الغزو الفرنسي وإشكالية نهضة مصر.. قراءة في كتاب
تاريخ النشر: 24th, February 2024 GMT
لقد أظهر غزو نابليون لمصر واحتلالها الهوة التاريخية السحيقة وسعة الشقة، التي تفصل المجتمعات الأوروبية الحديثة عن المجتمع العربي الاسلامي، الذي يهيمن فيه النظام البطركي التقليدي القديم، والتبعية. فالمجتمعات الأوروبية تتسم بالحداثة الصناعية الغربية القائمة على فكرة التقدم، والمبنية على عقلنة التاريخ، وعقلنة الفكر الفلسفي، والفكر السياسي، والمعقولية في مجال العلم والدين، وإعادة صياغة العقل من خلال ارتباطه الصميمي بالثورات التكنولوجية المتلاحقة وبمجالات التفكير العلمي.
حيث أن هذه الحداثة الغربية مرتبطة أيضاً بالتطور الكبير، الذي عرفته الثورة الصناعية مع انتقال أوروبا على الصعيد الاقتصادي من نمط إنتاج إقطاعي إلى نمط إنتاج رأسمالي، أصبح فيه الإنتاج الصناعي للسلع يتطلب فتح أسواق جديدة، خصوصاً بعد انتقال الرأسمالية من مرحلة تراكم رأس المال الأولى (المركنتيلية) المتصلة بالتجارة البعيدة والنهب للمستعمرات القديمة إلى مرحلة الراسمالية التنافسية ما قبل الاحتكار، التي تتطلب التجارة، مع الإبقاء على النهب.
وبالمقابل، نجد المجتمع العربي الاسلامي يعاني من التصدع في بُنْيَانِهِ، ومن أزمة بنيوية شاملة، بسبب الانفلاقات الصُلْبِيَة، والانقسامات المجتمعية التقليدية، العمودية، والفئوية، والمحلية، والاقليمية، الحادة، التي كانت تفتت وتذرر الأمة، ومن وضع مجتمعي ايديولوجي وسياسي ما قبل القومية، سمته الرئيسية التأخر التاريخي، وسيطرة البني التقليدية، حيث أن هذا النظام الاجتماعي ـ السياسي التقليدي يجسد الانحطاط التاريخي بامتياز، فضلاً عن أنه لايمتلك المقومات اللازمة لكي يكون قادراً على الاداء، كنظام اجتماعي ـ سياسي في المجال السياسي الموحد، والاقتصاد المتكامل، والجهاز العسكري الفعال، أنه نظام اجتماعي تتحكم فيه آلية تنتج وتعيد إنتاج البني التقليدية الهجينة، والبني غير العقلانية في مختلف مجالات الحياة.
وفي حالة التخثر هذه للمجتمع العربي واجه الصدمة الكولونيالية القائمة على الحضارة الصناعية الغربية، وعلى الحداثة المرتبطة جدلياً بالعقلانية الغربية، اللتين أصبحتا العماد الأساس للمركزية الأوروبية، التي تصبو إلى الهيمنة على الحضارات الأخرى، وحشد وإقحام الشعوب المتمايزة في أنماط عيشها، وثقافتها، وحضارتها المختلفة في بوتقة الاستعمار الغربي، باسم أيديولوجية حداثة المركزية الأوروبية هذه، ومستتبعاتها من فكرة التقدم والتنمية، باعتبارها السمة الجوهرية للعقلانية الغربية، "فتبدو كأنها كونية عالمية، أو قل" علمية" بما أنها تقنية، صالحة لكل زمان ومكان".
وعلى قاعدة الهيمنة هذه في اتجاه سيطرة الحضارة الصناعية الرأسمالية على الصعيد الكوني، احتدم الصراع التنافسي بين الدول الأوروبية الكبرى، وتحديداً بين فرنسا وبريطانيا، لتقطيع أوصال الامبراطورية العثمانية عبر الفتوحات الاستعمارية للوطن العربي، وما استتبعها من مقتضيات التوازن الأوروبي، وما استدعاها من تقلبات في التحالفات، حيث ان الصراع مقاصده تتمثل في المزاحمات الاقتصادية لتوسيع الممتلكات الكولونيالية بين الدول الأوروبية باسم الايديولوجيات الحديثة الكبرى المؤسسة على الليبريالية، والقومية، وعلى تسارع الإنجازات المادية والتقدم التقني، و"تأورب" العالم.
مصر صنعت لنفسها، قبل مجيء الفرنسيين، بعقود طويلة، طريقاً نحو التنمية الرأسمالية وأن الاحتلال هو الذي أعاق هذا التطور وأحدث إرباكاً للمجتمع المصريوبالمقابل، كان فساد النظام الإقطاعي المستبد داخل السلطنة العثمانية، وانحطاطه، قد قاد إلى تدهور الزراعة، وإلى سيادة الفوضى الشاملة خلال العهود الأخيرة من حكم المماليك والامراء في مصر، وفي غيرها من الولايات المتحدة العثمانية، نتاج جشع الولاة وعبثهم. وهو الوضع الذي أدى إلى ضعف السلطنة العثمانية حيال تنمية الرأسمالية الأوروبية حيث كانت الدول الاستعمارية تطمح للسيطرة على قطاعات استخراج الخامات التي تمد الالة الصناعية الراسمالية بحاجاتها ،وذلك باقتطاع هذه الولايات من السلطنة العثمانية.
يقول الباحث مجدي فالح: "اختلف المؤرخون حول مدى ارتباط الحملة الفرنسية بالتحديث والنهوض في مصر، فبينما يرى فريق أنّ الحملة وليدة الثورة الفرنسية، التي نادت بإنسانية الإنسان ودعت إلى تحقيق العدالة والحرية والمساواة، قد دخلت مصر لتيقظ الوعي الداخلي بها، ومن ثمة فإنّ ظهور حركة تنويرية تحديثية في العالم العربي الإسلامي مدين للغرب وحده، دون البحث عن الشروط الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والسياسية، التي ولدت شروط الانتقال، يرى فريق آخر أن الحملة الفرنسية لم تكن بداية نهضة حقيقية، وأن مصر كانت تعيش ارهاصات تحديثية خلال القرن الثامن عشر، ولكنّها مرت بأزمة، في نهاية القرن التاسع عشر، وخلال هذه الأزمة دخل الفرنسيون، ومن هذا المنطلق يصبح التطور وارداً قبل الحملة وما حدث في عصر محمد علي باشا والاحتلال الفرنسي مجرد امتداد لجذور نهضة سابقة ولإرهاصات حداثة محلية ظهرت بوادرها قبل أن يأتي الغرب أصلاً(ص 61).
لحظة تحديثية أم غزوة استعمارية؟
هناك من يردُّ تجربة التحديث إلى المؤثر الخارجي، الذي مثلته فترة الاحتلال الفرنسي، وقد أجمع هؤلاء على أن ظهور حركة تنويرية في الشرق، وبعث الآداب العربية ومعاداة قطاع وظهور الوعي القومي والدعوة إلى الاستقلال السياسي وتبلور حركة الإصلاح الديني مدين للحملة الفرنسية، في حين ارتأى الفريق الثاني، أن مصر صنعت لنفسها، قبل مجيء الفرنسيين، بعقود طويلة، طريقاً نحو التنمية الرأسمالية وأن الاحتلال هو الذي أعاق هذا التطور وأحدث إرباكاً للمجتمع المصري، في ذات الاتجاه عدّت الحملة حدثاً عرضياً، ليس له بصمة واضحة ولا أثر دائم، باعتبار أن المجتمع المصري كان مآله التغيّر دون هذه الحملة العسكرية، وقد اعتبرت هذه الدراسات أنّ ما حدث في مصر، خلال الحملة الفرنسية، كان بمثابة "... الإجهاض لحركة تنويرية أخذت في التشكل خلال القرن الثامن عشر، وأنه لو تركت هذه الحركة لحالها لصنعت تغييراً فكرياً يتسم بالثبات على عكس ما حدث من تغيير مفروض من أعلى..." يبدو أن هذا الاختلاف الواسع، بين الدارسين، قد جاء نتيجة للتركيز على دراسة الدولة/ السلطة أو بالأحرى الجانب السياسي والعسكري الذي بدا طاغياً على عديد الدراسات، بشكل لم يجعل للتاريخ الاجتماعي والاقتصادي لهذه الفترة سوى جزء محدود في التحليلات نظراً لاحتكار الطبقات المهيمنة لكتابة التاريخ، ومن ثمّة، بات من غير المعقول تماماً اختزال هذا الجانب السياسي، من أجل تصوير مشروع الاحتلال الفرنسي، على أنه مجرد مرحلة في تاريخ فاتح عظيم.
كثيراً ما كانت الكتابة عن الحملة الفرنسية نابولينية بشكل بالغ الحدّة، إذ يجري النظر إليها غالباً بوصفها مرحلة في مسيرة فاتح عظيم ومحرر كبير، ولا يجري النظر إلى الجوانب الشرقية للمسألة، ولذلك أكدت ليلى عنان أنّ أسطورة الدور هي أسطورة نابليون، الأمر الذي يجعل الحاجة ماسة إلى إخضاع الحقائق الاقتصادية والاجتماعية الخاصة بهذه الفترة للفحص المجهري الدقيق، سعياً إلى إعادة تقويم آثار هذا الاحتلال، بأكبر قدر ممكن من الموضوعية وتقديم فهم أعمق لحقيقة التفاعل الذي تمّ بين الجانبين، تربط عديد الأعمال التاريخية بين الحملة الفرنسية على مصر (1798 - 1801)، وبداية تاريخ مصر الحديث والمعاصر وتتكرر في ذات السياق نظرية مفادها أن الحملة الفرنسية أخرجت مصر في قرون الركود العثماني والمملوكي إلى آفاق التحديث، حتى أصبحت هذه النظرية من المسلمات التاريخية والفكرية لدى العديد من الدارسين، وقد جعلت هذه الدراسات، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، في أوروبا كما في الشرق، من الحملة الفرنسية على مصر نقطة بداية الحداثة والتنوير في العالم العربي الإسلامي، وقد رفعت بعض الدراسات، التي حاولت الاشتغال على أطروحة حمل المدنية إلى الشرق والمهمة التنويرية للحملة الفرنسية على مصر، شعار "ذهب المدفع وبقيت المطبعة"، ينطلق أصحاب هذه الرؤية من فكرة استشراقية تدعو إلى تكريس المركزية الأوروبية والترويج لأسطورة ترافق التدخل الأجنبي مع حمل المدنية والتنوير للشرق.
وعلى الرغم من تطرق بعض هذه الأعمال إلى محاولات الإصلاح التي تمّت، خلال القرن الثامن عشر، ورصدها للعلاقة مع الغرب، قبل الحملة، من خلال المدارس أو الإرساليات أو المطابع وغيرها فإنها تصر على التأكيد على وقع الصدمة العسكرية والحضارية التي أحدثتها حملة بونبارت، إذ تطلق هذه الدراسات على ما أحدثته الحملة الفرنسية في الوعي العربي تعبير "صدمة الحداثة" التي أفاقت الإنسان العربي من سباته إثر اصطدامه بحضارة عالم جديد، لا تمت بصلة إلى مفاهيمه عن الكون والحياة فقوّضت نرجسيته وجعلته يراجع مفاهيمه عن الكون ويدرك فواته التاريخي وتأخره الحضاري.
الملاحظ أن هذه الأعمال وغيرها لم تكتف بحملة نابليون كسنة مفصلية يؤرخ بها لميلاد النهضة العربية الحديثة، ولكنها حددت نهايات هذه النهضة بسنوات تبدو في أغلبها مرتبطة بأحداث غربية لا علاقة لها بالعالم العربي الإسلامي فعصر النهضة ينتهي عند حليم بركات، وعلي المحافظة سنة 1914، أي ببداية الحرب العالمية الأولى، وعند ألبرت حوراني سنة 1939، أي ببداية الحرب العالمية الثانية، أما محمد جابر الأنصاري فيختار سنة 1930، لنهاية عصر النهضة العربية التي ترتبط بأزمة الثلاثينيات الاقتصادية التي شهدها الغرب، وعلى الرغم من انعكاس هذه الأحداث على العالم العربي الإسلامي بتأثيرات مختلفة، فإنها تبقى أحداثاً ذات دلالات متعددة أبرزها أنها أحداث صنعها الآخر الحضاري في الأساس، ووضعها بوصفها علامات فارقة في التاريخ الفكري العربي الإسلامي الحديث، وهو ما يمثل تبعية ثقافية شبه مطلقة للغرب، ومن ثمة فإن التأكيد عليها وتكرارها ووضعها كمحطات أساسية وفارقة في النظام الثقافي العربي، يضخم من ظاهرة "جلد الذات"، وهو ما جعل عبد الوهاب المسيري يذهب إلى الإقرار بأنه ثمة هزيمة داخلية في الفكر العربي تجعل من الغرب المرجعية الوحيدة ومصدر المعرفة الأوحد.
لقد ربطت هذه الدراسات بين الحملة الفرنسية والنهضة العربية عامة والمصرية خاصة بحجة أن الحملة الفرنسية أخرجت مصر من عصور الركود العثماني والمملوكي إلى تحول هذه الفترة إلى أهم الفترات المبحوثة مما أفرز حالة من التأزم العقلي تجاه الآخر وحالة مماثلة من التأزم العقلي بين المثقفين بعضهم البعض.
يقول الباحث مجدي فارح: "طرحت إشكالية اقتران التأريخ للنهضة العربية الحدود من عدمه بالحملة الفرنسية على مصر، عدة إشكاليات وظواهر وعيوب داخل الخطاب العربي الحديث والمعاصر، أول هذه الظواهر مسألة التخوين والتكفير في الخطاب العربي المعاصر والتي تنطلق من الرؤية الإسلامية/ العلمانية الانشطارية، فصعد جلال كشك يصف لويس عوض الذي اعتبر أن بونبارت "فر رجل الأقدار الذي يقع على يديه ذلك التغير العظيم في تاريخ مصر" بأنه عميل المدرسة الاستعمارية في تفسير التاريخ، كما يصف مصطفى عبد الغني وجهة النظر المؤيدة للعملة الفرنسية بالتبعية الأيديولوجية للنزعة الاستشراقية، وفي عبارات واصطلاحات تدخل في قاموس الصور الذهنية، المتبادلة، بين الإسلاميين والعلمانيين وتمتلئ بها كتبهم معبرة عن النفي الفكري للآخر، من خلال الاشتغال الوظيفي على المعتقدات الدينية والانتماء الوطنية.
اعتبرت عدة دراسات، أن حملة نابليون فاتحة لاتصال ثقافي مستمر بين مصر وأوروبا وعاملاً فاصلاً في تكون الأفكار السياسية والاجتماعية في مصر خاصة والعالم العربي الإسلامي عامة، وقد عبّر لويس عوض عن الارتباط الحضاري بالغرب لجيل من الليبراليين العرب، الذين انخرطوا بعد هزيمة 1967، في البحث في أسباب الهزيمة واعتبروا أنّ حملة 1798، هي نقطة بداية الحداثة أما الفترة العثمانية فهي بمنزلة العصورالوسطى، مطبقين النموذج الأوروبي في قراءة التاريخ المصري.
إقرأ أيضا: إخفاق التحديث الكولونيالي في العالم العربي.. كتاب عن الحملة الفرنسية على مصر
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتابة تونس كتاب عرض نشر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الحملة الفرنسیة على مصر العالم العربی الإسلامی هذه الدراسات فی مصر
إقرأ أيضاً:
برعاية السيد ذي يزن «البخّارة» تحصد جائزة مهرجان المسرح العربي.. وإشادة بالعروض التي «وظفت التكنولوجيات والرقمنة»
حصلت مسرحية " البخّارة" لـ"أوبرا تونس، قطب المسرح" على جائزة صاحب السمو الشيخ سلطان بن محمد القاسمي، وذلك في حفل ختام مهرجان المسرح العربي الخامس عشر، تحت رعاية صاحب السمو السيد ذي يزن بن طارق آل سعيد وزير الثقافة والرياضة والشباب، بتنظيم من الهيئة العربية للمسرح، ووزارة الثقافة والرياضة والشباب والجمعية العمانية للمسرح.
وكان العرض الفائز من تأليف: صادق الطرابلسي وإلياس الرابحي، وإخراج صادق الطرابلسي. وتقدم المسرحية حكاية اجتماعية عميقة تعكس واقع الانسان المعاصر، في مواجهة آثار التلوث البيئي والاجتماعي، مستحضرة تفاصيل الحياة اليومية في بيئة خانقة تتلاشى فيها الأحلام، وتتصاعد فيها الصراعات.
وأعلنت الهيئة العربية للمسرح أن "القاهرة" ستكون هي الوجهة القادمة للمهرجان الذي يجوب أقطار المنطقة العربية، وكانت مسقط هذا العام هي حاضنة المسرح العربي، بعروض بلغت 15 عرضا في المسار الأول، و 4 عروض في المسار الثاني، إضافة إلى ندوات وورش عمل متنوعة.
مسرح متجدد
وألقى الفنان اللبناني رفيق علي أحمد رئيس لجنة التحكيم بيانا أشاد فيه بالمناخ الحر والإيجابي الذي وفرته الهيئة لعمل اللجنة التي تحمل على عاتقها تحقيق أهداف المهرجان في مسرح جديد ومتجدد، مسرح محترف، مسرح يحقق حلمنا جميعاً في مسرح عضوي ومشتبك مع قضايا أمتنا والإنسانية جمعاء".
وحول العروض قال رئيس لجنة التحكيم: "قدمت العروض جميعاً رؤى جديدة وجماليات تنحو نحو توظيف التكنولوجيات الجديدة والرقمنة، كما شهد المهرجان وجود ستة عروض من أصل خمسة عشر عرضاً في المهرجان بتوقيع ست مبدعات عربيات ومن أجيال مختلفة، وطرحت أعمالهن قضايا معاصرة تعيشها مجتمعاتنا وتلمست مكامن الأمل والألم، وتحيي اللجنة هذه الجهود الإبداعية الفارقة".
المسرحيات الختامية
وقدمت فرقة شادن للرقص المعاصر العرض قبل الأخير من عروض المهرجان ضمن العروض المتنافسة على جائزة الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي في مهرجان المسرح العربي الخامس عشر، وهو من إخراج شادن أبو العسل.
يطرح العرض قوة الجسد كأداة تعبير ومقاومة، مستعرضاً صراعاً إنسانياً أزلياً بين القمع والطموح نحو الحرية. وتميز العرض بشخصياته الرمزية الأربعة التي حملت أدوارها معاني عميقة ضمن سياق رمزي مليء بالتأويل.
الناقد جمال قرمي في قراءته للعرض المسرحية الفلسطيني "ريش"، تناول العديد من النقاط التي تبرز عمق العرض وحساسيته الفنية، مشيراً إلى أن رؤيته كممارس للعرض المسرحي جعلته يحب هذا العمل. واصفاً العرض بأنه يمثل"سلطة الصمت" في مواجهة الكلمة، حيث يرى في ذلك إيديولوجية الصمت الذي يعكس ما نعيشه في حياتنا اليومية. فالجسد في هذا العرض يتخذ مكانة رمزية، فيما الكلمات تأخذ دوراً ثانوياً في المجتمعات التي تعاني من القمع، ليصبح الجسد مساحة للمقاومة وأداة يستخدمها الفنان للتعبير عن قضايا وجودية وإنسانية.
"ريش" في نظر قرمي هو صرخة الروح المستلبة، حيث أن الجسد يتحول إلى سلاح للحرية في مواجهة التسلط وقيوده. ويعكس العرض مستويات عالية من الالتزام، ويعبر عن الواقع من خلال مزج الحركة المسرحية مع الرقص. كما أن العرض يعري مفهوم التحرر ويضيء قدرة الإنسان على المقاومة والتمرد.
وعن شخصية المرأة التي أدتها ماشا سمعان رأى قرمي أنهل تظهر في العرض كتجسيد للتمرد والتحرر، فتفتح آفاقاً جديدة وتتنقل عبر الألوان الأزرق والوردي، ليعتلي هيكلها الأنثوي في دور ذكوري، واختزال السلطة المطلقة التي تسيطر على المستلبين. بينما تظهر المرأة الدمية التي أدتها هيا خورية في حالة من الامتثال، حتى تصل إلى حالة التماهي الكامل مع القوى المسيطرة.
أما شخصية الرجل المستلب التي أداها عنان أبو جابر، فيعكس تفاعله مع الدمية تلك الحالة المشتركة بين المستلبين والمستبدين حسب قرمي. وهي تأتي كجزء من الصورة الرمزية التي يعكسها العرض، حيث تسلط الضوء على العلاقة بين الحرية والقبول بالواقع المفروض.
وعلى صعيد السينوغرافيا، يرى قرمي أن هذه العنصر يمثل نقطة محورية لدعم الحكاية وتعميق التأثير العاطفي، حيث يكون الفضاء المسرحي بين القيود والانفتاح، متقشفاً ومفتوحاً، وتسيطر عليه البساطة التي تمنح المشاهد الفرصة للتأمل. التصميم شبه الخالي من العناصر الداخلية يعكس السجن الداخلي الذي تعيشه الشخصيات.
أما فيما يخص الإضاءة، فهي تمثل لغة بصرية ذات طبقات متعددة، إذ يسيطر اللون الأزرق على مشاهد السلطة، بينما يشير اللون الأحمر إلى التحول والصراع والغضب. كما أن الإضاءة الخافتة والهادفة تُستخدم لعزل الشخصيات وتركيز الانتباه على التفاصيل الحركية.
أما الديكور، فيتمحور حول الكرسي الذي يصبح رمزاً للقيد والاستلاب كما يشير قرمي، فيما يضفي المرسى المرتفع هيمنة على العرض. بينما يمثل عنصر الريش رمزية للهشاشة، مما يضيف عمقاً آخر لفهم الشخصية والصراع الداخلي.
ولعبت الأزياء دوراً هاماً في تحديد هويات الشخصيات وديناميكيات علاقاتهم، لتكتمل بذلك رمزية العرض الذي يبحث عن كينونة الإنسان الحر. ويختتم قرمي بالإشارة إلى أن العرض يمثل نوعاً من الرقص المعاصر الذي يفتح الأفق لأسئلة التحرر والوجود.
إجمالاً، يعتبر جمال قرمي أن "ريش" هو عرض مسرحي يبحث في جوهر الإنسان وحريته، ويعكس بعمق الصراع الداخلي الذي يعيشه الأفراد في مجتمعاتهم القمعية، وتظهر فيه رمزية قوية ومؤثرة في جميع جوانب العرض.
وكان موعد ختام العروض المسرحية للمهرجان بعرض دولة الكويت الذي حمل عنوان "غصة عبور"، تأليف تغريد الداود، وإخراج محمد الأنصاري، وتدور أحداثها حول مجموعة من الأشخاص المغتربين العالقين على جسر مشاة هش رابط بين منفذين، لكل شخصية منهم تاريخ عميق يربطه بهذا الجسر، فتوقفوا عليه كالغصة التي تقف في سقف الحلق.
رسائل كثيرة بعثها العرض المسرحي، حوارات مشبعة بالوجع، وأخرى مليئة بالكوميديا السوداء، وشخوص تقمصوا الأدوار بتمكن ومثالية، وأفكار متداخلة تغذي العرض وتبهر الجمهور، وجال السؤال الذي تردد كثيرا على خشبة المسرح، وربما في أذهان الجمهور، ما هو الوطن؟ وكيف يعيش الإنسان في دوامة البحث عن الوطن، أن يجرد شاعر من كلماته ويسلب حبر قلمه النابض بحب الوطن، فيتبدل من شخص إلى آخر، طاويا غياهب ذاته في دوامة الغربة، تلك التي فرقت بين رجل وأسرته، فكان لزاما عليه أن يبقى مغتربا لما يصل إلى 30 عاما ليؤمن حياة كريمة لأبنائه القاطنين في الوطن، وهو المحروم من العيش فيه، تماما كحرمان أم أنجبت طفلها في الغربة بعد أن هجرها الرجل الذي حاربت أهلها لتكون برفقته، وبقيت عالقة تتجرع مرارة الألم والحرمان، فلا هي لوطنها تعود، ولا هي تملك لطفلها وطن.
الغربة بمفهومها الواضح والصريح، والمبطن الخفي هي أبرز ما كانت المسرحية تتناوله بعمق فكري، وكتابة مسرحية متمكنة، ولم يكن الوطن إلا شعورا عميقا بالمكان أو الأشخاص أو العاطفة، فهو بكل أشكاله ومعانيه المختلفة بين شخص وآخر ما هو إلا شعور صادق بالأمان والاطمئنان والاستقرار، الشعور أنك في حماه تجد كل التفاصيل التي تؤهل لعيش الحياة المطمئنة السعيدة.
وتميز عرض "غصة عبور" باختيار للأزياء، وألوانها ذو الدلالات المرتبطة بكل شخصية، كما كان عمل الديكور بكل تفاصيله ومعانيه، وإمكانية تحريك "الجسر" بين الحين والآخر بما يتواءم وحوارات الأداء، وبطبيعة الحال كانت الإضاءة متماشية مع كل مشهد.
أدّى بطولة المسرحية كلا من: الفنانة سماح، والفنان عبدالله التركماني، والفنان عبدالعزيز بهبهاني، والفنان عامر خليل أبو كبير، والفنان أحمد صايد الرشيدي، وآخرين.