلي عن خطة لزيادة الإيرادات عبر زيادات ضريبية فيما صرح وزير المالية الكيني جون مبادي الشهر الماضي بأن البرنامج سيكون برنامجًا تمويليًا.

وكان الرئيس الكيني وليام روتو، قد اضطر إلى إلغاء زيادات ضريبية تجاوزت 346 مليار شلن (2.7 مليار دولار) في يونيو الماضي بعدما شهدت البلاد تظاهرات عديدة، أدت إلى سقوط ضحايا وإيجاد أكبر أزمة خلال فترة رئاسته.

وتُظهر بيانات وزارة المالية، أن إجمالي قيمة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في كينيا بلغ 65.7% بحلول يونيو من العام الماضي، وهو أعلى بكثير من مستوى 55% الذي يُعتبر معدلًا مستدامًا.

وتحتاج كينيا إلى دعم متواصل للحفاظ على اقتصادها على المسار الصحيح، بعد ارتفاع تكاليف خدمة الدين نتيجة التوسع في الاقتراض خلال العقد الماضي.

اقرأ أيضاًرئيسة بعثة صندوق النقد الدولي في مصر تكشف موعد المراجعة الخامسة وصرف الشريحة القادمة

لدعم استراتيجية تغير المناخ.. صندوق النقد يوافق على تمويل جديد لمصر بـ 1.3 مليار دولار

صندوق النقد الدولي: مصر حافظت على الاستقرار الاقتصادي رغم التحديات

مقالات مشابهة

  • أولئك هم القتلة الخوَنة .. إسرائيل بدعم أمريكي تنقلب على "اتفاق غزة" وتغدر بالصائمين
  • اختتام زيارة بعثة صندوق النقد الدولى إلى كينيا
  • غيث: المصرف المركزي يفتح باب الدولار بلا ضوابط في بلد يعاني من عدم الاستقرار
  • كينيا وصندوق النقد يبدآن محادثات بشأن برنامج تمويل جديد
  • ضبط عملات أجنبية بالسوق السوداء بقيمة 8 ملايين جنيه
  • ضبط عملات اجنبية بالسوق السوداء بقيمة 8 ملايين جنيه
  • صندوق النقد يتلقى طلبا رسميا من كينيا لبرنامج تمويل جديد
  • ما تداعيات رفع الدعم كليا عن المحروقات في مصر بنهاية 2025؟
  • رحلة البرنامج مع صندوق النقد بدأت... ولكن بأيّ شروط؟
  • غيث: رد حكومة الدبيبة على المصرف المركزي غير دقيق