السودان وإسرائيل: فصل في العلاقات الثنائية (1 -2)
تاريخ النشر: 24th, February 2024 GMT
السودان وإسرائيل: فصل في العلاقات الثنائية (1 -2)
The Sudan and Israel: An Episode in Bilateral Relations
Gabriel R. Warburg غابرييل ر. واربورغ
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة للجزء الأول من غالب ما ورد في مقال للمؤرخ الإسرائيلي غابرييل ر. واربورغ (1927 - ) عن العلاقات بين السودان وإسرائيل، نُشِرَ في العدد الثاني من المجلد الثامن والعشرين لمجلة "دراسات الشرق الأوسط Middle Eastern Studies" الصادرة عام 1992م، صفحات 385 – 396.
ولد الكاتب في برلين بألمانيا، وهاجر مع عائلته وعمره سبع سنوات إلى فلسطين وبقي بها حتى عام 1946م حين أكمل دراسته بكلية للزراعة، ثم درس تاريخ الدول الإسلامية في الجامعة العبرية بالقدس (1961 - 1964م) واللغة العربية وآدابها في جامعة لندن، والتي تحصل منها أيضا في عام 1968م على درجة الدكتوراه بأطروحة عن "إدارة الحكم الثنائي بين عامي 1899 - 1916م"، تحت إشراف المؤرخ البريطاني بيتر هولت. ثم عمل بعد ذلك أستاذا في جامعة حيفا حتى تقاعده في عام 1996م. ونشر الرجل الكثير من الكتب والمقالات المحكمة عن السودان ومصر ودول عربية وإسلامية أخرى، منها كتاب بعنوان "الإسلام والقومية والشيوعية في مجتمع تقليدي: حالة السودان"، وكتاب آخر عن "الطوائف الدينية في السودان والسياسة منذ عهد المهدية"، وعدة مقالات عن الإخوان المسلمين وأنصار المهدي والحزب الشيوعي السوداني، وعهد جعفر نميري، وموضوعات متفرقة أخرى.
المترجم
************ ************ ************
كانت فلسطين والسودان، حتى عام 1948م تقع فعلياً تحت سلطة الحكم البريطاني. وعلى الرغم من أن السودان كان – ظاهريا – يُدَارُ بحكم ثنائي بريطاني – مصري، إلا أن بريطانيا كانت هي الحاكم الفعلي فيه. وكانت فلسطين تحت الانتداب البريطاني، عقب الحرب العالمية الأولى، أي أنها كانت واقعة تحت الوصاية البريطانية. فلا عجب إن كانت هناك علاقات ثنائية بين القطرين، تماما كما كانت لفلسطين علاقات ثنائية مع مستعمرات بريطانية أخرى كالهند ومصر والعراق. غير أن كل ذلك تغير في الحقبة التي تلت الحرب العالمية الثانية، عندما تدهورت سريعا العلاقات بين الجامعة العربية واليهود في فلسطين. وبعد إعلان استقلال إسرائيل في مايو 1948م وعقب الحرب بين اليهود والعرب، رفضت الجامعة العربية الاعتراف بشرعية الدولة الجديدة، وقررت مقاطعتها تجاريا وفي كل الشؤون الأخرى. ولم يكن السودان (بحكم كونه يقع تحت إدارة بريطانية – مصرية ثنائية) عضواً في الجامعة العربية، التي كانت تضم فقط دولاً مستقلة. لذا لم تكن قرارات الجامعة العربية حينها ملزمة قانونيا للسودان. إلا أن السؤال حول إن كان لمصر حق فرض تلك المقاطعة على السودان باعتبار أنها شريكة في حكمه، ظل قائماً. وبالإضافة لذلك، كان المسؤولون البريطانيون يتشككون في الحكمة من إقامة أي علاقات بين إسرائيل والدول العربية الواقعة تحت دائرة النفوذ البريطاني، خوفاً من أن تفضي مثل تلك العلاقات إلى الاضرار بالعلاقات البريطانية – العربية مستقبلاً. وانتبهت وزارة الخارجية البريطانية منذ عام 1949م لهذه المسألة، ليس بسبب أهمية العلاقات السودانية – الإسرائيلية، بل لإفهام مصر أن ليس لها الحق في فرض سياسات بعينها على السودان. وما كان معرضا للخطر هنا هي مسألة صادرات السودان لإسرائيل في تلك الحقبة التي كان المصريون يرفضون فيها التجارة بين السودان وإسرائيل بحسبانها مخالفةً لقوانين المقاطعة العربية لعدوتهم إسرائيل المحتلة لأرض فلسطين. وفي يوم 10 يونيو 1950م، أجبرت السلطات المصرية سفينة شحن إيطالية (اسمها ديمافو Dimavo) متجهة لإسرائيل وهي تحمل شحنة علف حيواني/ "امباز" (cotton seed cakes) من ميناء بورتسودان (1). وكانت تلك الشحنة هي استمرار لعلاقات تجارية كانت تربط السودان الإنجليزي - المصري بفلسطين وهي تحت الانتداب البريطاني. وظلت العلاقات التجارية بين الدولة الجديدة (إسرائيل) والسودان الإنجليزي – المصري قائمة، وكذلك حق هبوط طائرات شركة العال الإسرائيلية بالسودان. وردت مصر على احتجاج مالكي السفينة ديمافو بالقول بأن مصر تعتبر – لأغراض التجارة - ميناء بورتسودان ملكاً لها (2). واعتبر تقرير لوزارة الخارجية البريطانية القبول بذلك الرأي المصري، ضربة قوية للجبهة الاستقلالية في السودان، وسيلحق الضرر برجال الأعمال والتجار السودانيين. وبما أن "الأمباز" ليس سلعةً غير قانونية يمكن استخدامها في الحروب ويمنع تصديرها، لذا فقد يسوغ قانونيا ما ذكرته مصر على أساس دستوري هو أن "السودان هو جزء من مصر .... ولا بد من أن يخضع للحظر الذي فرضته الحكومة المصرية على التجارة مع إسرائيل ...". غير أن بريطانيا رفضت ذلك التبرير بحسبانه أمراً غير دستوري؛ إذ أن أي أمر يخص السودان لا بد أن يصدر عن حاكم عام السودان (البريطاني الجنسية دوماً منذ بدء الحكم الثنائي). وتقرر أن يقوم الحاكم العام للسودان بالإنابة بالكتابة إلى النحاس باشا (رئيس الوزارة المصرية) ليعبر له عن رفضه للمطلب المصري بتعليق العلاقات التجارية بين السودان وإسرائيل.
وكانت قيمة الصادرات السودانية لإسرائيل قد بلغت في عام 1949م 59,500 جنيها مصريا (وهو مبلغ يقل عن تقرير إسرائيلي لاحق صدر عام 1954م). وتأبت الحكومة البريطانية بالطبع عن الخوض في هذه المسألة مع الحكومة المصرية خشية أن يقود النقاش معها إلى مطالبتها بالمزيد من السيطرة على إدارة شؤون السودان. وبالإضافة لذلك كانت الحكومة البريطانية لا تريد التنازل لحزب الوفد المصري الذي كانت تتفاوض معه حول مستقبل العلاقات البريطانية – المصرية، لأن ذلك من شأنه الاضرار بالجبهة السودانية الاستقلالية. لذا اقترحت الحكومة البريطانية رفض المطالب المصرية والقول بأن تجارة السودان مع إسرائيل هي تجارة علنية، وتُنْشَرُ تفاصيلها شهرياً في تقارير واحصائيات حكومة السودان، التي تتلقى الحكومة المصرية نسخا منها؛ وأن أي تدخل في هذا التبادل التجاري المشترك سيلحق الضرر بالسودان، وسيغضب المنتجين والتجار، خاصة وأنها تجارة تتعامل في مواد غير محظورة. وكتبت حكومة السودان في 11 يونيو من عام 1950م للسفارة البريطانية في القاهرة تطلب معلومات عن أي تبادل تجاري بين إسرائيل ودول عربية أخرى. وفي هذا الأثناء اقترحت إسرائيل على السلطات البريطانية في السودان إعادة الخدمات البريدية بين البلدين، التي كانت قد قُطِعَتْ عام 1948م. وقام القائم بأعمال الحاكم العام بالاتصال بوزارة الخارجية في لندن بشأن قبول ذلك الاقتراح، بينما كان يستخدم الخطوط الجوية القبرصية أو خطوط جنوب أفريقيا لذلك الغرض. ووافقت وزارة الخارجية البريطانية يوم 4 يوليو 1950م على الاقتراح البريطاني شريطة أن تتم إعادة خدمات البريد بين البلدين دون دعاية إعلامية.
لقد كانت وزارة الخارجية البريطانية في تلك المرحلة منشغلة بثلاثة جوانب لتلك المسألة: أولها هو إعرابها عن قلقها بشأن مشروعيتها، أو بعبارة أخرى: إلى أي مدى كان لمصر (باعتبارها شريكة في حكم السودان) الحق القانوني لإجبار (حكومة) السودان على تطبيق قرار منع التجارة مع إسرائيل؟ وثانيها هو تأثير تلك المسألة الخلافية على سياسات السودان الداخلية، إذ أن الصراع بين من ينادون بـ "وحدة وادي النيل"، وبين من يدعون لاستقلال السودان كان في تصاعد مستمر، وكانت السلطات البريطانية تخشى من أن تنعكس تلك المسألة بصورة سالبة على الداعين لاستقلال السودان إن لم تتم الاستجابة لمطالب المصريين. أما الأمر الثالث فهو العواقب الاقتصادية التي سيكون لها تأثير ضار على مزارعي وتجار السودان، وخاصة وأن صادرات السودان كانت قليلة نوعاً ما. وفي يوم 16 يونيو من عام 1950م قدم المستشار القانوني لوزارة الخارجية البريطانية (السيد جيرالد فيتزموريس Fitzmaurice G.G.) رأياً قانونيا مفاده بأنه ليس لمصر سوى سوى ذريعة واحدة يمكن بها أن تبني عليها طلبها بحظر التجارة من السودان إلى إسرائيل، وهي أن "السودان هو أرض مصرية، وفي أي حرب تخوضها مصر ضد عدو ما، فإن لمصر الحق في منع التجارة مع ذلك العدو". غير أن فيتزموريس كان أكثر تردداً في شأن حقوق مصر كشريكة في حكم السودان. وعلى الرغم من أنه كان يزعم أنه "من الصعوبة تحديد الشرعية في حالة "الحكم الثنائي" في حالة كون أحد الشريكين في حالة حرب، والآخر ليس كذلك"، إلا أنه خلص إلى أن ليس لمصر الحق في دعواها، إلا أذا اعتبرت أن تجارة السودان مسألة مصرية محلية. وأضاف: "وبالتالي فإن أي حظر فعلي للتجارة بين السودان وإسرائيل يجب أن يكون خاضعاً للتشريعات السودانية الداخلية".
واستناداً لأسباب سياسية وقانونية عبرت بريطانيا عن شكوكها في شرعية ما قامت به مصر من إيقاف لشحنة السفينة الإيطالية في ميناء بورتسودان وهي في طريقها لإسرائيل، ومطالبتها بحظر فوري لكل أوجه التجارة بين السودان وإسرائيل في المستقبل. وذكرت بريطانيا في هذا الشأن بعض النقاط: أولها، أنه بحسب ما ورد في اتفاقية الحكم الثنائي (المبرمة في يناير 1899م) فإنه لا يحق قانوناً للحكومة المصرية أن تأمر حكومة السودان بحظر التجارة مع إسرائيل أو أي دولة أخرى، ومن له الحق في اتخاذ مثل هذا القرار فقط هو حاكم عام السودان. ولم يُطْلَب من الحاكم العام فرض أي حظر على التجارة مع إسرائيل، أو أن يشمل السودان ضمن ما تتخذه مصر من قرارات لحظر التجارة مع أي قطر آخر. وبهذا، وبما أن حاكم عام السودان لم يفرض أي قيود على التجارة مع إسرائيل، فتجار السودان أحرار في معاملاتهم التجارية معها كما كان في الماضي. وثانياً، بحسب البند الرابع من المعاهدة البريطانية – المصرية المبرمة عام 1936م (3)، فإن إدخال مواد حربية لإسرائيل سيمثل "عملا عدائيا بالنسبة لحكومة جلالة الملك ... وقد سبق لي أن نصحت بأن تقديم حكومة جلالة الملك لإسرائيل ... يعتبر مخالفا لروح اتفاقية التحالف بين بلدينا التي أبرمت في 1936م". ولكن، بما أن "الأمباز"، حتى عند استخدامه وقوداً، لا يمكن أن يُعد مادة حربية، لذا لا يمكن إدخاله ضمن قائمة المواد المحظورة. وثالثاً، بما أن حاكم عام السودان مأمور بحسب ما جاء في اتفاقية 1899م أن يعمل على حكم السودان "حكما رشيداً"، فإن مسالة التجارة مع إسرائيل ينبغي أن يُنْظَر إليها ويُقَرَّر في شأنها بناءً على مصالح السودان وحده، وليس غير ذلك. وأخيراً، إن أرادت مصر (بحسبانها شريكة في حكم السودان مع بريطانيا) أن تطلب من حكومة جلالة الملك العمل سوياً لحظر التجارة بين السودان وإسرائيل، فإن هذه تدخل في دائرة المسائل الاقتصادية والسياسية، وليست الأمور القانونية".
ونصحت السفارة البريطانية في مصر في يوم 14 يونيو 1950م حكومتها باتخاذ موقف تصالحي تجاه مصر، إذ أنها (أي السفارة) كانت ترى أنه من المصلحة الاستمرار في معاملة الجانب المصري بشكل معقول ومنصف، وأن تتنازل وتستسلم لحساسيته (أو أن تُظْهَر أنها تفعل ذلك) كل ما كان ذلك ممكنا بصورة عملية. وكان من رأي السفارة البريطانية في القاهرة أن مصر كانت تتخذ مثل ذلك الموقف (تجاه التجارة بين السودان وإسرائيل) فقط من أجل تسجيل موقف، خاصةً لمصلحة الجامعة العربية، وليس اقتناعاً منها. لذا كانت السفارة ترى أنه من الحكمة اعتبار ما جاء من الحكومة المصرية من احتجاج هو مجرد حادث عرضي، إلا إذا تكرر في مرات قادمة. وخلصت السفارة إلى أن "تسمح حكومة السودان باستمرار التجارة بين السودان وإسرائيل كلما كان ذلك ضرورياً...، شريطة ألا تشمل المواد (المصدرة لإسرائيل) مواداً مذكورة في القائمة المصرية للبضائع المحظورة" (ذكر كاتب المقال في الحاشية حول هذه النقطة أن أحد الأسباب التي ذكرتها السفارة البريطانية بالقاهرة حول احتجاج مصر على شحنة "الأمباز" لإسرائيل هو أن متلقي تلك الشحنة consigner كان رجلاً يهوديا. المترجم). وخلصت السفارة البريطانية في القاهرة أيضاً بأن على حكومة السودان ألا تسمح بحركة مرور (للبضائع) بين السودان وإسرائيل، أو تمنح لإسرائيل حقوق الهبوط في أراضيها، وذلك لما قد تسببه تلك الأفعال من أضرار على مصر، وليس بمقدور حكومة السودان مراقبة وملاحقة مثل هذه الحوادث.
وفي يوم 23 يونيو من عام 1950م أمرت وزارة الخارجية البريطانية حاكم عام السودان السير روبرت هاو (بعد التشاور مع السفارة البريطانية بالقاهرة والسير روبرت هاو نفسه) بالعمل بقوة لرفض ما طالبت به مصر، والسماح للطائرات بنقل الركاب بين السودان وإسرائيل، شريطة حصول كل راكب على موافقة مسبقة من حكومة السودان. ولأسباب سياسية واقتصادية، نصحت وزارة الخارجية البريطانية كذلك باستمرار التجارة بين البلدين. وبهذا تكون الحكومة البريطانية قد رفضت تماماً ما طالب به رئيس الوزراء المصري، النحاس باشا. غير أنه ما زال بمقدور مصر إيقاف أي شحنة تجارية من السودان متجهة لإسرائيل في قناة السويس. لذا فينبغي على كل مستورد في اسرائيل لبضائع من السودان أن يدرك أنه يفعل ذلك "على مسؤوليته". ولهذا السبب أبحرت سفينة يونانية كانت متجهة لإسرائيل من بورتسودان عبر ميناء رأس الرجاء الصالح، حتى لا تصادر السلطات المصرية ما على ظهرها من شحنة بذور قطن قيمتها 210.000 من الجنيهات المصرية.
وجاء الرد المصري في يوم 22 يوليو 1950، حين أرسل حامد زكي وزير الدولة بوزارة الخارجية رسالة أعاد فيها مطلب النحاس باشا الذي كان قد قدمه قبل نحو شهرين. غير ذلك الرد تحاشى بحصافة ذكر أي أمر أو مطالبة لحاكم عام السودان، إذ كانت مصر قد أدركت أن ذلك يخالف ما ورد في اتفاقية 1899م. وامتنع الوزير المصري أيضاً عن الزعم بحقوق سيادة مصرية في السودان. وعوضاً عن ذلك، استشهد الوزير المصري بسابقة في تاريخ المملكة المتحدة إبان سنوات الحرب العالمية الثانية، حين أمرت المملكة المتحدة حكومة السودان بإيقاف التجارة مع العدو الإيطالي. وأضاف الوزير المصري: "لقد استجابت حكومة السودان لذلك المطلب على الفور ودون تردد، وبموافقة ضمنية من مصر. وبما أن التجارة بين إسرائيل والسودان هي محدودة على كل حال، فإن حظرها لن يتسبب في إحداث أي أضرار كبيرة، فالحكومة المصرية مستعدة لتعويض كل خسائر تقع على السودان (من منع التجارة بين السودان وإسرائيل)".
وكرد على رسالة الوزير المصري، نصح القسم الإفريقي لوزارة الخارجية البريطانية (بتاريخ 11 أغسطس 1950م) بالعمل بنهج تصالحي وأكثر حذراً يتلخص في عدم رفض طلب الجانب المصري في صورته الجديدة رفضاً قاطعا وحاسماً، ونصح حاكم عام السودان بأن يتقدم للحكومة المصرية بسؤال عما إذا كان طلبها يتعلق بحكومة جلالة الملك باعتبارها شريكة في الحكم الثنائي بالسودان. وكان من المأمول أنه "عوضاً عن إبلاغنا رسمياً بطلبهم (والذي سيكون بمثابة اعتراف رسمي بوضعنا كدولة شريكة في الحكم الثنائي للسودان) فإن الحكومة المصرية سوف تقرر إسقاط المسألة برمتها". وكان السبب في ذلك الافتراض هو أن حكومة الوفد المصري كانت تشكك في شرعية استمرار بريطانيا في بسط سيادتها (الكاملة) على السودان، ولن يساعد هذا قضيتها بالطبع إذا تواصلت مع الحكومة البريطانية باعتبارها صاحبة سيادة مشتركة.
وعلقت السفارة البريطانية بمصر في 9 أغسطس 1950م على خطاب الوزير المصري حامد زكي بنفس نهج القسم الإفريقي لوزارة الخارجية البريطانية، إذ نصحت بالرد بـ "قول لين" سعياً وراء تحاشي الاضرار بالعلاقات البريطانية – المصرية. غير أن رد نائب الحاكم العام في الخرطوم على رسالة الوزير المصري كان أشد حدةً في لهجته. فقد جاء في ذلك الرد أن الحاكم العام سوف ينفذ ما جاء في قانون المقاطعة العربية للتجارة مع إسرائيل فقط إن كان هذا الأمر "... يخدم مصالح حكومة السودان الرشيدة". وفي ذات الوقت كرر نائب الحاكم العام التعهدات السابقة المتعلقة بعدم تصدير أي مواد وردت في القائمة المصرية المحظور تصديرها لإسرائيل. وكما هو متوقع، ليس هناك بعد هذا الخطاب أي ذكر لمكاتبات بخصوص هذه المسألة. وتواصلت بعد ذلك العمليات التجارية البحرية وحركة الطيران بين السودان وإسرائيل إلى عام 1952م، حين توقفت أو كادت.
وفي مارس من عام 1954م سعت السفارة الاسرائيلية في لندن لإيجاد طرق يمكن عن طريقها تقويض المقاطعة العربية لإسرائيل؛ وبدا لها أن السودان هو حلقة ضعيفة يمكن – افتراضاً – كسرها بسهولة نسبية. لذا تواصل السيد / موردخاي غازيت – السكرتير الأول بالسفارة الإسرائيلية في لندن مع السيد / ويليام موريس – من القسم الأفريقي في وزارة الخارجية البريطانية – طالبا منه النصح في إمكانية نجاح مثل تلك المحاولة. وكانت أرقام صادرات السودان لإسرائيل بحسب رسالة من غازيت إلى موردخاي هي كما يلي (بالجنيه الإسترليني):
1949م ....... 540,000
1950م....... 726,000
1951م ...... 697,000
1952م ...... 343,000
1953م ........ 8,000
وذكر موريس أن غازيت أخبره بأن التجارة بين إسرائيل والسودان كانت تسير "كلها في اتجاه واحد"، أي من السودان إلى إسرائيل، وكانت تتألف في معظمها من تصدير الأبقار. وأشتكى غازيت بأن ما أضيف من مذكرات إلى الاتفاقية التي أبرمت بين بريطانيا ومصر في 12 فبراير عام 1953م حول السودان (4) عملت على وضع التجارة بالسودان، وحقوق هبوط الطائرات الأجنبية في أراضيه تحت باب "الشؤون الخارجية"، وهذا مما من شأنه تمديد المقاطعة العربية لإسرائيل. وقد تعزز هذا الادعاء بالفعل من خلال تصريح بهذا المعنى أدلى به الضابط المصري (حسين ذو الفقار صبري) إلى المجلة الأسبوعية المصرية (المصور) في 6 مارس 1953م. وكان صبري، الذي ظل يعمل في السودان منذ عام 1949م، قد تلقى تعليمات من مجلس قيادة الثورة – الذي حكم مصر بعد ثورة يوليو 1952م – للتفاوض نيابة عنهم مع كافة الأطراف (السياسية) السودانية. وربما يكون توقيت التحرك الإسرائيلي قد تأثر بالتطورات الداخلية في السودان وبتدهور علاقاته مع مصر.
****** ***** *******
إحالات مرجعية
1/ أعاد عدد من الكتاب، أهمهم الكاتب الإسرائيلي جاكوب أبادي ذكر هذه المعلومة في مقاله الصادر عام 1999م (https://shorturl.at/fkUY3 ).
2/ استشهد الكاتب هنا بتقرير للدبلوماسي ديفيد آلن Roger Allen (المسؤول عن القسم الافريقي بوزارة الخارجية البريطانية) بعنوان: "العلاقات بين السودان وإسرائيل" صدر في 21 يونيو 1950م. انظر أيضا في هذا الرابط: https://shorturl.at/hntNQ
3/ للمزيد عن اتفاقية 1936م يمكن النظر في هذا الرابط https://shorturl.at/gouDR
4/ تجد في هذا الرابط بعض التفاصيل عن اتفاقية 1953م بين مصر وبريطانيا : https://shorturl.at/bjoAP
alibadreldin@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: وزارة الخارجیة البریطانیة السفارة البریطانیة الحکومة البریطانیة التجارة مع إسرائیل المقاطعة العربیة الحکومة المصریة الجامعة العربیة البریطانیة فی الوزیر المصری حکومة السودان الحاکم العام حکم السودان السودان کان على السودان بین إسرائیل من السودان إسرائیل فی فی السودان الحق فی ما کان من عام فی یوم غیر أن فی هذا
إقرأ أيضاً:
وقفة مع مقالات الدكتور النور حمد: على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية!
لقد ظل دائما وأبداً الدكتور عبد الله الفكي البشير يذكرنا برؤية الأستاذ محمود حول أهمية العلاقات السودانية المصرية، والتي لخصها في القول بأن بين السودان ومصر جوار جغرافي، وتاريخ مشترك طويل، ولهذا لا بد من تحرير هذه العلاقات الثنائية من الإرث السياسي، ومن الجهل بها، كعلاقات مصيرية، حيث لا بد لنا من بنائها على المصلحة المستقبلية للشعبين.
كما أوضح عبد الله بأن الأستاذ محمود يقول إن مصر بالنسبة للسودان هي بمثابة العقل في الجسد، وإن السودان بالنسبة لمصر هو في موقع القلب، ولأهمية تجاوز هذا العداء غير الطبيعي، حنى يمكن وصول الدولتين لبلوغ الرؤية الاستراتيجية الصحيحة والمبنية على تحقيق هذه المصلحة المستقبلية للشعبين. كما ذّكرنا عبد الله، قائلاً: إن الأستاذ محمود يقول: "أنا ما عندي أعداء أنا ملازم الحق"، والموحد لا يعادي ولا يتطرف في مواقفه وفي آرائه، سواء تجاه الإنسان أو تجاه جميع الخلائق.
ولكن المتابع لمقالات الدكتور النور حمد حول هذه العلاقة بين السودان ومصر، لا بد أن يراها تجنح نحو تركيز هذا العداء غير الطبيعي، وتأجيج هذه البغضاء الخطيرة في نفوس السودانيين، بدلاً من تهدئتها، لخلق المناخ النفسي الملائم لتصحيح الأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها الحكومات المصرية، قديماً وحديثاً، على الرغم من بضعة الإشارات التي ترد في كتاباته لأهمية تصحيح هذه الأخطاء، والتي ربما يكون تأثيرها ضعيفاً على القارئ، لأنها تأتي بعد سيل من سموم تركيز الكراهية والعداء، والمبالغة في التشكيك في كل ما يحتمل أن يكون إيجابيا، وصالحا للبناء عليه لتصحيح هذه العلاقة الاستراتيجية لمصلحة الشعبين!
خذوا مثالا لما تقدم مما كتبه في هذه الحلقة العشرين، والأخيرة، في سلسلة مقالاته تحت عنوان: على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية، حيث كتب مشككا ليقول:
"في نفس هذا السياق ذكرت صحيفة "الشرق الأوسط" أن سودانيين مقيمين في القاهرة اقترحوا منح الأولوية للشركات المصرية، للمساهمة بشكل موسَّعٍ في عمليات «إعادة الإعمار»، بعد انتهاء الحرب. ولنا أن نتساءل هنا لماذا يقترح هؤلاء منح الأولوية للشركات المصرية في عملية إعادة إعمار السودان؟ فهذا مقترح غير راشد بل ومغرض وغير قانوني لأن من تقوم به حكومة غير منتخبة!! بل هي طرفٌ في النزاع القائم الآن وقرار منح مصر الأولوية قرارٌ سياسيٌّ وليس قرارًا إدرايًا سليما. كما أنه يجري من وراء الإرادة السودانية! وقد أشار هذا المركز إلى: "بدء شركات مصرية تنفيذ بعض الأعمال حالياً، من بينها تأهيل بعض الكباري في الخرطوم". وأضافت الصحيفة أن مصر والسودان قد اتفقتا على تشكيل "فريق مشترك لدراسة خطة إعادة الإعمار والتجارب الدولية لتحقيقها" انتهى النقل.
فهل خطر ببال الدكتور النور أن السبب وراء استعجال تنفيذ مشاريع إعادة إعمار وتأهيل البنية التحتية السودان، بعد إيقاف الحرب، ربما يكون حقيقة أنها مشاريع حيوية وملحة، لا تحتمل التأجيل، لأن معاش الناس، في السودان قبل مصر، يعتمد اعتماداً أساسياً على تأهيل هذه البنية التحتية، وخاصة تأهيل مشاريع الطرق والجسور والمياه والكهرباء، والمواصلات العامة، وغيرها؟! هل هذه من الأمور التي لا بد لها أن تنتظر قيام حكومة منتخبة، قد يستغرق الوصول إلى تشكيلها بضعة سنوات، في أحسن الأحوال؟!
وهل خطر ببال الدكتور النور أن أهم أسباب اختيار الشركات المصرية للقيام بمهمة تنفيذ هذه المشاريع الملحة على وجه السرعة، وبتمويل عاجل من بعض دول الخليج التي أشار إليها، ربما يكون كفاءة وجاهزية هذه الشركات التي أنجزت المشاريع العمرانية الضخمة في مصر خلال العقد الأخير، مثل مشاريع العاصمة الإدارية الجديدة، شرق القاهرة. ومشروع تطوير مدينة العلمين الجديدة، ومشاريع توسيع المدن القائمة، بما في ذلك إعادة إحياء وسط مدينة القاهرة وتحسين البنية التحتية في الإسكندرية، ومشاريع ومبادرات المدن الذكية التي تدمج التكنولوجيا لتحسين الإدارة الحضرية، وتعزيز الاستدامة، وتوفير خدمات عامة فعّالة، بالاضافة إلى تنفيذ مشروع تطوير قناة السويس،الذي أدى إلى زيادة سعة وكفاءة قناة السويس، مما سمح بمرور سفن أكبر وزيادة حركة الملاحة البحرية. وشمل إنشاء مسار جديد بمحاذاة القناة الحالية. وكذلك مشاريع مضاعفة شبكة السكك الحديدية فائقة السرعة، لربط مختلف مناطق البلاد وتحسين كفاءة النقل. ثم مشاريع الطاقة المتجددة، التي استثمرت فيها مصر استثمارات ضخمة في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وأبرزها محطة بنبان للطاقة الشمسية، إحدى أكبر محطات الطاقة الشمسية في العالم، ومشاريع الطرق والجسور، حيث قامت الشركات المصرية بإنجازات مذهلة، تمثلت في بناء المئات من مشاريع الطرق والجسور لتحسين الربط في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك تطوير الطرق السريعة الجديدة وأنظمة النقل الحضري المتقدمة.
هذه فقط مجرد أمثلة لمشاريع التنمية العمرانية الضخمة التي أنجزتها شركات البناء المصرية، وإلا فإن القائمة تطول، وأنا متابع لها، وما قصدت من ذكرها إلا لتأكيد حقيقة أن هذه الامثله هي التي تجيب على السؤال، لماذا مصر وليس غيرها، التي ربما يكون قد تم اختيارها لتنفيد المشاريع العاجلة لإعادة تأهيل وترميم البنية التحتية فى السودان، بعد إيقاف الحرب!
والسؤال هو: هل يرى الدكتور النور دولة أكثر جاهزية وتأهيل، وذات مصلحة مباشرة في إعادة تأهيل السودان، أكثر من مصر، وشركاتها التي تكاد أن تكون قد انتهت من مهامها العمرانية في مصر، على الرغم من علمنا بما ظلت ظلت وما زالت تخطط له مصر من محاولات الهيمنة على السودان، عبر الخونة من قادته السياسيين، سواء كانوا عسكريين مثل البشير والبرهان، أو مدنيين مثل قادة الاتحاديين قديماً، وصولا لقادة تقدم الذين استسلموا و خضعوا مؤخراً لتوجيهات المخابرات المصرية؟!
والسودان ليس الأول وليس وحده في كل هذا، فلقد شاركت مصر بفعالية في مبادراتٍ للمساعدة في إعادة تأهيل وإعادة إعمار مدنٍ مختلفة في المنطقة، لا سيما في العراق وليبيا ودولٍ أفريقية أخرى. وفيما يلي بعض النقاط الرئيسية المتعلقة بهذه الاتفاقيات والتعاون:
العراق (إعادة إعمار بغداد):
لقد شرعت مصر في تنفيذ التزامها بالمساعدة في إعادة إعمار العراق، وخاصةً العاصمة بغداد، بعد سنواتٍ من الصراع وعدم الاستقرار. وشمل ذلك اتفاقياتٍ لتقديم الخبرة الفنية وتنفيذ مشاريع البناء الكبرى. حيث شاركت الشركات المصرية في مشاريعَ بنيةٍ تحتيةٍ متنوعة، بما في ذلك بناء الطرق والجسور والمرافق العامة، بهدف المساعدة في استعادة الحياة الطبيعية وتحسين الظروف المعيشية في المناطق الحضرية.
ليبيا (إعادة إعمار طرابلس):
لقد لعبت مصر دورًا رئيسيًا في دعم جهود الاستقرار وإعادة الإعمار في ليبيا، وخاصةً في طرابلس، التي واجهت تحدياتٍ كبيرةً بسبب الاضطرابات المدنية.
- تم إبرام اتفاقياتٍ لشركات إنشاءات مصرية للمشاركة في إعادة بناء البنية التحتية، بما في ذلك الإسكان والمدارس ومرافق الرعاية الصحية. وتُعدّ مشاركة مصر جزءًا من استراتيجيةٍ أوسع لتعزيز الأمن والتعاون في المنطقة. ٣. **المبادرات الأفريقية**:
وكذلك شاركت مصر في جهود أفريقية متعددة تهدف إلى التنمية الحضرية وتحسين البنية التحتية. غالبًا ما تركز هذه المبادرات على تحسين التخطيط الحضري، وأنظمة النقل، والبنية التحتية للطاقة في جميع المدن الأفريقية.
لماذا نحرص مصر ودول الخليج على استعجال تنفيذ مشاريع إعادة تأهيل البنية التحتية في السودان؟!
الإحابة باختصار، وبغض النظر عن المكاسب المالية التي ستجنيها الشركات المصرية، فإن هناك حقيقة أنها استعجال تنفيذ هذه المشاريع هو أقصر طرق تجاوز خطر المجاعة في مصر، لأن تسهيل وتطوير انتاج المحاصيل واللحوم في السودان، بخفف من مخاطر نقص الغذاء في مصر، وهذه حقيقة لا نحتاج للولوج في تفصيلاتها، على الرغم من اعتراضنا على كيفية وصول هذه المحاصيل واللحوم الى مصر، وما يكتنفها من تهريب وشراء بالعملة السودانية المزورة!
أما مصلحة دول الخليج، فهي في الغالب مصلحة الباحثين عن فرص الاستثمار المواتية، خاصة إذا ارتبطت هذّه الغرض بتأمين الغذاء في هذه الدول، وفي هذا كثير مما يمكن أن يقال.
بدر موسى
bederelddin@yahoo.com