كانت محاولة فرض العهدة الخامسة هي الشرارة التي أطلقت الحراك الشعبي، غير أن الشرارة لا يمكن أن تحدث انفجارا ما لم يكن ثمة تكديس لمواد قابلة لذلك، والذي جعل العهدة الخامسة تفجر الشارع هو ذلك الاحتقان الشديد الذي كان في المجتمع الجزائري، والذي عبرت عنه توترات شعبية عديدة في مختلف أنحاء الوطن قبيل الحراك، من أبرزها توترات خنشلة وخرّاطة.



إن الأسباب التي صنعت الاحتقان كثيرة أهمها  الفساد المالي الذي بلغ احجاما فلكية غير مسبوقة صنعتها البحبوحة المالية التي نتجت عن الاستغلال المفرط للمواد النفطية الاحفورية وارتفاع أسعار البترول، وقد تحول الفساد إلى مؤسسة رسمية صنعت أولغاركية مدنية هي أقرب إلى الكليبتوكراسيا تحكمت في مؤسسات الدولة كلها، وجعلت مركز الحكم في الجزائر  يتحول بالتدرج من الحكم العسكري إلى حكم المال.

لقد كانت الأرقام التي رُصدت للتنمية خيالية وكان الترويج لها من زبائن النظام والطبقات الانتهازية في الأحزاب والمجتمع المدني ولدى الشخصيات عظيما حتى يخيل لك أن الجزائر ستصبح دولة عظيمة من الدول الصاعدة،  وكانت الأصوات التي تدين الفساد وتستشرف الانهيار تعدُّ راديكالية وخائنة للوطن. ولم تكن المؤسسات الرسمية والمجتمعية قادرة على تصحيح الوضع بسبب التزوير الانتخابي الذي أنتج مجالس منتخبة موالية لمن زورها، وجعل السلطة التنفيذية مهيمنة على كل السلطات، والقضاء تابعا يسير بتعليمات سادة الحكم الجدد المرفّهين، والمجتمع المدني مجرد شبكات انتهازية في غالبها، والمؤسسات الإعلامية أبواقا للبروباغندا في أكثرها.

غير أن انهيار أسعار النفط بين 2014 و 2016 فضحت الأوهام وكشفت السحر وعندما بدأت الأحوال المعيشية تتراجع بسبب التضخم وانهيار أسعار الدينار بدأت مطالب الانتقال الديمقراطي تتصاعد ومشاريع الإصلاح الدستوري ووقف التزوير الانتخابي وتجسيد الإرادة الشعبية وتحقيق الحرية الإعلامية والمجتمع المدني تتزاحم، وأخذت الحيوية السياسية والحزبية تتأكد فحقق ذلك كله وعيا شعبيا عاما عبر بقوة ووضوح عن الاحتقان الشديد في المجتمع حتى إذا ما جاءت محاولة فرض العهدة الخامسة تدفق السيل من كل حدب وصوب.

من أكثر المظاهر سوءا التي برزت ولم تكن حاضرة ما قبل الحراك هو التحكم المطلق في الطبقة السياسية وفي المجتمع وموت السياسة في بلادنا الذي يظهره ترهل الطبقة الحزبية والإعلامية وفي المجتمع المدني بما جعل الجميع لا يصدر سياسيا إلا وفق ما يرضي الحاكم أو على الأقل بما لا يغضبهكانت المطالب الشعبية في الحراك سياسية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية فلبث الناس بالملايين في الشارع لمدة أكثر من سنة إلى أن توقف لأسباب عديدة غير مباشرة وسبب مباشر ارتبط بوباء كورونا.

لم يحقق الحراك الإجماع بين النخب في كيفية تسييره ولم يتوافق النشطاء السياسيون المعارضون في كيفية استثماره وتوقيفه، واستطاع النظام السياسي الالتفاف عليه، كما هي عادته في فرص أخرى مشابهة، وأعاد بناء نفسه بنفس القواعد السابقة ورجع مركز السلطة حيث كان قبل ظهور طبقة الأوليغارشية المالية بل أشد من ذلك، ورغم الإشادات الرسمية الكبيرة ب"الحراك الشعبي المبارك" وإعطائه طابعا رسميا، رجعت الأمور إلى حالة " ديمقراطية الواجهة" من خلال التزوير الانتخابي الذي عاد بأشكال جديدة في الانتخابات التشريعية والمحلية السابقتين، ورجع الفساد في مختلف المستويات والمجالات بدون أي قدرة على محاربته لذات الأسباب المذكورة أعلاه قبل الحراك، وتراجعت هوامش الحريات في الساحة الإعلامية والسياسية، ورجع تجريم المخالفين وتخوينهم والتضييق عليهم، وكدنا نسقط مبكرا في الاحتقان الاجتماعي الشعبي بسبب تراجع أسعار البترول  قبل الحرب في أوكرانيا، ولما ارتفعت أسعار البترول بسبب الحرب رجعنا إلى السياسات الشعبوية والتسيير السياسي للاقتصاد بما يخدم الحكم والحكام والمواسم الانتخابية وليس الدولة والوطن ومواسم الهناء والرفاه للمواطنين، وأخذنا نضيع فرص التنمية من جديد ونُديم الصعوبات المعيشية لأعداد كبيرة من الجزائريين في الطبقة الوسطى، وفي الطبقات الهشة.

ومن أكثر المظاهر سوءا التي برزت ولم تكن حاضرة ما قبل الحراك هو التحكم المطلق في الطبقة السياسية وفي المجتمع وموت السياسة في بلادنا الذي يظهره ترهل الطبقة الحزبية والإعلامية وفي المجتمع المدني بما جعل الجميع لا يصدر سياسيا إلا وفق ما يرضي الحاكم أو على الأقل بما لا يغضبه، وهذا الذي نراه مثلا في عدم بروز جرأة في الطبقة السياسية على التقييم الموضوعي لنتائج الحراك الشعبي في ذكراه الخامسة، وهي حالة مخيفة إذ أن التوقف عن النهي عن المنكر  وعن الصدع بالحق من إرهاصات موت المجتمعات وتوقف الإبداع وتنامي الرداءة والفساد ثم يكون بعد ذلك الاستبدال، أو  الانفلات التام  والعياذ بالله.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الحراك الجزائري السياسة الجزائر ذكرى سياسة رأي حراك مقالات مقالات مقالات اقتصاد سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المجتمع المدنی وفی المجتمع فی المجتمع فی الطبقة

إقرأ أيضاً:

ناشط مصري: منع حرية التعبير والاحتجاج لا يبرر الخضوع الشعبي

قال الناشط السياسي المصري أحمد دومة إن التقاعس عن مناصرة الشعب الفلسطيني في ظل الإبادة الجماعية التي يتعرض لها قطاع غزة لا يرتبط بالاحتلال الإسرائيلي، بل يعكس حالة من التخاذل العربي العام. 

وأوضح أن تحميل النظام وحدها مسؤولية هذا الوضع ليس دقيقاً، مشيرًا إلى أن منعه لحرية التعبير والاحتجاج واقع قائم، لكنه لا يبرر الخضوع الشعبي لهذا القمع، قائلاً إن "التعامل مع هذا المنع كأمر مسلم به أوقف أي محاولة لتجاوزه".


 مضيفًا: "وإذا كان قمع السلطة يحمل سمات الاحتلال، فإن استجابتنا له تُعد شكلاً من أشكال الاستسلام".

وتأتي ذلك في ظل تواصل الإبادة الإسرائيلية في غزة، حيث أعلنت وزارة الصحة في القطاع، السبت، ارتفاع عدد الشهداء منذ 7  تشرين الأول/أكتوبر 2023 إلى 50 ألف و669 شهيداً، إضافة إلى 115 ألف و225 إصابة. 


وأفادت الوزارة بأن 60 شهيداً و162 إصابة وصلت إلى المستشفيات خلال الـ24 ساعة الماضية فقط، فيما بلغ عدد الشهداء منذ استئناف العدوان في 18 آذار/مارس الماضي نحو 1309 شهداء، و3184 مصاباً.

وأكدت الوزارة أن هناك العديد من الضحايا ما زالوا تحت الأنقاض وفي الطرقات، حيث تعجز طواقم الإسعاف والدفاع المدني عن الوصول إليهم بسبب القصف المستمر والحصار.

وفي ظل هذه المأساة، تتجه الأنظار إلى مصر، باعتبارها المنفذ الوحيد لقطاع غزة إلى العالم الخارجي، حيث تتصاعد الدعوات من مختلف أنحاء العالم العربي والدولي للمطالبة بإعادة فتح معبر رفح وإنهاء الإبادة الجارية.

وقد دعت لجنة المتابعة للقوى الوطنية والإسلامية في قطاع غزة إلى إضراب شامل وفعاليات ضاغطة على الاحتلال الإسرائيلي وداعميه، لوقف المجازر المرتكبة بحق سكان القطاع. 

ويكثف الاحتلال من غاراتها الجوية منذ 18 آذار/مارس مستهدفا بشكل أساسي منازل المدنيين ومخيمات النازحين.


وكانت المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى بين حركة "حماس" والاحتلال قد انتهت مطلع آذار/مارس بعد أن بدأ تنفيذها في 19 كانون الثاني/يناير الماضي بوساطة مصرية وقطرية ودعم أمريكي. 

وفي حين التزمت "حماس" بكامل بنود الاتفاق، تراجع رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن تنفيذ المرحلة الثانية، استجابة لضغوط من شركائه المتطرفين في الائتلاف الحاكم، بحسب تقارير إعلامية عبرية.

مقالات مشابهة

  • هل يؤثر عودة الحراك الجماهيري على واقع حرب الإبادة بغزة؟
  • نرجسية الطبقة الحداثية
  • اللهم نصرك الذي وعدت ورحمتك التي بها اتصفت
  • الشيخ الهجري: هناك أهمية للدور الرقابي الذي يقوم به المجتمع إلى جانب المؤسسات، في سبيل بناء وطن قوي ومتوازن
  • ناشط مصري: منع حرية التعبير والاحتجاج لا يبرر الخضوع الشعبي
  • مسرحية “بحر” تجذب جمهور المسرح في الباحة وتعزز الحراك الثقافي
  • إلهام شاهين تحيى الذكرى السادسة لوفاة والدتها «صور»
  • الناتو: ترامب ملتزم بالدفاع الجماعي بموجب ميثاق الحلف
  • رواندا تحيي الذكرى الـ 31 للإبادة الجماعية
  • في الذكرى السادسة للعدوان على طرابلس: ليبيا إلى السلام أم الانقسام؟